السؤال الفعلي: ماذا تريد واشنطن؟
نهلة الشهال
طالما الأجواء باردة، يثير النفاق السائد في لبنان الضحك أو الضجر. لكنه يسبب الغثيان حين يرتكب في ظل ما يعنيه إطلاق النار الكثيف في الشوارع، كما هي الحال هذه الأيام. فان تكتشف الحكومة «فجأة» أن لحزب الله شبكة خطوط هاتفية خاصة،
وسوى ذلك من تفاصيل عديدة ولا شك، يشبه نكتة فجة. وأن يخرج الدكتور جعجع، زعيم ميليشيا «القوات اللبنانية» الشهيرة، بتصريحات مذعورة عن هيبة الدولة المعتدى عليها، لا يقل فجاجة. فمن المعروف أن لبنان يقوم على توازن / تقاسم للنفوذ بين مختلف مكوناته السياسية / الطائفية، وان ذلك القانون يسري من رأس هرم كل شيء حتى أوسع قاعدة للحياة في البلد: مناصب الدولة، الوظائف على أشكالها ودرجاتها، كافة الانتخابات، النقابات المهنية بما فيها تلك الممثلة للقطاعات الأكثر حداثة ورقياً، الاتفاقيات والوكالات التجارية، التعليم، بل حتى الطبابة! ومن المفهوم تماما والمشروع جداً أن ينتقد هذا النظام ويدان، وان يسعى عديدون، أفرادا وقوى منظمة، إلى تغييره والى إرساء الدولة «الموضوعية»، دولة القانون والمؤسسات ومساواة المواطنين، المستقلة عن تغيرات السلطة، تلك التي وصفها ماكس فيبر طويلاً كنتاج للعقلانية وللحداثة، وكضمانة لهما في الآن نفسه… لكن، وإذا ما استثنينا المحاولة الشهابية، فما دخل لبنان بالتعريف ذاك؟ أم يتناسى المستهولون الآلية التي لطالما دُرست وقُلبت من كل جهاتها، والمتعلقة بتفسير البناء اللبناني، ومن ضمنه سر إبقاء السلطة في لبنان في أضيق حيز ممكن، مكلّفة في المقام الأول بأن تتولى الإشراف على حسن سير التوازن الأهلي / السياسي…ويتناسون كيف تندلع الحروب الأهلية في هذا البلد، وهي للتذكير أيضا وأيضا دورية، تقع حين يتلاقى تغيير إقليمي مهم مع اختلال في ذلك التوازن الداخلي. هل ينبغي أن تبقى كل تلك اللوحة فاعلة، قانوناً يحكم الوضع؟ قطعاً لا! فهذا بنيان سيئ من الناحية المبدئية، وهو مأزوم بشدة وبصورة دائمة، ومنتج للازمات. ولكن تغييره يتطلب الخروج منه.
أما ما يقوم به أركان الحكم في لبنان اليوم، فهو تغليف الخروج على التوازن / التقاسم – وهو يتم لمصلحة جزء من مكوناته – تغليفه بخطاب عن انتهاك دولة القانون والمؤسسات، وعن فظاعة الدولة داخل الدولة التي يمثلها حزب الله! في هذه الدائرة يقع النفاق الممارس، والحق أن وظيفته إنتاج رواية سردية عن الوضع، يعتد بها رسميا وإعلاميا، وتكرر بلا ملل، على أمل أن تكرارها يمنحها، إن لم يكن صدقية فطغياناً، كما هي حال الروايات السردية عن غزو العراق مثلاً وتقدم الديموقرطية فيه بعد احتلاله، أو تلك الأخرى عن المهاجرين كمصدر لتردي الأوضاع الاجتماعية والأمنية في أوروبا إلخ…
ولكن هذه المسرحية الممتدة منذ فترة، بخطابها الركيك ذاك، تبدو وكأنها دخلت اليوم في مرحلة جديدة، وتلك هي النقطة الجديرة بالسؤال. فهل تقدمت الولايات المتحدة خطوة في حسم خيارها باتجاه توسيع رقعة المواجهة العنيفة؟ هل يكون التصعيد الذي أطلقه السيد جنبلاط، حين «اكتشف» ما يقول إنه كاميرات مراقبة لأحد مدارج المطار، ثم شبكة الهاتف الخاصة، وما تبع الاكتشافات من إقالة لمسؤول أمني يفترض انه من «كوتا» حزب الله، جزءا من رؤية اشمل للموقف تمهد لتداع داخلي ودولي تحمله الأيام المقبلة؟ أم افترض، حين التصعيد السالف ذاك، أن حزب الله سيرتبك ويتردد في مقابلة الهجوم عليه بهجوم مضاد، وأنه، تجنباً للمواجهة، سيختار ابتلاع الضربة، فتكون قضمة أخرى في سياق تعديل التوازن القائم؟ وبتعبير آخر، هل بدأ العد العكسي لإطلاق وضع مهيأ دولياً وإقليمياً، أم ما زلنا في البروفات ولعبة الكر والفر؟
سيكون للجواب بنعم على الفرضية الأولى نتائج كبرى، لعله لا يكفي تلخيصها بالقول إننا بهذا نكون أمام تجدد لوقائع الحرب الأهلية بكل ما تعنيه من أهوال ودمار على البلد برمته. فالمنطقة بعد احتلال العراق في وضع سيفضي في مثل هذه الحالة إلى مدّ رقعة النار غير القابلة للإطفاء وانتشارها، بحيث يمكن الكلام عن تعميم الفوضى على أجزاء كبيرة منها. فهل اتخذ مثل هذا القرار أميركياً؟
ثم كيف يفسر عنف رد فعل حزب الله على وقائع الأيام الماضية؟ هل هو مجرد إعادة تصويب لاختلال يرى أنه لحق بما يَفترض هو أنه تعريف التوازن الأهلي / السياسي وجردة حسابه، حيث لا يخفى على أحد أن حزب الله أولاً، وما تمثله سياسياً وأهلياً المعارضة ثانياً، يريان أن حصتهما في البنيان القائم قد تقلصت بفعل استقواء جماعة الحكومة بالدعم الخارجي، بل أن قواعد اللعبة قد أحبطت منذ أن استقال وزراؤهم فلم يأبه الشق الآخر لاستقالتهم. وأن التعطيل الذي يمارسونه (احتلال الوسط التجاري وتعليق انتخاب رئيس الجمهورية) لا يعادل استمرار جماعة الحكومة في ممارسة الحكم وكأن شيئاً لم يكن. أم يتعلق التكشير عن الأنياب بما يتجاوز ذلك، أي بما يخص ما يرى حزب الله أنه قرار أميركي بالانتقال في الهجوم عليه من دائرة نزع الشرعية وإسقاط الهيبة والتجاهل السياسي، إلى تهديده أمنياً وعسكرياً، وربما إلى السعي مجدداً إلى تصفيته بأدوات ووسائل عنفية قد يختلف السيناريو الذي تتبعه عن عدوان صيف 2006…؟
في كل الأحوال، وأيا يكن الجواب المرجح: فيا للهول! هول ما سيقع من مصائب على الناس، وهول عجز الطبقة السياسية اللبنانية عن استدراك الموقف طوال الأزمة، وركضها وراء سراب تحقيق الغلبة والاستئثار بالغنم، سراب لم تنفع كل التجارب السالفة في التلقيح ضده.
الحياة – 11/05/08