صفحات العالم

بلا سياسة

الياس خوري
عكس ما يُظن، فإن العالم العربي يعيش في لحظة لا مكان فيها للسياسة. الاضطرابات واحتمالات الانفجار تهدد جميع دول المشرق العربي، من اليمن الى العراق وسورية ولبنان، ولكن كل هذه السياسة ليست سياسة. حتى مصر بجدارها الفولاذي وبطولة افريقيا في كرة القدم، فإنها ايضا وايضا خارج السياسة.
نحن في لحظة لها اسم واحد هو التكرار.
حتى المصافحة المخجلة بين نائب وزير الخارجية الاسرائيلي داني ايالون، الذي اهان السفير التركي، والأمير السعودي تركي الفيصل في ميونيخ اول من امس، ليست سوى تكرار ممل للمهانة العربية المستمرة.
تكرار شبيه بالمناخات التي سادت المشرق بعد النكبة عام 1948، حيث لم تعد السياسة مجدية، بسبب افلاس الأنظمة العربية الشامل، وكان لا بد من لغة جديدة، صنعتها الانقلابات العسكرية، تحولت لغة جارفة، بعد تبلور المشروع الناصري.
لكن الزمن تغير، وصار اللجوء الى الانقلاب العسكري مستحيلا وغير مجدٍ، فالتجربة الانقلابية اثبتت لا جدواها لأنها قادت الى الهزيمة الحزيرانية الكبرى عام 1967.
التكرار ثقيل الظل، يجعل من متابعة الاخبار امرا مملاً. فمن لا يشارك في صناعة الخبر يفقد قدرته على متابعته. هكذا نحن في المشرق العربي اليوم. والضمير في نحن يعود الى ما يُطلق عليه في العادة اسم المواطن، ويشمل الجميع، بمن فيهم ما اصطلح على تسميتهم بصُنّاع الرأي العام، اي الصحافيين والكُتاّب. هؤلاء ايضا اصيبوا بالملل الى درجة ان منع الكتب لم يعد يستفزهم، كما ان الجوائز التي توزع هنا وهناك، وتتخذ الصفة العالمية لم تعد تعني لهم الشيء الكثير. جابر عصفور ينال جائزة القذافي التي رفضها الكاتب الاسباني الكبير خوان غويتيسولو! والرقابة المصرية تصادر كتابا عن الزعيم الليبي، كله سيّان. ‘كله عند العرب صابون’. المهم ان تمرّ الأشياء بلا ضجيج.
نستطيع ان نتفرج على تفكك الاوطان، لكننا لا نبالي. ‘اكثر من قرد ما مسخه الله’. الحقيقة اننا نبالي لكننا لا نعرف ماذا علينا ان نفعل. لذا نكرر الكلام المكرر، حين نجد ان علينا ان نحكي.
هل تذكرون بدايات الانتفاضة الثانية، وصور محمد الدرة يُقتل امام عين الكاميرا؟ يومها امتلأت الأرض العربية زعيقاً. الجميع امتطى منصة الكلام. لكن القتل استمر، وبدأنا نتعوّد. ثم حلّ الصمت. هل تعلم ايها القارئ العزيز ان ما يجري اليوم في فلسطين اكثر فداحة وعنفا وهولا من يوم مقتل محمد الدرة؟ كلنا نعرف ذلك بالطبع، لكننا صامتون. تعبنا من الحكي ولم يتعب القاتل من اسالة الدماء وهدم البيوت وتجريف الزيتون. ثم دخلنا في صمت العاجزين. ما نريد قوله قلناه وكررناه. لا نستطيع الاستمرار في الحكي، لأن الكلام قد نفد.
هل تعلم ايها القارئ العزيز ما معنى ان ينفد الكلام؟
من المؤكد انك تعرف ان توقف الكلام يعني الموت. والتكرار ليس دليلا على استمرار الكلام، بل من المرجح انه دليل موته.
نفد الكلام لأنه لم يؤد الى اي فعل.
فالكلام لا يستطيع ان ينصرف في الكلام، على من يحكي ان يفعل شيئاً. لكنه لا يستطيع، او لا يعرف.
ليس صحيحاً ان سبب العجز عن الفعل هو القمع او الخوف منه. هذا وهم، فالقمع لم يمنع قيام كل الثورات في العالم.
وليس صحيحا ايضا ان فساد النخب في عصر عولمة السياسة ومصادرتها من خلال الاموال التي تصرف على الجمعيات غير الحكومية بهدف اخراس المثقفين وشلهم هو السبب. الفساد ليس جديدا، والانهيارات في صفوف المثقفين مسألة قديمة بدأت منذ ظهور المثقف الحديث كفاعل اجتماعي – سياسي.
يجب ان نبحث عن السبب في مكان آخر اسمه فلسطين.
لا اريد ان اقول اننا نستطيع اختصار جميع مشكلات المنطقة العربية وترحيلها الى فلسطين. بل اريد القول ان غياب المشروع الاستراتيجي الذي لا يقوم الا عبر مقاومة اسرائيل يشلّ القدرة على الفعل، ويلغي المعاني.
وكي اكون واضحاً، يجب ان نضع الاصبع على جرح نازف اسمه طرد الثقافة العربية من فلسطين.
وهذه عملية معقدة بدأت منذ اوسلو، ثم اتخذت شكلها النهائي مع الانقسام الفلسطيني الذي اضاع البوصلة كليا.
لا يمكن اختصار فلسطين بالسلطة، على الرغم من الجهد المتميز الذي يقوم به سلام فياض.
كما لا يمكن اختصار المقاومة بحركة حماس او بالتيارات الاسلامية.
في غمرة هذين الاختصارين، فقد الوضوح الاستراتيجي حول القضية الفلسطينية.
وما يبدو تناقضا بين طرح الدولتين وطرح التحرير، ناجم عن كسل فكري ثقافي لم تشهد فلسطين مثيلا له.
فالدولة الفلسطينية لن تقوم بالمفاوضات، بل يجب ان تفرض فرضا. اي يجب تحرير الأرض من اجل قيام هذه الدولة.
لكن الصراعات الايديولوجية بين ليبرالية كاذبة، واصولية تعلم ان الشعارات الطنانة لا علاقة لها بأرض الواقع، اضاع الكلام كله.
وهذا الضياع قتل الثقافة العربية، لأن فلسطين تعني النضال من اجل ان يكون الأمن القومي في عهدة العرب، لا ان يرتضي المشرق العربي بأن يكون جزءا من استراتيجيات اجنبية تتصارع على النفوذ فيه، محولة اياه الى رجل العالم المريض.
شرط استعادة الكلام، هو اعادة صوغ لغة المقاومة.
وحين نصوغ لغة المقاومة نقاوم لغة التفتت الطائفي والمذهبي والاقوامي، ونمنع فاشيا مثل ليبرمان من ان يحكي عن تغيير الأنظمة العربية.
هذه لغتنا، والا فلتمت اللغة.
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى