السلام مع سوريا أولاً
ابرهيم سليمان
المرض الذي ينتشر في الشرق الأوسط مستشرٍ منذ وقت طويل جداً. مرض الشرق الأوسط هو الكره وانعدام الثقة. ولم يتم العثور بعد على دواء له. لسخرية القدر، إحدى المشكلات الأساسية في الشرق الأوسط هي أن الغرب في شكل عام والولايات المتحدة في شكل خاص يريدان السلام في الشرق الأوسط أكثر مما يريده القادة الشرق الأوسطيون أنفسهم.
بعد الكثير من البدايات الخاطئة والآمال المهدورة، تبدو آفاق السلام بين إسرائيل والفلسطينيين واعدة، لكن شرط تحقّق السلام بين إسرائيل وسوريا أولاً. عندئذٍ فقط، سوف يتمكّن كل الأفرقاء المعنيين من أن يجتمعوا معاً لحل المشكلات الإسرائيلية – الفلسطينية المتجذّرة مع التطلّع إلى إرساء سلام شامل في الشرق الأوسط الأوسع.
حتى الآن، عطّلت مجموعة من العراقيل جهود السلام في شكل عام. لقد أدّى انقسام الفلسطينيين إلى مجموعات عدّة يتوقّع كل منها أهدافاً أو نتائج مختلفة من المفاوضات، إلى الافتقار لقيادة فلسطينية، مما جعل من المستحيل تحقيق تقدّم. والعائق الآخر هو العدد الكبير من الأماكن المقدّسة، بما فيها القدس، التي يعتبرها كلا الطرفين مقدّسة بالنسبة إليه. وهناك أيضاً الكثير من المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية وعدد كبير من الأشخاص الذين يجب اقتلاعهم من جذورهم. أخيراً، يخشى الإسرائيليون بقيادة المشكّكين السلام مع الفلسطينيين، وتشعر أنظمة عربية عدة بالذعر منه. هذه هي المسائل التي تصعب معالجتها من دون التعاون الكامل من جميع المعنيين.
ومع ذلك، استمر الأميركيون والإسرائيليون في السعي إلى إيجاد حل للنزاع العربي – الإسرائيلي عبر محاولة حل المشكلة الإسرائيلية – الفلسطينية أولاً. إنه خطأ كبير. لا يمكن تحقيق ذلك. فمفتاح أي سلام دائم في الشرق الأوسط هو سوريا. من شأن السلام مع سوريا أن يضيف زخماً إلى بناء السلام بين إسرائيل ولبنان، الأمر الذي يمكن أن يؤدّي بدوره إلى تطبيع معظم الدول العربية علاقاتها مع إسرائيل. ومن شأن توقيع اتفاق سلام مع سوريا أن يضعف الراديكاليين في المنطقة، ويسمح للحكومات بتخصيص الأموال للتعليم والرعاية الصحية بدلاً من تغذية الغضب والكره لدى هؤلاء الراديكاليين. ولعل الأهم هو أنه سيسمح للولايات المتحدة وأوروبا وكل اللاعبين الأساسيين بأن يسيروا معاً نحو الأمام في المستنقع الإسرائيلي-الفلسطيني الشديد التعقيد.
من شأن اتفاق سلام بين إسرائيل وسوريا أن يكون مباشراً جداً، ومستنداً إلى تطبيق قرارات الأمم المتحدة واتفاقات مؤتمر مدريد في تشرين الأول 1991 والتي تنص على مقايضة الأرض بالسلام. حتى اليوم، بعد نحو عشرين عاماً من انعقاد ذلك المؤتمر، تقدّم المبادئ المنصوص عنها في تلك الاتفاقات خريطة طريق لتحقيق المصالحة.
يجب أن ندعو قادة الولايات المتحدة وإسرائيل وسوريا إلى التوقّف عن هدر الوقت عبر الادعاء بأنهم يفاوضون هنا وهناك. يجب أن نناشدهم الجلوس معاً وجهاً لوجه في كمب ديفيد، وألا نسمح لهم بالمغادرة قبل توقيع معاهدة سلام، كما فعل الرئيس كارتر عام 1979 عند توقيع اتفاق سلام بين إسرائيل ومصر.
ما السبيل لتحقيق ذلك؟ يمكن تحقيقه عبر إيجاد أرضية مشتركة والاعتراف بسوريا قائدة للعالم العربي والتخلي عن الشروط المسبقة الجنونية التي فُرِضت عليها. يجب أن تتوقّف الولايات المتحدة وأوروبا وإسرائيل والعالم العربي عن الإصرار على وجوب أن تدير سوريا ظهرها لأصدقائها وحلفائها الحقيقيين، إيران و”حزب الله” ومجموعات المقاومة الفلسطينية، قبل الموافقة على الشروع في مفاوضات السلام بينها وبين إسرائيل برعاية أميركية. ليس هذا الشرط غير منطقي وحسب بل إنه جنوني أيضاً. لا تستطيع سوريا ولا يجدر بها التخلي عن صديقتها إيران مسبقاً، بغض النظر عن النتائج. إيران هي البلد الوحيد في العالم الذي ساعد سوريا ووقف إلى جانبها كلما كانت بحاجة إلى صديق.
بالطبع، إذا وقّعت سوريا وإسرائيل معاهدة سلام، سيكون من المستحيل على أي من الجانبَين أن يتعاون مع أطراف أخرى تسعى إلى إلحاق الأذى بالشريك الآخر في السلام أو تدميره. عندما تعقد سوريا وإسرائيل السلام بينهما، يجب أن تشهد علاقة سوريا بإيران و”حزب الله” و”حماس” ومجموعات المقاومة الأخرى تغييراً جذرياً إذا بقي هؤلاء الأفرقاء على عدائهم لإسرائيل.
حتى بعدما قدّمت سوريا المساعدة لأميركا عقب الهجمات الإرهابية في 11 أيلول وتشاركت معها معلومات استخبارية حيوية أنقذت حياة عدد كبير من الأميركيين، استمرت الولايات المتحدة في ممارسة ضغوط على سوريا وفرض عقوبات عليها. لقد قام الرئيس بشار الأسد بما عليه، فدعا إلى السلام مع إسرائيل بالاستناد إلى اتفاقات مدريد وقرارات الأمم المتحدة. وأعرب الرئيس باراك أوباما عن استعداد لوقف المحاولات الأميركية الهادفة إلى عزل سوريا.
حتى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الذي أعتقد أنه القائد الوحيد في إسرائيل الذي يستطيع عقد سلام مع سوريا، قد يكون جاهزاً وأخيراً لإيجاد صيغة لإعادة مرتفعات الجولان إلى سوريا، عبر الاستعانة بفكرة حديقة السلام التي طُرِحت خلال المفاوضات في سويسرا من 2004 إلى 2006، لتكون مفتاحاً للحل. خلافاً لبعض القادة السابقين، يدرك نتنياهو أن السلام مع سوريا هو الأساس لضمان استقرار إسرائيل وأمنها وبقائها. عملت مع ممثل نتنياهو في التسعينات عندما شغل منصب رئيس الوزراء لأول مرة. وأعتقد أنه القائد المناسب لإرساء السلام مع سوريا.
غير أن كثراً في إسرائيل لا يزالون يشكّكون إلى أقصى الحدود بنيات الرئيس بشار الأسد. عندما أدليت بإفادتي أمام لجنة الشؤون الخارجية والدفاع النافذة في الكنيست عام 2007، سئلت مراراً وتكراراً عن صدق النيات السورية. لا شك في أنه لا تزال تساور الإسرائيليين شكوك كبيرة جداً بشأن جدية سوريا في الرغبة في السلام. صحيح أن الرئيس بشار الأسد ليس مدعاة للاطمئنان بقدر ما كان والده. فالرئيس حافظ الأسد كان يحترم كلمته دائماً ولا يتلقى الأوامر من أحد. كان يقول لـ”حزب الله” ما يجب فعله ومتى. وكان يقول لإيران ما عليها فعله. عندما كان حافظ الأسد على قيد الحياة، كان هناك استقرار وأمن في المنطقة، غير أن المشهد تغيّر بعد وفاته. أُرِغمت سوريا على الخروج من لبنان، مما منح “حزب الله” فرصة السيطرة على هذا البلد. وقد أسفر هذا الوضع الكارثي عن مواجهة مباشرة بين “حزب الله” وإسرائيل أدّت إلى حرب مدمّرة أودت بحياة مئات اللبنانيين والعديد من الإسرائيليين في صيف 2006.
صحيح أيضاً أن الرئيس بشار الأسد محاط بأشخاص يتحيّنون اللحظة المناسبة لمحاولة إحباط كل خطوة يقوم بها في اتجاه المصالحة مع الولايات المتحدة وإخوانه العرب والغرب وإسرائيل. لكن إياكم والخطأ، يسيطر الرئيس بشار الأسد سيطرة تامة على بلاده، وهو جاد جداً بشأن تحسين العلاقات مع الولايات المتحدة وعقد سلام مع إسرائيل.
الحدود الإسرائيلية – السورية هي خير إثبات على التزام سوريا الحالي بالسلام، فهي تنعم بالهدوء النسبي منذ عقود. لم يُسجَّل أي حادث أساسي بين البلدين في مرتفعات الجولان منذ عام 1974. لا شك في أن سوريا حاربت إسرائيل ولا تزال تحاربها بالوكالة من طريق “حزب الله” في لبنان، ومجموعات المقاومة الفلسطينية وسواها في الأراضي المحتلة، إنما ليس انطلاقاً من مرتفعات الجولان. لقد ولّى زمن الحديث عن السلام، وحل زمن إحلال السلام. لقد أصبحت كل قطع الأحجية الضرورية لإبرام معاهدة سلام بين سوريا وإسرائيل، في مكانها. وينبغي على قادة الولايات المتحدة وإسرائيل وسوريا أن يتخذوا قرارات، وفي الحال.
المنافع الاقتصادية المحتملة للسلام كبيرة جداً. من شأن انحسار التوتر أن يحرّر موارد مخصّصة أصلاً للجيش من أجل استعمالها في تنمية البنى التحتية ومشاريع أخرى مهمة لتحسين الرفاه العام. سوف ينعش السلام التجارة ويحفز الاستثمار. باختصار، إرساء السلام بين الإسرائيليين والسوريين هو مفتاح الأمن والاستقرار والازدهار في المنطقة.
يجب أن تكون توقّعاتنا واقعية إنما أيضاً مفعمة بالأمل. أمام الولايات المتحدة وإسرائيل فرصة ذهبية الآن لإرساء السلام في المنطقة. لقد دعت سوريا ولا تزال تدعو إلى إحلال السلام مع إسرائيل. ينبغي على الولايات المتحدة أن تشجّع إسرائيل وتساعدها على تلبية تلك الدعوة والمجازفة من أجل السلام.
يجب أن تُقرَن الوعود بالأفعال.
البروفسور ابرهيم سليمان أميركي من أصل سوري قام بمفاوضات غير رسمية بين سوريا وإسرائيل بموافقة غير معلنة في عهد الرئيس حافظ الأسد. عضو في معهد الشرق الأوسط للسلام والتنمية. ترجمت النص عن الانكليزية نسرين ناضر: