انتخابات لبنان: السيرك الدولي
سعد محيو
غريب حقاً أمر هذا ال”لبنان”!
هو من تحت سيرك يختلط فيه الحابل بالنابل، والمهرجين بالمتفجرين، والوحوش الضارية بالأطفال الأبرياء، ومن فوق (في هيئة الحوار الوطني في قصر بعبدا) كيان عقلاني، حضاري، لا ينبث قادته إلا بالحكمة والموعظة الحسنة
من تحت تجري الحملات الانتخابية “تحت الزنار”، فيتبادل المرشحون السباب والشتائم والاتهامات، وتهرق الأموال بغزارة مذهلة (أكثر من بليوني دولار من الأموال الخارجية) على الصور العملاقة، وشراء الأصوات، وإحضار الناخبين من أقاصي الأرض مجاناً، ومن فوق يجري الحديث عن ضرورة التعاطي ب”شكل حضاري” مع العملية الانتخابية ونتائجها، ويتفق قادة الطوائف والمذاهب في بعبدا على مستقبل هيئة الحوار والتصورات المطروحة شكلاً ومضموناً لجهة إمكان تطويرها، أو توسيعها، أو تغيير تركيبتها، أو اضافة بنود جديدة إلى جدول أعمالها.
إنه الصيف والشتاء، الفضيلة والرذيلة، الديمقراطية المزيفة والحقيقية، تحت سقف واحد. ولو أن هذا الذي يجري يحدث في أي بلد آخر في العالم، لكانت نسبة الاقتراع ستتراقص على مشارف الصفر.
لكن هذا لبنان، حيث الناخبون لا ينتخبون الأفضل بل الأكثر عدوانية ضد الطائفة أو المذهب الآخر، ثم تأتي بعد ذلك الرشاوى الانتخابية العينية (تزفيت الطرقات أساساً) أو حتى شراء الأصوات مباشرة (الصوت في زحلة يقترب من حدود الألف دولار) ليزيّن كل هذه الحروب الطائفية الباردة بالألوان الديمقراطية الجميلة والمزركشة.
ومع ذلك، وعلى رغم كل هذا العبق الخانق لهذه التمثيلية الديمقراطية الزائفة، تتعاطى القوى العظمى والإقليمية الكبرى مع هذه الانتخابات وكأنها ستغيّر مصير العالم، فيترك نائب الرئيس الأمريكي بايدن كل هموم الكارثة الاقتصادية والعلاقات مع الصين وأوروبا وروسيا، ويهرع إلى هذا البلد الصغير ليرغي ويزبد ويعلن من هناك قلق أمريكا من “نتائج سلبية” ما للانتخابات. هذا في حين كان الرئيس الإيراني أحمدي نجاد يعرب عن اعتقاده بأن نتائج الانتخابات اللبنانية “ستغّير” وجه المنطقة، وتُلقي دول عربية غنية بكل ثقلها في لبنان لتغليب فئة على أخرى.
لماذا الانتخابات اللبنانية مهمة إلى هذه الدرجة دولياً؟ ليس بالتأكيد لأنها تشكّل النموذج الديمقراطي الذي كانت إدارة بوش تريد تعميم تجربته على باقي الدول العربية، ولا لأنها بالطبع النموذج الإسلامي الذي تريد إدارة نجاد تقديمه إلى العالم العربي، بل لأن هذه الانتخابات هي مرآة حقيقية لموازين القوى الإقليمية والدولية في الصراع الراهن في الشرق الأوسط. فإذا ما ربح فيها تيار 8 مارس/آذار، سيكون في وسع طهران ودمشق وحلفائهما القول بأن شعوب المنطقة تميل إلى مشروعهما المستند إلى المقاومة، وهذا ما سيعطيهما أوراق ضغط معنوية مهمة في الحوار مع واشنطن. وبالمثل، إذا ما فاز تيار 14 مارس/آذار، ستقول الولايات المتحدة وحلفاؤها بأن شعوب المنطقة تريد الاستقرار والسلام، وعلى الأطراف الإقليمية الرضوخ إلى هذه الإرادة.
بكلمات أوضح: الانتخابات اللبنانية هي انتخابات إقليمية دولية بامتياز، لكن أكثرية اللبنانيين لايعلمون لأنهم غارقون في أحقادهم الطائفية، وغرائزهم المذهبية، ونزعاتهم الزبائنية نحو القوى الخارجية.
هكذا كان حال لبنان منذ منتصف القرن التاسع عشر، حين استخدمت الدول الأوروبية الكبرى آنذاك دماء الطوائف اللبنانية لتدمير النظام الإقليمي العثماني وإقامة نظام جديد مكانه في الشرق الأوسط. وهذا ما تفعله الدول الكبرى الحالية الآن للغرض نفسه، مستخدمة أصوات الطوائف اليوم وحتماً دمائها غداً.
غريب أمر هذا ال”لبنان” أجل. واللبنانيين أيضاً!
الخليج