صفحات العالم

الطريق الجديد للمقاومة العراقية: الصدمة وهستيريا الطائفيين؟

عبدالامير الركابي
واجهت مبادرة دعوة القوى العراقية المعارضة، للعودة، ومباشرة العمل المعارض، على أرض العراق، هجوما هستيريا، انطلق من مصدرين، يبدوان في الظاهر متعارضين، ومتناحرين. ففي داخل العراق، طار صواب آل الحكيم، والقيادة العنصرية الكردية، وراحوا يفبركون المبادرات المضادة، ويستقدمون أناسا من الخارج، بهدف اظهار تعاطيهم مع هذه القضية في الظاهر، في الوقت الذي كانوا يعملون فيه على تشكيل جبهة مضادة. وقد تكفل جلال طالباني بتلك المهمة، وراح يتودد، لا بل يتذلل لايران، فاطلق على زيارة رفسنجاني، جملته التي اثارت امتعاض العراقيين كافة، حين وصف زيارة قاتل العراقيين، ومن اختص بتعذيب أسرى الحرب العراقية – الايرانية من العراقيين، بانها ” نعمة من الله”. تذلل الطالباني، لم يكن من دون هدف، فلقد تبين انه بصدد تشكيل جبهة مضادة، المأمول أن تضم كلا من ” المجلس الاعلى “، والجبهة الكردستانية ” بجناحيها الرئيسين، مع مقتدى الصدر، الذي زاره جلال مرات عدة خلال أيام، وتباحث معه في مقره في قم، بغية اجتذابه الى الجبهة المذكورة، معتمدا على عمق حساسية مقتدى من احتمال عودة البعث الى الحياة السياسية، وهو ما يسعى “المجلس الاعلى”، لتضخيمه، وتحويله الى فزاعة، يجري الضغط باسمها على التيار الصدري، وزعيمه الحائر والمرتبك حتى الآن.
على المستوى الآخر، خارج العراق تحديدا، لم تكن ردود الفعل منسقة او ذات قيمة، والذين بادروا الى الكتابة، من منطلق الرفض والتجريح، كانوا افرادا غير مهمين وجهلة، لايتميزون بالجدية او الاعتبار، ناهيك عن الأثر، وعموما فان مواقفهم اتسمت بالهستيريا، وبالتهجم الشخصي، ولغة التسقيط والفبركات الساذجة، التي اختص بها نفر من الاشخاص منذ زمن، واصبحوا معروفين من الجميع، ومنبوذين يثيرون الاشمئزاز، وهم اليوم ينحطون بالخطاب (الانترنيتي) درجة اخرى، تكشف عن حراجتهم وموتهم السريري، ومن تجشموا عناء قراءتهم، استغربواالى اي حد وصلت حالة هؤلاء، وكيف تساقطوا نهائيا، بحيث عالجوا قضية سياسية، ومبادرة تستجلب اهتماما واسعا، ومن كل الاطراف، في الخارج والداخل، بمثل هذا الاسلوب العبثي، الدال على الافلاس، وعلى قوة المبادرة التي ارادوا تجريحها، من دون اي فكرة او معالجة عقلانية، او منطقية، في مقابل ضعفهم وتهاوي منطقهم.
على الارض وداخل العراق، صدرت عن تنظيم ” القاعدة”، المختص بقتل العراقيين في الشوارع، بعض ردود الفعل الهوجاء، وقد تزايدت وتيرة عمليات التفجيرالعشوائي، وفي اكبر عملية جرت، تعرض اعلاميون وشيوخ عشائرفي ابي غريب، لعمل انتحاري، اودى بحياة اعلاميين، واناس من المارة الابرياء، كما شهدت الكرادة الشرقية عملية أخرى كبيرة، لم يسقط فيها أحد من الاميركيين او الاجهزة الامنية، بل تساقط مدنيون من دون ذنب، كما جرت عمليات اخرى اصغر، من ذات النوع والاستهداف، وكان من الواضح ان ماجرى على هذا الصعيد، هو رد فعل يائس وعصبي، حركته كوامن خارجة عن العقل والمنطق، وتنتمي الى الاحتضار.
ففي الايام الاولى لوصولنا الى العراق، كان الوضع الامني مستتبا تماما، وكنا نتجول في الكرادة والكاظمية خصوصا، حتى الثانية عشرة ليلا واكثر، من دون ان نفكر بأي خطر، وذهبنا الى الفلوجة، حيث اقيمت لنا مأدبة غداء في الخالدية، واستقبلنا بعض حلفائنا واصدقائنا هناك بالترحاب، وجاؤوا بسياراتهم ليسيروا رتلا معنا، من حدود الفلوجة الى الخالدية، لأننا نجهل الطريق وتعرجاته، وترحيبا بمقدمنا. والخالدية في سجلات العنف، هي المكان الاكثر دموية في الرمادي، والغداء الذي اقيم لنا، وعلى شرفنا، تم في العراء في يوم ربيعي مشمس ورائع، وعلى الطبيعة، بين البساتين. وهناك استمعنا على الارض، لصنوف من قصص المأساة المرعبة، التي مر بها العراقيون على يد “القاعدة”، وكيف عملت على قتل المقاومة العراقية، ونقلت الحاضنة الاجتماعية للمقاومة، من قوة الاحتضان الشعبي غيرالمحدود للعمل المسلح المقاوم، الى التحفظ الشديد والنفورالمنطوي على حزن وأسف. لم تكن منطقة الفلوجة محمية من الجيش، او قوات الامن العراقية، ولم نرَ على طول الطرقات، التي مررنا بها، والقرى التي توغلنا في داخلها، اي أثر للقوات الحكومية او الصحوات، ماعدا بعض الحواجز المتفرقة، والامن كان من صنع أهالي المنطقة.
وسواء في بغداد او ابو غريب، وبقية المناطق المتداخلة، او التي شهدت في السابق “تهجيرا طائفيا”، كانت عمليات عودة المهجرين المعاكسة، تجري وسط طقوس تنم عن وجهة مشاعر الناس العفوية، وذاكرتهم المأسوية التي لايمكن وصفها. وأهالي المناطق التي تتم العودة اليها، كانوا يحملون الاكل للقادمين، ويواظبون على زيارتهم، وتجديد الاواصر معهم، وسط مشاعرالمحبة والاخوة المتأججة. و” الهلاهل ” المختلطة بالدموع، تروي تناقضات امتزاج الفرحة بالألم، لقد اطللنا ونحن نعبر جسر الائمة، من جهة الكاظمية الى الاعظمية، على “مقبرة الاحتراب الطائفي”، ممتدة من جرف دجله، لجهة جامع الامام الاعظم، في موازاة الجامع وعلى طوله، فارتعبنا، وتساقطت دموعنا ونحن نلاحق شساعة الحقد والفقدان. ما أوسع مدى هذا الموت المجاني، الذي يصدح الآن في الليالي والصباحات، “هلاهل” في ارجاء بغداد المنكوبة. مخضبا بالدموع التي تحكي قصة الفقد، فأي بيت لم تصبه فاجعة في ابن او اب او اخ او اخت؟ لقد صنع العراقيون بارادتهم الجبارة، من قلب الماساة المروعة، “أمنهم”، وانتزعوه من براثن مأساتهم المروعة، العصية على الوصف. كانوا يرددون بلا توقف “الله لا يعيدها”. وهنا يكمن السر الذي جاء بنا وحفّز مبادرتنا، فالحديث عن توافر الامن في العراق، يترجم حسب بعض الاوساط، مديحا للمالكي وحكومته، وصحواته، لان هؤلاء لا يريدون ان يصدقوا بأن الامر يتجاوز فعل اية حكومة، مهما فعلت، وليس المالكي، ولا الصحوات، من حقق هذا الذي حدث على الاطلاق. وهو اضعف من ان يفعله. مع انه يريد، ويحب ان يقال عنه ذلك. كيف يستطيع المالكي ان يحيي في الاعظمية، فرحة المولد النبوي الشريف، والذي صادف مروره خلال وجودنا.  كانت الاعظمية تشع، وتسطع بوهج تحد من أجل الحياة، عندما طرق سمعنا صوت طبول، وطالعتنا المشاعل تلوح فوق الجسر، من جهة الكاظميه، لقد جاء اهالي الكاظمية سيرا على الاقدام، يشاركون أهل الاعظمية، فرحة الاحتفال بمولد النبي العربي. كان المشهد رهيبا، يهز السماء والارض، تحت عين قمر فضي، وامتدادت مقبرة تشهد على الحقد العابر، وهؤلاء الذين يقولون بأن الحديث عن الامن المستتب اليوم، هو مديح للمالكي، انما يكشفون عن معضلة معروفة، كانوا يتخبطون فيها وما زالوا. فالاحادية، والافتراضية الايديولوجية، كانت من اكثرالظواهر عبئا على المقاومة العراقية. والذين واصلوا التهريج باسم المقاومة، وسيّدوا اللفظية الفجة، والشعاراتية التي لا تريد التعامل مع الواقع العراقي وتعقيداته، وحوّلته الى لوحة يرسم عليها من يشاء، مايشاء من الاعتقادات، باسم “مجد البندقية”، هم من يصدمون اليوم بابتعاد المجتمع عنهم، وتكذيبه المطلق لاطروحاتهم، وكرهه لتوجهاتهم.
منذ الايام الاولى للاحتلال تبنينا، مفهوما للمقاومة، يقوم على القول، بأن المطلوب هو  “مقاومة شاملة”. وقد نبهنا بقوة، الى خطورة الطابع الجزئي والطائفي، على العمل المقاوم ونتائجه واحتمالاته، وتحمّلنا بناء عليه، كل الحقد الذي حمله دعاة “العودة الى ما قبل 9/4/2003″، ومن رفعوا شعار “المقاومة هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب العراقي”، في حين كنا ننادي بعقد “المؤتمر التأسيسي”، باعتباره اطارا وطنيا، يجمع كل مكونات الشعب العراقي، ويتيح التوصل الى الصيغة المناسبة للعيش المشترك، بعد طرد المحتلين، بعدما انهارت الدولة، ولم يعد بالامكان قيام نظام لا يكون اساسه “المشاركة الوطنية الشاملة”، التي واصلنا الاصرار على اعتبارها شرطا للتحرير.
كانت بعض الاطراف، تتوهم بانها عائدة الى الحكم، وتروّج هذه الكذبة، بينما مالت اطراف أخرى، الى رفض مبادئ المشاركة، وتخيلت مقاومة من دون مشروع وطني، مستند الى مبدأ المشاركة الشاملة. ولقد عقدنا في صيف 2004، مؤتمرنا “التحضيري للمؤتمر التأسيسي” في بيروت،بحضور 350 جاؤوا من داخل العراق، فبدا عملنا، كما هي الحالة اليوم، تهديدا لاحلام ولت، تصر على البقاء حية، ولو على حساب المجتمع والمقاومة، ولقد واصلنا اعلان آرائنا بلا توقف، ومن دون خوف، او حساب للحقد الاسود، أو التجريح المختلط بالحقد والكذب، وقلنا إن المنطق الجزئي، سوف ينهي المقاومة، ويتسبب في اغراقها بالاحتراب الاهلي، وهذا ما حدث. وانتهى طور من المقاومه، بسبب أخطاء من رفعوا الشعارات التبسيطية، المناقضة للوقائع، ولتكوين العراق وظروفه وبنيته. غير ان الشعب العراقي، وبكل مكوناته لم يتخلّ عن مقاومة الاحتلال، وسارع للانتقال الى التسلح بالموقف الشامل، الجامع للجهد الموحد لكل مكونات العراق، وهذا ماحدث في الانتخابات الاخيرة، عندما مال العراقيون الى اختيار الحقائق الوطنية الثابته، المضادة للطائفية، وللمحاصصة، والفساد، والفيديراليات التي تهدد وحدة الكيان والدولة المركزية، باعتبارها أمراضا مفروضة من قبل الاحتلال. وكل هذه حقائق لم يصنعها المالكي، بل حاول ويحاول ان يتناغم معها، وتمكن من حصد نتائج باهرة، لأنه استجاب لها، وتلك حقيقة، الذين ينكرونها هم الجهلة، وجماعة “عليهم ياخوتنا عليهم” و”عنزة ولو طارت”.
هنالك طور جديد من اطوار العمل المقاوم، يتهيأ العراقيون لمباشرته، وقد حققوا مقدماته بصفتهم ذاتا فاعلة، بغض النظر عن اي حزب، او جهة. وهذه ظاهرة فريدة وتاريخية لامثيل لها، وهي تحتاج اليوم الى مجهود، وحضور القوى الحية المناهضة للاحتلال، داخل العراق. وعلى هذه القوى ان تستغل المناسبة، وتستند الى الأسباب التي اضطرت المالكي، لأن يرضخ لسياق الحالة الوطنية الراهنة، ويحاكيها، خاصة في ظل احتمالات انسحاب الاميركيين ومأزقهم. لقد واصلت خلال لقاءاتي التلفزيونية، التأكيد على تفكيك “العملية السياسية الاحتلالية”، والانتقال الى “العملية السياسية الوطنية”، واشترطنا على من يحضر المؤتمرالذي دعونا له، ان يكون مناهضا بصراحة للاحتلال، وتحدثت مطولا وعلنا في قناة “الاتجاه”، عن اندحار المشروع الامبراطوري الاميركي، وقلنا ان تاريخ 9/4 سيكون يوم احتفال، بنهاية ” العملية السياسية الاميركية”، اي بزوال للاحتلال نهائيا، وكل هذه الآراء، لن يقبلها الطائفيون، والحالمون بعودة الديكتاتورية، وبعض المتطفلين، لانها تعني موتهم النهائي، وتعني انهيار ما كانوا يراهنون عليه، وتسببوا به من كوارث جديده، الحقوها بمقاومة الشعب وحاضنته الاجتماعية.
هنالك من يريدون تصوير موقفنا ومبادرتنا، وكأنها تخالف مبدأ وحق المقاومة المسلحة للشعب العراقي، وهذا جزء من التشويه الحاقد المعتاد، ومحاولة لاظهار موقفنا، وكأنه خروج من معسكر الداعين للمقاومة، التي نؤمن قطعا بأنها حق مقدس، الأكثر قدسية منه، كيف نحميه ونطوره، لا كيف ندمره، ونجبر الشعب وندفعه للنفور منه، كما فعل هؤلاء، الى ان اضطروا العراقيين اليوم، وحملوهم عبء ابتكار وسائل واساليب أخرى للمقاومة، تؤمّن خروج المحتلين، وجدها العراقيون في استعادتهم الجبارة لوحدتهم الوطنيه، كركيزة للعمل المسلح المقاوم، قبل ان يستعاد مرة أخرى، على قاعدة وحدة وطنية راسخة، لا تؤدي الى كارثة احتراب طائفي. كما حدث خلال الطور الماضي من تجربة المقاومة المسلحة. والشعوب خلال مسيرة تحررها، تمر بمراحل وفترات من المقاومة، تختلف عن بعضها، وفقا للظرف واللحظة. والعراق سوف يطرد الاحتلال ويدحره، بقوة تلاحم مجتمعه وارادته، وموجة الحقد الحالية ضدنا، لن تطول، وسوف تتبدد قريبا، لأنها صادرة عن موت من يشنونها، ونهايتهم القريبة، وافلاسهم.
بغداد
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى