الطائفية في العراق… هل اخترعتها أميركا؟
حازم صاغية
من يقرأ كتابات الممانعين عن العراق ووضعه الطائفيّ المؤلم يُخيّل إليه أن الولايات المتّحدة هي التي اخترعت الطائفيّة وعنفها هناك. وتلك “التحليلات” إنّما تجمع بين العداء الأعمى للولايات المتّحدة (مع أن أشياء كثيرة فيها تستحقّ العداء) وبين ثقافة الإنكار والتنصّل من المسؤوليّة الذاتيّة المرفقة دوماً بتجميل الذات ورسم صورة ورديّة عنها
والحال أن الطائفيّة في العراق (وفي لبنان والسودان وغيرهما من البلدان العربيّة) لم تولد مع دخول القوّات الأميركيّة إليه. صحيح أنها لم تكن مرئيّة هناك، إلاّ أن نظام صدّام كان يحجب بالقوّة كلّ ما عداه وما عدا الإيديولوجيّة التي يحملها. هكذا كبت النظام البعثيّ التعبيرات الطائفيّة كبتاً، فحين أزاحت القوّات الأميركيّة النظام المذكور طفا على السطح الوعي المكبوت وانفجر مثل الفضيحة في وجوهنا.
ويعرف دارسو العراق الحديث أن عمل الدولة هناك، بعد الاحتلال البريطانيّ في 1919- 1920 بدأ محفوفاً بصعوبات هائلة. ففي 1920 وفي محاولة لنزع سلاح العشائر، جُمع في منطقتي مدينتي بغداد والبصرة وحدهما خمسون ألف بندقيّة، وفي خريف العام نفسه جُمع من رجال العشائر ستون ألفاً. ثم في 1932، سنة نيل البلد استقلاله، قدّر الملك فيصل وجود مئة ألف بندقيّة في أيدي العشائر بينما لم يكن في يد الجيش والشرطة معاً أكثر من 15 ألف بندقيّة. وهذا، من الأساس، واقع يمكّن العصبيّات الأهليّة على حساب الدولة. لكنْ قبيل وفاة الملك المؤسّس فيصل الأوّل طرأ تطوّر خطيAر تمثّل في مذبحة الآشوريّين، وهو العمل الذي ارتبط باسم بكر صدقي، الضابط الذي ما لبث، في 1936، أن نفّذ أوّل انقلاب عسكريّ ناجح في العالم العربيّ. وكان هذا إشارة مبكرة إلى وجود ميول تطمح إلى تجاوز التفتّت الاجتماعيّ بالحلّ العسكريّ المفروض من أعلى، (وهو الاتّجاه الذي وجد تتويجه اللاحق مع صدّام).
ولم تحُل الخطابيّة القوميّة العربيّة عن “الأخوّة” دون تفجّر العداوات والنزاعات على أسس طائفيّة وإثنيّة. فكما حصل في سوريا والأردن حصل في العراق، لجهة تذمر العراقيّين من بروز سوريّين ولبنانيّين في إدارة فيصل.
وفي مقابل علاقات مضطربة مع الأكراد، في ظلّ “الملك” محمود الحفيد وبعده، اتّسمت الدولة العراقيّة الحديثة بصراع وتنافس سنيّين- شيعيّين لا يكادان يهدآن حتّى يؤجّجمها التوتّر. ففي 1927 صدر كتاب اللبنانيّ أنيس النصولي الذي كان يدرّس في بغداد، “الدولة الأموية في الشام”، فكان لتمجيده الأمويّين أن أثار التململ في أوساط الطلاّب والمعلّمين الشيعة، كما حُرّكت مسألة توظيف عرب غير عراقيّين بسبب النصولي، كما بسبب ساطع الحصري، الذي كان مدير التعليم العام بين 1923 و1927. فالمنظّر القوميّ العربيّ والحلبيّ الأصل الذي رافق فيصل الأوّل من دمشق إلى بغداد، حيث احتلّ مناصبه التربويّة والتعليميّة، اتُّهم بممارسة التعالي والاستهجان بحقّ وزراء التعليم من الشيعة، فيما مقته الأخيرون خصوصاً بسبب تعاليه القوميّ على الخصائص المحليّة وتضييقه على مؤسّسات التعليم في مناطق الشيعة. وفيما كان الحصري شديد الحماسة لمركزة القرار التربويّ انطلاقاً من بغداد، كانوا هم مع نوع من اللامركزيّة التعليميّة. ودائماً سار التشكيك بعروبة الشيعة والغمز من “فارسيّتهم” في مقابل الغمز من قناة “تركيّة” الأسر السياسيّة السنيّة والتوكيد على تفوّق الشيعة في العروبة. كذلك ففي العام نفسه، 1927، فصل الحصري الشاعر العراقيّ الشيعيّ محمّد مهدي الجواهري من التعليم الابتدائيّ متّهماً إيّاه بالولاء لإيران، بينما اعترض قادة وشيوخ العشائر والساسة الشيعة على “قانون الدفاع الوطنيّ” للخدمة العسكريّة، واستقال أحد وزرائهم كما تشكّلت جبهة لمعارضة القانون، خصوصاً في ظلّ التذمّر من ضعف، بل انتفاء، الحضور الشيعيّ في سلك الضبّاط، فكان أن سحبت الحكومة مشروع القانون من البرلمان.
وفي صيف العام ذاته، وقعت صدامات بين شيعة يمارسون مراسم عاشوراء وقوّات الأمن قتل فيها عدّة مدنيّين وجنود وجُرح أكثر من مئة. وبالمناسبة، ظهرت محاولات شيعيّة لدفع البريطانيّين إلى استئناف حكمهم المباشر للبلد بديلاً من الهيمنة السنيّة عليه. وقبل الاستقلال وبعده تصاعدت أصوات شيعيّة غير هامشيّة تطالب بإعادة توزيع المناصب في السلطة والإدارة، وقد تطوّر الأمر في 1932، بحيث وصف أصحاب تلك الأصوات الحكومة بأنها “حكومة احتلال” وأبدوا الاستعداد لمقاومتها، خصوصاً مع نشر نتائج الإحصاء البريطانيّ أواخر ذاك العام والذي قضى بأنّهم أكثريّة سكّان العراق. ثم في 1933 أصدر الكاتب السنّـيّ عبد الرزاق الحصّان كتاب “العروبة في الميزان” آخذاً على الشيعة توجّهاً فارسيّاً وعدم قدرة على المواءمة بين ولائهم الطائفيّ وعروبتهم. وقد رأى بعض كُتّاب الشيعة أن الكتاب وُضع بإيعاز من ساطع الحصري. واستمرّت المطبوعات والكتب الرسميّة تؤكد العروبة في مقابل توكيد المجتهدين الشيعة على الوحدة الإسلاميّة وأهميّة “ثورة العشرين” في تشكيل الوطنيّة العراقيّة.
وقد أزاح رحيل فيصل الأوّل صمّام أمان وضرب الرهان على تحوّلات سلميّة وهادئة كان الملك المؤسس يوحي بها لمصلحة الشيعة. ففي انتخابات 1934، اتُّهمت الحكومة بالتدخّل وإسقاط بعض الوجوه من الشيعة، فضلاً عن إعطاء مقاعد شيعيّة للسنّة، ما أطلق تحرّكاً للعشائر والشيوخ أدّى إلى إسقاط حكومة علي جودت الأيوبي في فبراير 1935. ثم، وتحت التهديد بانتفاضة، سقطت حكومة جميل المدفعي، إذ استقالت في 15 مارس من العام نفسه، وكُلّف ياسين الهاشمي بتشكيل حكومة تولّى فيها رشيد عالي الكيلاني وزارة الداخليّة. ومجدّداً، ارتفعت في وجه هذه الحكومة وقطبيها القوميّين العربيّين مطالبات الشيعة بالمساواة وتدريس الفقه الشيعي في كليّة القانون، كما أصدر المرجع الشيعيّ محمد الحسين كاشف الغطاء فتوى بهذا المعنى. وحاول الهاشمي كرئيس للحكومة منع مواكب محرّم، وانزاح الوضع برمّته إلى حافّة الانفجار المسلّح. وبالفعل ففي 6 مايو، وبعد اعتقال رجل دين شيعيّ، ثارت بضع عشائر وأُعلنت أحكام عرفيّة، كما قصف الطيران العراقيّ لواء الديوانيّة قبل أن تنضمّ عشائر سوق الشيوخ والناصريّة إلى التمرّد، فقُطع خطّ سكّة الحديد بين البصرة والناصريّة وتمّ احتلال مدينة سوق الشيوخ. وإذ أبدت حكومة الهاشمي استعدادها للتفاوض فإنّها ما لبثت أن غلّبت الخيار العسكريّ لإخضاع المتمرّدين.
وفي الأربعينيات والخمسينيات، مع تزايد أعداد المتعلّمين الشيعة، تزايدت حساسيّتهم حيال القيادة السنيّة للدولة. وإذا كان غير العراقيّين من السنّة، كالحصري والنصولي، يثيرون استياء الشيعة، فإن القلّة من غير العراقيّين الشيعة كانوا يثيرون استياء السنّة العراقيّين. وكان أبرز هؤلاء اللبنانيّ الشيعيّ رستم حيدر الذي استهوته القوميّة العربيّة منذ شبابه وتطرّف في التعبير عنها فالتحق بفيصل في دمشق ثم استقرّ به الأمر، معه، في بغداد. فرستم الذي شغل الوزارة مرّات عدّة اغتيل في 1940، بما جدّد هزّ الإجماع اللفظيّ على العروبة والوطنيّة العراقيّة.
وفي 1941 وقع الانقلاب الثاني الذي تعاطف ضبّاطه مع ألمانيا النازيّة، بزعامة رشيد عالي اللكيلاني رئيس الحكومة. وفي قمع ذاك الانقلاب تكبّد البريطانيّون ما يزيد قليلاً عن مئة قتيل بينما قُتل 497 عراقيّاً وجُرح 686 وفُقد 548.
صحيح أن العراق مرّ في فترات انفراج شهدت إجراءات ديمقراطيّة نسبيّة، كتلك التي عبّرت عنها حكومة توفيق السويدي في 1946، بعد الحرب العالميّة الثانية واستقطابها، حيث أغلقت السجون ووُسّعت حريّة الصحافة وأجيزت خمسة أحزاب في عدادها “الحزب الوطنيّ الديمقراطيّ” بقيادة كامل الجادرجي. لكن هذه الحالات بقيت هوامش قياساً بمتن الفوضى التي تؤجّجها الضدّيّة في شكليها: المباشر، ضدّ الغرب، على شكل مطالبة ملحّة باستقلال كامل وفوريّ، والمداور الناجم عن منافسات الجماعات الداخليّة التي تحوّر نفسها في المزايدات الضديّة. ففي 15 يناير 1948، وقّعت الحكومة البريطانيّة مع حكومة بغداد ما عرف بمعاهدة بورتسموث المتعلّقة بتنظيم وتمديد الوجود العسكريّ البريطانيّ في العراق. وانطلقت تظاهرات شعبيّة واسعة معارضة للمعاهدة سمّتها الأدبيّات الوطنيّة العراقيّة بـ”الوثبة”. لكنْ مثلما تحوّل الاعتراض على معاهدة 1936 البريطانيّة- المصريّة في أحد وجوهه اعتراضاً على الأقباط، تحوّل الاعتراض على معاهدة 1948، في وجه منه، اعتراضاً على الشيعة. ذاك أن رئيس الحكومة يومذاك كان الشيعيّ صالح جبر الذي كان أوّل شيعيّ يرأس الحكومة في بغداد. هكذا استقالت حكومة “الخائن” جبر ليشكّل الحكومة شيعيّ آخر ينتمي إلى إحدى العائلات الدينيّة، وهو محمد الصدر الذي لا يرقى الشكّ إلى شيعيّته وشيعيّة أسرته، فضلاً عن كونه من نشطاء “ثورة العشرين”. وكان المطلوب من الصدر أن يتولّى هو محو ما اتُّهم جبر بفعله. وهذا جميعه حصل قبل عقدين على استيلاء “البعث” على السلطة وقبل عقود عديدة على دخول القوّات الأميركيّة.
الاتحاد