ماذا يريد الكرد في سوريا؟
زيور العمر
وهم يتحاورون فيما بينهم و يتناقشون حول ما يريده الكرد في سوريا، و ما يطالبون به، و ما لا يجب أن يطالبوا به، صرخ أحدهم غاضبا ً من هذه الأسئلة و سياقاتها. ” ألا تعرفون حتى الآن بماذا يطالب الشعب الكردي بعد كل هذه العقود من العمل و النضال؟… ألا تطالب بعض الأحزاب الكردية بحق الإدارة الذاتية للمناطق الكردية، و أخرى بالحقوق السياسية و الثقافية و الإجتماعية؟ ” و يستطرد ” ألا تعرفون أن قضية الكرد في سوريا هي قضية أرض و شعب، و هي ليست قضية عادية يمكن أن تحل على أساس المواطنة المتساوية، كما جاء في وثيقة إعلان دمشق؟ “. هذا الحوار، و إن جرى على الإنترنت بين لاجئين كرد في الخارج، إلا أنه يعكس النقاش العام الذي ما فتأ يتصاعد بين النخب السياسية و الثقافية الكردية في السنوات الأخيرة.
في السابق كانت جميع الأحزاب الكردية، و بدون إستثناء، تطالب ﺑ «الحقوق السياسية و الثقافية و الإجتماعية » للشعب الكردي في سوريا، و تغيرت هذه المطالبة منذ بدايات التسعينيات من القرن الماضي الى صيغة « الحقوق القومية المشروعة » مع ظهور حزب يكيتي الكردي في سوريا. و بعد أن أعتبرت كل هذه المطالب غامضة و تعرقل بوصلة النضال القومي الكردي على الإتجاه الى المستقبل، ظهرت في برامج بعض الأحزاب الكردية، مطلب جديد ألا وهو « حق الشعب الكردي في الإدارة الذاتية لمناطقه ». و عندما لم يشفي التوجه السياسي الكردي الجديد، غليل النشطاء الكرد، بسبب تعنت الأحزاب العربية السورية المعارضة، إزاء فكرة الوجود القومي التاريخي للشعب الكردي في سوريا، و إعتبارهم جزء من النسيج الوطني للبلاد، لاقوا ما لاقوه بسبب سياسة التجهيل و الإقصاء من قبل النظام بحقهم، و إن من شأن إقامة النظام الديمقراطي و تحقيق المساواة الكاملة بين المواطنين السوريين، بمختلف الإتجاهات القومية و الدينية، أن تحل الى جانب المسائل الوطنية الأخرى، المسألة الكردية.
و بسبب تحول جانب من النقاش و الحوار، إن لم نقله جله، بين الكرد أنفسهم، بدلا ً أن يكون بين النخب الكردية و العربية، بسبب حدة الصراعات و التنازعات الحزبوية الكردية، و سعي البعض لجعل المسألة مادة للمزايدة السياسية على خصومهم، اكثر من أن تكون مشروعا ً سياسيا ً للحل السياسي للمسألة الكردية في سوريا، نقول بعد هذا التحول، اصبح المشهد السياسي الكردي في سوريا يغوص أكثر في الغموض، و أضحى خطابه القومي ينطوي على المزيد من التناقضات الصارخة.
هذا في الوقت الذي يحاول فيه العديد من النخب الكردية أن يشبه التجربة الكردية في سوريا، بالتجربة الكردية في العراق، رغم الفوارق الواضحة في العوامل الجيو─ سياسية بين الساحتين، و طبيعة و بنية الشخصيات و الأحزاب على طرفي الحدود، و موازين القوى التي يشكلها كل طرف في ساحته الوطنية بصفة خاصة، و على المستويين الإقليمي و الدولي بصفة عامة.
فمنذ أن تشكلت حركة التحرر القومية الكردية في العراق، إعتبرت نفسها معنية ببقعة جغرافية محددة، هي إقليم كردستان العراق، الذي يعيش فيه الى جانب الكرد، المسيحيين و التركمان و بعض العشائر العربية، لذلك إعتبرت نفسها أحزاب كردستانية مسؤولة عن حماية جميع القوميات المتعايشة في كردستان، و ليس فقط الشعب الكردي وحده، و هو ما يفسر، على سبيل المثال، إنضمام العديد من إبناء الشعب الأشوري الى الأحزاب الكردستانية في العراق، و خاصة في الحزب الديمقراطي الكردستاني، بينما إلتزمت الأحزاب الكردية في سوريا منذ البداية الدفاع فقط عن الشعب الكردي، رغم التنوع القومي و الديني في المناطق الكردية في سوريا، و هو ما يفسر وصف الأحزاب الكردية نفسها، بالكردية، و هو أيضا ً ما يفسر في جانب أخر و لاحق، الإنعزال و التقوقع القومي الكردي في البلاد. و إلى جانب الفوارق الجيو سياسية، فإن الأحزاب الكردستانية في العراق، خلال نصف القرن الأخير على الأقل، كانت أقوى الأحزاب السياسية و العسكرية في الساحة العراقية من حيث الإمكانات المادية و البشرية، ناهيك عن الوزن الإقليمي الذي مكن لها نسج شبكة واسعة من العلاقات الدولية، بالإستفادة من تناقضات النظام العراقي السابق مع جواره، بينما الأحزاب الكردية في سوريا، ضعيفة، و قياداتها خفيفة الوزن، لا تمتلك قاعدة شعبية و لا أي وزن في الشارع و بين الجمهور الكردي.
كان من المنتظر أن تتخذ الأحزاب الكردية في سوريا من الأحداث التي جرت في 12 آذار 2004 و الإنتفاضة الجماهيرية التي أعقبتها، فرصة لإحداث مراجعة شاملة في تصوراتها و مواقفها، و إعادة النظر في تركيبة أحزابها، من أجل الوصول الى صياغة حالة سياسية كردية واقعية، تنسجم مع طبيعة و ظروف المسألة الكردية في سوريا، وموازين القوى الداخلية و الدولية.
إلا أن ما حدث هو أن هذه الأحزاب ظلت تراوح في مكانها، عاجزة عن الحركة و التقدم، وأصبحت مع مرور الوقت عالة على شعبها، أكثر من أن تكون معينة له. فتناقض الشعارات المطروحة من لدن الأحزاب الكردية مع الواقع الكردي، اصبحت كلعبة فك الكلمات، حان الوقت للإمعان في الآثار الخطيرة المترتبة على إستمرارها و بقاءها بهذا الشكل. و بات إزاء هذا التحدي من واجب النخب الكردية الحديثة العهد ان تبحث من جديد في الوضع القائم، و أن تجد لها مخارج سريعة من جميع المناحي.
إن إصرار البعض، لغايات في نفسه، على أن قضية الكرد في سوريا، هي قضية شعب و أرض، لا تفي بالغرض، و لا تشكل لب المشكلة، و إذا كانت كذلك، فلتغير جميع الأحزاب الكردية أسمائها، الآن، من الحزب الفلاني الكردي، الى الحزب الفلاني الكردستاني، مع المطالبة بحق الإدارة الذاتية للمناطق الكردية في ظل نظام لا مركزي، بدلا من حق الشعب الكردي في إدارة مناطقه بذاته، أو أي مطلب أخر، فنحن لا نعيش في جزيرة نائية لا يعيش فيها سوى أبناء العمومة و الخوالة، و إنما يعيش الى جانبنا سريان و أرمن و عرب، و يقع على عاتقنا مسؤولية الدفاع عن هؤلاء، و التعبير عن طموحاتهم و آمالهم، و ترغيبهم في محاسن العيش المشترك، و التطلع الى المستقبل،. هذا كان مختصر لإحدى الخيارات الواقعية التي يمكن البناء عليها. أما الخيار الأخر فهو صياغة سياسة تقوم على المطالبة بقبول التعدد القومي و الديني في سوريا، و حل المسألة الكردية في البلاد على خلفية هذا التنوع، من خلال تأمين حق الشعب الكردي الى جانب القوميات و المكونات الأخرى في المشاركة السياسية و المساواة، و هنا يبرز الجانب الثقافي و اللغوي كأهم مرتكزات تجسيد الذات القومية للشعب الكردي من خلال حق التعلم و الدراسة باللغة الكردية. فالإقرار بالتنوع القومي و الديني في البلاد، من شأنه أن يبرز الكرد كأحد أهم مكونات المجتمع السوري إلى جانب العرب، و أن يؤدي ألى إلغاء جميع المشاريع و السياسات العنصرية التي طبقت بحقهم، و أن يؤمن لهم حق المشاركة السياسية الكاملة، فضلا ً عن التحدث و التعلم و الدراسة بلغتهم القومية. فإذا كان الجميع يعتقد أو يعلن أن حدود هذه البلاد تشكل الحدود النهائية للطموح القومي لمكوناته، فلا بد من تأسيس الدولة الوطنية العصرية الحاضنة و الحامية و المعبرة عن طموحات و مصالح جميع أبناءها.
بعد مرور إثنين و خمسين عاما ً على تأسيس أول حزب قومي كردي في سوريا، حان الوقت للمراجعة و التقييم الشامل لمجمل السياسات و الشعارات و الهياكل الحزبية القائمة، و إلا بقى الحال على ما هو قائم، من ضعف و عجز.
ايلاف