ما هي قراءة “حزب الله” للأبعاد السياسية لسقوط الشبكات الإسرائيلية ؟
ابراهيم بيرم
بات “حزب الله” يسلك مسلك المحقق فوزاً ظاهراً على منظومة الأمن الاسرائيلي من خلال الانكشاف السريع للشبكات وخلايا التجسس المجندة اسرائيلياً.
الحزب بطبيعة الحال يُكبر الدور الرائد للأجهزة الامنية اللبنانية الرسمية في رحلة الرصد والكشف الطويلة والشاقة لهذه الخلايا الناشطة منها والنائمة، لكنه ينظر الى الحدث من منظارين:
الاول – ان ما يحدث هو جزء من عملية مواجهة عمرها أكثر من عقدين مكتومة حيناً ومعلنة حيناً آخر بين العقل الأمني الاسرائيلي، وبين العقل الأمني لـ”حزب الله”، فإسرائيل ما فتئت منذ أعوام، تسعى جاهدة الى خرق بيئة المقاومة التي يقودها الحزب لبلوغ فضاءاته وأجوائه نفسها، وهذه عادة ما تكون شديدة السواد وحافلة بالطلاسم والاسرار العميقة، التي تشكل احدى عناصر القوة وأوراقها للحزب ولجهازه المقاوم.
ولم يعد خافياً أن الحزب، أفرز منذ زمن ليس بالقصير جهازاً وقائياً محترفاً متخصصاً برصد محاولات جهاز الموساد الساعي ابداً الى الاختراق والعبث في المدى الجغرافي الذي كان في السابق صعب المنال على الاسرائيلي.
وعليه صار معلوماً لدى الجميع ان “المواجهة الامنية” بين اسرائيل من جهة والحزب من جهة أخرى تشتد إواراً وتعلو على ما عداها، في كل مرة تخفت فيها أو تختفي المواجهة في الميدان، فالحرب بينهما سجال واللعبة الامنية تكون بالعادة تعويضاً لفقدان فرص المواجهة وسداً للفراغ الممنوع في نوع كهذا من الصراعات المحتدمة والطويلة الأمد.
الثاني – ثمة تقويم صار حاضراً لدى دوائر الحزب المعنية فحواه ان غالبية ما استطاعت اليد الاسرائيلية حياكته في مجال صنع الخلايا والشبكات. أوشك ان يتهاوى، وينفرط عقده خصوصاً في ظل معلومات تؤكد وقائع اساسية عدة:
– ان عديد العملاء المعتقلين أو الفارين قد تجاوز العشرين شخصاً حتى اليوم.
– ان الاجهزة الامنية الرسمية وأجهزة الحزب تتوقع أن يصل عدد المشتبه في ارتباطهم في شكل أو آخر بهذه الخلايا والشبكات الى ما يقرب من مئة شخص.
– ان اسرائيل مضطرة على عجل الى اجراء يحمي رؤوس هذه الخلايا والشبكات أو العناصر الخطرة والاساسية فيها، لذا لجأت للمرة الاولى ليل الاحد الماضي الى فتح بوابتين حدوديتين كانت أقفلتهما وأوصدتهما تماماً منذ مغادرة قواتها في ايار عام 2000، بغية تأمين انتقال بعض عملائها، وهذا إجراء له مغزى وبُعد سياسي وأمني كبير يدل على ان اسرائيل مضطرة الى إظهار نفسها في ميدان المواجهة الامنية، وانها ليست في وارد “حرق” كل شبكاتها في لبنان وابقاء “رؤوس جسور” للعبور مجدداً الى الساحة اللبنانية.
ومع انها ليست المرة الاولى تدور فيها رحى معركة مواجهة أمنية بين اسرائيل من جهة، ولبنان بأجهزته الامنية الرسمية وأجهزة المقاومة المعنية من جهة أخرى، فمما لا ريب فيه ان للدوائر المعنية بالحزب قراءة وتقديرا للموقف كله، ينطوي على معطيات ووقائع متطورة في العقل الامني الاسرائيلي المكلف باللعب في الملعب اللبناني، هي وقائع مستجدة وغير مألوفة مقارنة بالسابق وأبرزها:
1 – ان العقل الاسرائيلي بات يركز عمله واختراقاته على بيئة أكثر من سواها، هي البيئة الشيعية بدليل ان أكثرية المعتقلين بتهمة الانتماء الى الخلايا والشبكات هم من الشيعة، أو من بيئات تشكل ممرا للمقاومة.
2 – ان ثمة تركيزا على شخصيات ووجوه لها حضورها الاجتماعي والسياسي المؤثر في بيئته، مثل علي منتش المحسوب على جهة سياسية جنوبية، والذي يؤدي دوراً دينياً واجتماعياً محترماً من خلال عمله “معرّفا” للحجيج والمنظم رحلات لمن يودون أداء مناسك الحج والعمرة، وهو من موقعه هذا يمكنه ان يؤدي دوراً في تغذية وتأجيج الخلافات الشيعية – الشيعية.
ومثل آخر هو زياد الحمصي الذي يعلم الجميع انه ذو حضور اجتماعي لافت في بيئته من خلال تاريخه في المقاومات ضد اسرائيل قبل عام 1982، ومن خلال دوره السياسي والاجتماعي في بلدته سعدنايل لاحقاً، وهو من موقعه هذا يمكنه الاضطلاع بدور في الصراع السني – الشيعي.
3 – تكليف اسرائيل عملاءها الجدد مهمات متطورة ونوعية تقتضي جهداً كبيراً في معرفة رموز المقاومة وقادتها الميدانيين ومعرفة المواقع والشيفرات والتحركات، وهذه المهمات الصعبة تستلزم لتنفيذها وادائها أناساً ذوي حضور مهم في بيئتهم، وتقتضي ايضاً دربة وخبرة ومعرفة بالآلات والتقنيات العالية خصوصاً في مجال الاتصالات والشيفرات، وليس في مجال التفجير والاغتيال فحسب كما كان يحصل في السابق.
4 – يستنتج العقل الامني لـ”حزب الله” ان الاسرائيليين كانوا على عجلة من أمرهم في بعض الأحيان، اذ كان يهمهم تجنيد الخلايا والشبكات المتعددة في اسرع وقت، خصوصا في مرحلة ما بعد حرب تموز، ومن دون التركيز على نوعيات العناصر المجندة واعمارها، لأنه تبين لهم فجأة في خلال حرب تموز عام 2006 انهم صاروا كأنهم في حالة غياب شبه كلي عن تفاصيل الوضع اللبناني الداخلي، مما جعلهم في العلم العسكري والامني في حالة يطلق عليها عادة “حالة العتمة او العمى” وهو أمر أقرّت به اسرائيل واعتبرته ثغرة من ثغر مواجهتها للحزب والمقاومة في ذلك العام.
لذا لم يكن غريبا ان يجاهر قادة حاليون وسابقون في جهاز “الموساد” الاسرائيلي برغبتهم المعلنة في البقاء والحضور الامني في ساحة النار مهما كلف الأمر، واعتبار الأمر ضرورة وجزءاً لا يتجزأ من “دائرة الامن الاسرائيلي”.
5 – الملاحظ ان اسرائيل اختارت اكثر من عميل ومتعامل لمهمة واحدة وفي دائرة واحدة وفي وقت واحد، وكانت الغاية من هذا التطور غير المألوف في عالم التجسس هو الحصول على اكبر قدر ممكن من المعلومات ومقاطعتها بعضها مع بعض، من دون ان يكون هناك اي ترابط أو معرفة بين الشخصين العاملين في دائرة جغرافية واحدة.
وعلى رغم ان دوائر الحزب الامنية تعكف منذ مدة وبالتحديد منذ اكتشاف خلية الاخوين الجراح التي كان مجال عملها في البقاعين الغربي والاوسط، على درس أبعاد “التجربة” الامنية الاسرائيلية الجديدة، لمعرفة المستجد او المتجدد فيها استعداداً لجولة مقبلة ولا ريب من جولات المواجهة، فان السؤال المطروح بإلحاح على عناصر القضية برمتها هو لماذا اماطة اللثام اليوم عن هذه الخلايا والشبكات مع انها تفعل فعلها وتقوم بدورها منذ أعوام مديدة؟
تقر الدوائر المعنية بالموضوع لدى الحزب بأمرين رئيسيين في مجال الحديث عن هذه المسألة المثارة.
الاول: ان الاسرائيليين افادوا الى حد بعيد من حالة الاصطفاف السياسي وتشرذم الحال وانقسام المؤسسات المعنية على ذاتها في الاعوام الأربعة الماضية نتيجة هذا الاصطفاف، بل وانشغالها في بعض الاحيان بعضها ببعض، وبالتالي وجدوا ارضا سهلة لزرع نواة الشبكات وبذور الخلايا والتسلل الى مناطق كانت محرمة عليها في السابق.
الثاني: ان ثمة خيوط تعاون وجسور تواصل بدأت في المدة الاخيرة، وبالتحديد التطورات والتحولات السياسية التي فرضت نفسها بعد احداث السابع من ايار من العام الماضي، بين جهاز أمن المقاومة وأجهزة أمنية رسمية ساهمت في تبادل المعلومات والخبرات وبالتالي أفضت ولا ريب الى هذه النجاحات الجلية في مجال اكتشاف الخلايا وكشف الشبكات المتعاملة والعميلة.
ولا تقلل الدوائر نفسها من الكلام الذي انتشر اخيراً وجوهره ان الحزب سلم الى الاجهزة الرسمية المعنية كل ما في حوزته من معلومات وما في جعبته من وقائع عن هذه المسألة.
وليس ثمة من في مقدوره انكار ان هذا الامر ما كان ليتم من جانب الحزب لولا انه استوثق أخيرا من الجهاز الامني الذي كان في نظره محسوباً على جهة معينة، وأنشئ لخدمة توجهات داخلية معينة، والذي يريد ان يقدم عملياً ما يثبت رغبته في تغيير الصورة النمطية المشكّلة عنه وعن دوره، تأسيساً لما هو آت من التطورات والتحولات السياسية.
هل خلاصة الامر ومحصلته ستفضي الى انسحاب أمني اسرائيلي من الساحة اللبنانية؟
أي تحليل يؤدي الى تكريس هذه النتيجة وتعميمها هو تحليل بدائي وسطحي، ولكن الثابت انه يتعين على اسرائيل أن تبذل جهوداً مضنية وتحتاج الى وقت طويل كي تعوّض هذه الخسارة التي منيت بها اخيراً، وهي بالطبع لن تصاب باليأس والقنوط.
النهار