مفارقات الانتخابات البرلمانية في لبنان
حسن الحسن
إثر حرب طاحنة استمرت منذ عام 1975 إلى 1989م “تنازل” مسيحيو لبنان عن بعض امتيازاتهم التاريخية، من ضمنها قبولهم بتوزيع مقاعد مجلس النواب مناصفة بينهم وبين المسلمين (كما ورد في اتفاق الطائف). تكمن المفارقة هنا بأن عدد المسيحيين في لبنان يبلغ حوالي الثلث فقط، مما يعني أن عدداً لا بأس به من نوابهم سيصبحون أعضاء في البرلمان باسم الناخبين المسلمين ليمثلوا المسيحيين! فالمجتمع اللبناني يلغي المواطن لصالح الطائفة بحسب منظومة ثقافية وسياسية سائدة ف يه. لا شك بأن هذه مفارقة، إلا أنها ليست الوحيدة.
فكل الصخب الدائر حول الانتخابات اللبنانية المزمع إجراؤها في 7 حزيران 2009م لا يتعدى كونه زوبعة في فنجان. إذ لن يتمكن أحد التيارين المتنافسين (8 أو 14 آذار) الحصول على أكثرية تؤهله حكم لبنان منفرداً بأريحية، ولو افترضنا جدلاً حدوث مثل هذه الأكثرية، فإنّها لا معنى لها في بلد قوامه (كما ذكرنا) الطائفة لا المواطن، حيث أن انسحاب أي فريق وزاري يمثل طائفة ما من الحكومة يجعلها غير ميثاقية وغير دستورية بحسب الصيغة اللبنانية.
أضف إلى ذلك أنّ مكونات كل من التيارين المذكورين غير متجانسة تماماً، واجتماعها سوية في تيار واحد أقرب إلى اللقاء التكتيكي منه إلى التحالف الاستراتيجي (رغم ادعائهم العكس)، ما يعني أن انتقال البعض من ضفة سياسية إلى أخرى بعد الانتخابات أمر محتمل، بل ومتوقع، لا سيما أنَّ التقلب في مواقف ساسة لبنان أمر معهود جداً (خير مثال ما حصل في انتخابات 2005م). فضلاً عن هذا، فإنّ حكم لبنان يبقى في نهاية المطاف رهن التوافق الداخلي الذي يتبع سلباً وإيجاباً التوافق الخارجي.
من هنا فإنّ الحديث عن قدسية المشاركة في الانتخابات وزعم أنّها مصيرية وهمٌ خالص، إذ أنّ جلَّ ما ستقدمه هذه الانتخابات هو إعادة تقديم الوضع القائم مشتملاً على التوجهات المعروفة والأسماء التي استأثرت بالتمثيل السياسي للطوائف اللبنانية خلال ردح طويل من الزمن، وكثير من هذه الأسماء عناوين واضحة للقتل والفساد والخراب والتاريخ المظلم والمشين. والحق، أنّه لا جديد يذكر في هذا السباق الانتخابي سوى إثارة النعرات الغرائزية والعصبية والطائفية المقيتة على نحو غير مسبوق.
أساس المشكلة
بدأت المشكلة منذ اقتطاع فرنسا عام 1920م بعض المناطق المحيطة بمتصرفية جبل لبنان وإلحاقها به من أجل إنشاء كيان “لبنان الكبير” كي يحقق لفرنسا رؤيتها الاستعمارية للمنطقة. إلا أنّ عملية القطع والإلحاق تلك أدت إلى تكوين فسيفساء طائفية لا يمكن أن يستقيم معها إقامة دولة متجانسة. وقد زاد الأمر سوءاً الطبقية الطائفية بعد أن مُنِحَ الموارنة امتيازات جعلت منهم أسياداً لهذا البلد، وجعلت كل من سواهم مواطنين من الدرجة الثانية أو الثالثة.
أدى هذا الواقع إلى ظهور تناقضات أنتجت وضعاً غير مستقر في لبنان، حيث سعت الطوائف المختلفة إلى كسر الهيمنة المسيحية (المارونية تحديداً) المطلقة على مقدرات هذا البلد وتوجهاته في السياسة والاقتصاد والإعلام، فيما حاولت الأخيرة الدفاع عن امتيازاتها بشراسة، بخاصة أنها تعتبر نفسها الأكثر تقدماً على كافة الصعد، وأنّه لا معنى لبقاء “لبنان الرسالة” أصلاً إلا بقدر بقائه مقترناً بالهوية المسيحية، فهو البلد الوحيد الذي يحكمه المسيحيون في الشرق الإسلامي كله.
وهكذا افتقد المواطن في لبنان معنى الانتماء إلى الكيان اللبناني الجامع. فقد تركز تعريف المواطن فيه بهويته الطائفية التي تحدد طبيعة دوره وموقعه في المجتمع ومستقبله السياسي في الدولة، كما كانت كل طائفة فيه تستمد هويتها من شيء ما خارج هذا الكيان. لهذا كانت الدولة في لبنان أقرب منها إلى شركة مساهمة، يحاول كل شريك (طائفة) تأكيد حصته فيها مع محاولة زيادة أسهمه منها متى أمكنته الظروف من ذلك.
سهلت تلك التركيبة الهشة لكيان الطوائف في لبنان اختراق الدولة فيه تحت ذرائع شتى للتأثير في الوجهة السياسة لهذا البلد وتغييرها في سياق الصراع على المنطقة بين الدول الإقليمية المرتبطة بدورها بمشاريع الدول الكبرى. تلك التي قامت في أحيان كثيرة باقتحام الشأن السياسي اللبناني ببجاحة قل نظيرها من غير داع للوسيط الإقليمي نفسه.
وهكذا أخفق لبنان كدولة، فالمجتمع غير متجانس، والطائفية السياسية القائمة على المحاصصة والمحسوبيات جعلته مرتعاً للفساد بكافة أشكاله، كما مزقته إرباً وجعلته إلى الدويلات أقرب منه إلى الدولة الواحدة، في أجواء صراع داخلي حاد لا يكاد ينقطع بين مكوناته، وفي ظل تنافس شديد عليه من جانب قوى إقليمية ودولية.
واقع الشعارات
ترتفع شعارات براقة كثيرة في معمعة الانتخابات اللبنانية، مصورة أنها انتخابات مصيرية ستحدد مستقبل لبنان تحت شعار الحرية والسيادة والاستقلال، أو تحت لواء محاربة الفساد وبناء دولة المقاومة. فيما يدرك الفرقاء المتخاصمون أنّ مهمة هذه الانتخابات هو تحديد أحجام القوى الممثلة للطوائف في لبنان أكثر من أي شيء آخر. فقرار لبنان بشأن قضاياه المختلفة وحول مصيره لا يصنع فيه، ولهذا لا يمكن أن يدعى بحال بأنّ فوز التيار الفلاني سيؤدي إلى تحقيق تلك الشعارات الكبيرة.
هكذا كان لبنان وهكذا سيبقى في ظل المعطيات القائمة إلا عند بعض هواة السياسة الواهمين. فطبيعة التركيبة الطائفية السياسية المعقدة في لبنان وارتباط كافة القوى السياسية الفاعلة فيه بالخارج، لا تؤهله للحصول على الحرية والسيادة والاستقلال. كما أنّ محاربة الفساد فيه يعني تفكيك الدولة القائمة على نظام الامتياز الطائفي والمحاصصة والمحسوبية وإعادة تركيبها من جديد على أسس مغايرة، وهذا خلاف المنطق المغلوط المتحكم في لبنان والمتوافق عليه داخلياً وخارجياً بشأنه.
كما يستحيل كذلك إقامة دولة المقاومة في بلد كانت بعض مكوناته الأساسية أعجز من أن تتحمل نجاح مكون آخر على تحرير الأرض ومواجهة عدوان “إسرائيل” ورده على أعقابه ببسالة مشهودة. فالمعادلة الطائفية في لبنان تعتبر أي إنجاز قام به “الآخر” اللبناني عبئاً على البلد ككل، ولذلك فإنه يحاول جاهداً تحويل ذاك الإنجاز إلى نقيصة ليحول دون استثماره داخلياً بشكل يؤدي إلى خلخلة التوازنات القائمة.
بداية الحل
في خضم هذه التعقيدات، فإنَّ بداية أي حل عملي جاد في لبنان لا يمكن أن ينطلق من معطيات الواقع القائم بتاتاً. ولذا لا بد من التفكير في إعادة صياغته بعيداً عن المنطق الاستعماري الذي أوجده. فلن ينعم لبنان بالأمن أو الاستقرار ما لم (أ) يتخلص من التبعية المزمنة للدول الكبرى (ب) يكف زعماؤه عن اعتباره كعكة يتقاسمونها فيما بينهم (ج) تتوقف محاولات تغريبه المتعاقبة القائمة على مغالطة واضحة باعتباره (رغم كل حروبه وآلامه ومآسيه وفشله) نموذجاً يجب أن يحتذى في العالم العربي.
فلبنان منذ أن نشأ لم يحمل من الغرب إلى العالم الإسلامي سوى الروح المتعجرفة المتعالية الملقحة بعنصرية مقيتة تنظر إلى شعوب المنطقة بدونية واضحة، إضافة إلى كونه محطة لبث الفوضى والاضطراب، وجسراً لعبور الثقافة الاجتماعية المتناقضة مع أعراف ومفاهيم وقيم أهل هذه المنطقة المنبثقة عن الإسلام وحضارته الشاملة وهويته المتميزة. لذلك كان لا بد من استعادة هوية لبنان التي تنبع من محيطه الذي ينتمي إليه جغرافياً وتاريخياً وثقافياً، باعتباره جزءاً لا يتجزأ من المشرق الإسلامي ومن حضارته وتاريخه وآماله وتطلعاته .
القدس العربي