أوباما وأحجية الحقوق المدنية
هيثم مناع
لا تحاول هذه الأسطر مطالبة الرئيس الأميركي بما لا طاقة له به أو ما لا يشكل قناعة شخصية عنده، أي الخروج من المقاربة الأميركية لحقوق الإنسان إلى القراءة العالمية لهذه الحقوق. فانتخاب رئيس أميركي جديد لم يكن في يوم من الأيام ثورة في الأوضاع.
تتناول هذه الأسطر الحقوق المدنية، أي العنوان الأكبر لكل حركات الإصلاح الديمقراطي والحقوقي داخل الولايات المتحدة في الأزمنة الحديثة
فكون الولايات المتحدة لم تصادق على “العهد الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية” وترفض الاعتراف بحق التنمية، ولم تصادق على أهم اتفاقيات حماية البيئة، كما لم تصادق بعد على “اتفاقية إلغاء أي شكل من أشكال التمييز بين الجنسين” (CEDAW) أو على “اتفاقية حقوق الطفل”، وقاطعت المحكمة الجنائية الدولية، وربطت تصديقها على العهد الخاص بالحقوق المدنية والسياسية بالتحفظ على الفقرة الخامسة من المادة السادسة (التي تنص على منع حكم الإعدام للأطفال).. يمكن أن نقول دون مبالغة، إن الإدارات الأميركية المتعاقبة غربلت القانون الدولي لحقوق الإنسان على أساس قراءة خصوصية محلية أميركية.
كما سبق أن أوضحت، يعود ذلك إلى أكثر من عامل بنيوي ووظيفي، فقد امتزج بناء دولة القانون الأميركية بتداخل بين الاستقلال ومفهوم السيادة من جهة، والدفاع عن الحريات الأساسية وحقوق وواجبات المواطن من جهة ثانية.
وانعكس ذلك بشكل كبير على علاقة الدولة الأميركية بالمؤسسات الدولية، وبالتالي رفضت الانتساب لعصبة الأمم، وكانت أكثر دولة دائمة في مجلس الأمن تستعمل الفيتو، ووراء أكثر من 80% من العقوبات الاقتصادية في العالم.
اعتادت مؤسسات الأمم المتحدة ومعظم دول العالم على فكرة رديئة تقول بأن للدولة العظمى ما ليس لغيرها، ليس فقط على صعيد الثروة والقوة، وإنما أيضا في تعاملها مع الحقوق والحريات.
هذه القراءة “الخصوصية” لحقوق الإنسان تنعكس سلبا على عالمية حقوق الإنسان، لأن خصوصية القوى الكبرى هجومية، أي تدخلية وطامحة لفرض تصورها على الآخر، بمعنى سيطرة الجزء على الكل.
لذا لا نستغرب أن تكون الخصوصية الأميركية هذه سببا مباشرا أو غير مباشر لتعزيز خصوصيات أخرى، خاصة أنها لم تمتلك القدرة على الموازنة بين القوة المالية والعسكرية والتقنية من جهة، والدفاع عن المرتكزات القيمية للحضارة الغربية من جهة ثانية.
غير أن الحريات المدنية تعطي هوامش واسعة لارتقاء الفكر الحقوقي ووسائل الدفاع عن المواطنة ودولة القانون. ورغم الآليات الأميركية الفريدة من نوعها للتصديق على الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان (والتي يوضحها كينيث روث في واحدة من أهم مقالاته في مجلة شيكاغو للقانون الدولي 2000)، فإن هذا النهج كما يقول المدير التنفيذي لهيومن رايتس ووتش “يعكس حالة من الخوف والغطرسة، الخوف من أن المعايير الدولية يمكن أن تحدّ من الحرية غير المقيدة للدولة العظمى، والغطرسة الناجمة عن قناعة محلية بأن الولايات المتحدة بما لها من تاريخ طويل وحافل في حماية الحقوق، ليس لها أن تتعلم شيئا من باقي دول العالم”.
في 4 نوفمبر/تشرين الثاني 2008، ألقى باراك أوباما كلمة فوزه برئاسة الولايات المتحدة. وكأول رئيس أميركي من أصول أفريقية، وقف ابن الزواج المختلط الذي يجمع أكثر من رمز في نشأته وتجربته يقول:
“الليلة برهنا مرة أخرى على أن الحالة الصحية لقوة أمتنا لم تتأت من الحروب أو حجم الثروات، وإنما من صمود قيمنا: الديمقراطية والحرية والتلاؤم والأمل العنيد، هذه هي العبقرية الحقيقية لأميركا.. الولايات المتحدة يمكن أن تتغير”.
ما من شك أن الخلاص من كابوس الحقبة البوشية قد شكل بالنسبة للمدافعين عن الحريات المدنية وحقوق الإنسان في الولايات المتحدة لحظة سعيدة، وذلك رغم ثقل الميراث وعمق الأزمتين الاقتصادية والعسكرية وتردي صورة الولايات المتحدة بشكل لا سابق له منذ حرب فيتنام.
فالرئيس الجديد له تجربة في تنمية وتأهيل أحياء الفقراء، مدافع عن الحقوق المدنية، وأستاذ سابق في القانون الدستوري، وقد صّوت ضد تشكيل اللجان العسكرية عام 2006، واعتمد في حملته الانتخابية على مبدأ بسيط يقول بأن احترام دولة القانون يشكل مصلحة أميركية وأمنية عليا، وبالتالي لا يتعارض مع الحرب على الإرهاب. وقد اعتمد في ردوده حتى على المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون، على نقد غياب الشفافية باسم الضرورة الأمنية.
عناصر هامة وإيجابية -دون شك- للتعامل مع ملف تهشيم دولة القانون الأميركية من داخلها، عبر المجموعة الأيديولوجية التي سادت خلال فترة الرئيس السابق جورج بوش الابن (ديك تشيني، ورونالد رمسفيلد، وكوندوليزا رايس، وجون آشكروفت، ومايكل موكاسي، ودان بارتليت، وألبرتو كونزالس..).
وبينما أعاد تعيين روبرت غيتس في البنتاغون (الذي عايش ثماني إدارات مختلفة)، موفرا حالة تماسك الحد الأدنى الضروري للمؤسسة العسكرية، بقيت المؤسسات الأمنية في حالة تخبط بين مستفيدين من دور متصاعد لها في البلاد نتيجة هيمنة التصورات الأمنية على الإدارة السابقة، وتوجه يخشى ردود فعل داخلية وخارجية تحتاج إلى كباش محرقة.
خارج أوساط حقوق الإنسان الأميركية لم تكن قائمة المطالب ثقيلة، فالرئيس السابق جيمي كارتر يكتفي بالحد الأدنى الضروري والمنطقي لاستعادة صورة أجمل عن بلده في رسالته للرئيس في الذكرى الستين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وفي 5 نوفمبر/تشرين الثاني 2008، نشرت جولي ميرتس رسالة مفتوحة للرئيس المنتخب تقترح فيها كأستاذة لحقوق الإنسان ومراحل الانتقال، أربع خطوات ضرورية للخروج من “الوضع الذي انزلقت إليه الحقوق في الولايات المتحدة”:
– بناء علاقات مع منظمات حقوق الإنسان في الولايات المتحدة.
– إصلاح العلاقة مع هيئات حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة.
– عمل شيء يدل بشكل قاطع على أن الإدارة الأميركية لن تتصرف كأنها فوق القانون الدولي.
– في الأسبوع الأول في مكتبك، احمل القلم وباشر توقيع عدد من الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان.
فما الذي حدث؟.. حاول الرئيس الجديد تحييد خصمه الديمقراطي (هيلاري كلينتون) والخط الجمهوري المعتدل، في خوضه معركة وقف التدهور في أوضاع الحريات، والتخلص من أهم الرموز السلبية للإدارة السابقة عند المجتمع الأميركي والدولي (غوانتانامو، حرب العراق، المحاكم العسكرية..).
لقد حقق برنامج الحد الأدنى بدخول بلاده مجلس حقوق الإنسان، في وقت أوضحت فيه زيارة وزيرة الخارجية الجديدة للصين غياب أي إصرار عند الإدارة الجديدة على إعطاء الدروس أو أن تلعب الولايات المتحدة دور ولي أمر الحقوق الإنسانية في علاقاتها الخارجية، اللهم إلا إذا اقتضت المصلحة القومية العليا ذلك! لكن يبدو أن فريق أوباما لا يمتلك الجرأة الكافية للخوض في قضايا أساسية تمس الحريات المدنية في الولايات المتحدة اليوم.
لم تكن الأيام المئة الأولى للإدارة الجديدة مرضية لمنظمات حقوق الإنسان التي -وإن كانت لا تحمل أوهاما كبيرة- لم تتوقع أن يكون شهر مايو/أيار أسوأ.
فعلى صعيد ميزانية تمويل الحرب في العراق وأفغانستان جرى رصد 96.7 مليار دولار، الأمر الذي دفع 51 نائبا ديمقراطيا للتصويت ضدها، باعتبارها تنطوي على مخاطر عالية دون أهداف واضحة أو إستراتيجية تحديد مخارج. ثم أعلنت الإدارة الأميركية أنها ستحول دون نشر صور خاصة بالتعذيب استجابة لقرار قاضي اتحادي قبل 28 مايو/أيار 2009 (بناء على طلب الاتحاد الأميركي للحريات المدنية)، وذلك بدعوى خشية ردود أفعال.
بل اعتبر أوباما أن “النتيجة المباشرة لنشر المزيد من صور التعذيب للمعتقلين في العراق وأفغانستان ستكون إثارة المشاعر ضد الأميركيين وتعريض جنودنا لخطر أكبر”.. فإذا كانت هذه الصور بطابعها المرعب تشكل خطرا على الأمن القومي من ردود الأفعال المحتملة، يمكننا أن نتصور حال الأشخاص الذين عانوا من هذه الجريمة البشعة؟
بعدما وقف باراك أوباما ضد اللجان العسكرية منذ نشأتها، وكان يسميها “الحل المرقع لقضية السجناء”، يعود الرئيس الأميركي إلى فكرة المحافظة على هذه اللجان مع تعديلات “ترقيعية”، بدعوى أنها تشكل الحل الأفضل لملفات إرهابية بعينها. بل وتجري دراسة احتمال المحاكمات السرية بعيدا عن الرأي العام بحجة الاعتبارات الأمنية.
هذه القرارات والمواقف الفاقعة يجب أن لا تنسينا ملفات أساسية للحقوق المدنية تشكل فيها حتى اليوم سياسة الإدارة الحالية استمرارا للإدارة السابقة مثل:
– استمرار اعتقال أكثر من 650 شخصا دون محاكمة أو قرار قضائي في القاعدة الجوية الأميركية بغرام بأفغانستان، في ما يمكن تسميته الاعتقال غير المحدود بدون محاكمة، مع حرمانهم من إمكانية إقامة دعاوى قضائية أمام المحاكم الأميركية.
– على الأقل 36 شخصا يخضعون لنظام الاعتقال السري في الولايات المتحدة، وهم في عداد المفقودين.
– ما زال المدعي العام يرفض أية دعوى قضائية بحق من مارس التعذيب أو سمح به رغم أن 58% من الأميركيين يطالبون بمنع أي شكل من أشكال التعذيب.
– المحافظة على ما يسمى أسرار الدولة بدعوى أن وضع حد لها يتطلب قانونا من الكونغرس.
– ما زالت الولايات المتحدة تمارس أشكالا من التسليم للمعتقلين والموقوفين وإن أقل مشهدية من قبل، لكنها تجري في غياب الشفافية ودون معرفة القواعد القانونية المتبعة.
– ما زال الرئيس أوباما يؤيد التنصت على الأميركيين والمقيمين في الولايات المتحدة بدون الحاجة إلى إذن قضائي.
– أبقى أوباما على برامج التوعية الدينية التي فرضها الرئيس بوش.
– ما زال مصير 239 معتقلا في غوانتانامو على كف عفريت في غياب تصور عقلاني قائم على إطلاق السراح أو المحاكمة العادلة، أي إعادة التأهيل لأكثر من 180 منهم لم ولن يحاكموا لغياب ملفات قضائية جدية بحقهم.
“ينبغي أن نقلب الصفحة” يقول الرئيس الأميركي.. “نعم” تجيب منظمات الحقوق المدنية والدستورية، لكن ليس على مبدأ “عفا الله عما سلف”، فالمجتمع الأميركي والتجارب البشرية الأخرى بأمس الحاجة إلى تفكيك آليات ارتكاس أية ديمقراطية شكلية، وبحاجة إلى متابعة الانتهاكات الجسيمة، من أجل توضيح التخوم بين دولة القانون والممارسات الدكتاتورية.
لقد زرعت ثقافة الخوف والضرورات الأمنية التي كانت سياسة رسمية للدولة في السنوات السبع الأخيرة، وضعا يتقبل استمرار الحالة الاستثنائية في العديد من مظاهر الحياة العامة. وإن لم تتمكن حركة حقوق الإنسان والمثقفون النقديون من تفكيك فكرة أن الأمن القومي يتطلب تضحيات على صعيد الحقوق والحريات، ستبقى آثار المحافظين الجدد موجودة في الرؤوس، بل والمنعكسات الشرطية البدائية لقطاعات واسعة من البشر التي تعايشت مع الوضع السابق.
يبدو أن الرئيس الأميركي بعد تواصله مع الأجهزة الأمنية وضغوطات مجموعات الضغط المختلفة وتهديدات المحافظين الجدد المباشرة وغير المباشرة، آثر السلامة بالاستجابة لأقل المطالب تكلفة.
لا شك في أن حالة الاسترخاء النضالي التي تلت هزيمة المرشح الجمهوري، واطمئنان الجبهة الدولية المناهضة لسياسات المحافظين الجدد إلى رفض المرشح أوباما لانتهاكات سلفه، والهجوم المضاد الذي باشره المعسكر المهزوم عبر وسائل إعلامه ونائب الرئيس السابق ديك تشيني (الذي يسعى لإبعاد شبح أية فضائح من الوزن الثقيل أو مساءلات قضائية وبرلمانية)، كذلك الصعوبات التي تعيشها الإدارة الجديدة في ملفي أفغانستان والتعامل مع الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة.. كل هذه العوامل جعلت الرئيس الأميركي يكتفي بلعب دور طبيب الجراحة التجميلية للوجه وطموح وقف التدهور.
اللهم إلا إذا رفضت الحركة المدنية الأميركية هذا الخيار عبر تحركات قضائية ومطلبية ضاغطة تسترجع فيها لحظات كتلك التي دخل فيها المواطن الأميركي الأسود براون التاريخ عبر قرار للمحكمة الدستورية العليا عام 1954 ضد مجلس التعليم.. خطوة شكلت نقطة انطلاق صلبة لمناهضة التمييز العنصري في الولايات المتحدة.
الجزيرة نت