صفحات مختارة

هدر الثروات العربية

خالد غزال
أشارت الصحف إلى أنّ خسائر العالم العربي في الأزمة الاقتصادية التي ضربت العالم منذ أواخر العام الماضي قد بلغت حوالي 2500 مليار دولار، دفعتها الدول النفطية ومستثمرون عربٌ ورجال أعمال وظّفوا رؤوس أموالهم في البورصات العالمية. يثير رقم الخسائر أسئلة تتجاوز أصحاب الأموال لتطرح مسألة الثروات العربية، وكيفية التحكّم بها واستخدامها بالعلاقة مع متطلّبات المنطقة وشعوبها، وحقوق الملكية لهذه الثروات. لكنّ السؤال الأهمّ الذي يثيره هدر هذا الحجم من الثروات يتّصل بواقع المنطقة العربية التنمويّ من جهة، واحتياجات الملايين من أبناء البلدان العربية من جهة أخرى.
تكفي نظرة سريعة على واقع العالم العربي من جميع الجوانب لتظهر حجم المأساة، لا يخلو تقرير محلّي أو إقليمي أو دوليّ عن العالم العربي، دون الإشارة إلى أنّ المنطقة تضمّ أكبر نسبة من الفقراء والمعدمين والذين يعيشون تحت خطّ الفقر، وتتسبّب المجاعات في إبادة الآلاف منهم كلّ عام. يضاف إلى الفقر حجم البطالة والعاطلون عن العمل الذين يصل عددهم إلى الملايين، وهو رقم يشهد ازدياداً كلّ عام ويطال جميع فئات المجتمع، بحيث بات مئات الآلاف من خرّيجي الجامعات عاجزين عن الحصول على فرص عمل لهم داخل بلدهم أو في إطار العالم العربي الشامل. أمّا عن حجم الأميّة، فتجمع كلّ التقارير على أنّ العالم العربي يقع في أسفل الدرك بين شعوب العالم، من حيث حجم غير القادرين على القراءة والكتابة الذين تصل أعدادهم الى حوالي 70% من سكان العالم العربي. تكتمل هذه الصورة القاتمة مع التزايد غير المحدود للسكان، ويتسبّب بمزيد من المآسي للشعوب العربية.
تفتح هذه الأرقام حول واقع العالم العربي الأعين على التخلّف العربيّ الشامل وعلى كيفية توظيف الثروات العربية فيه. من حقّ كلّ مواطن عربيّ أن يطرح السؤال حول ملكية الثروات ومن له الحقّ في التصرّف بها. إنّ خسارة الرقم المشار إليه وفق منطق حاجات التنمية العربيةومتطلّباتها، يكفي نصفه لإنعاش الدول العربية وإنمائها وسداد ديونها، بما يضعها على سكّة التقدّم الاقتصادي والاجتماعي. فتبخّر هذه الأموال يمثّل طعنة في الصميم لهذا الانسان العربيّ، الذي من حقّه أن يعتبر ثروات بلاده جزءًا من ملكية عامّة يجب وضعها في خدمة الشعب، وليست ملكيات خاصّة يتمتّع بها أشخاص صدف وجودهم في هذا البلد أو ذاك وعلى رأس السلطة فيه.
يطرح هدر الثروات العربية الآثار التي تنعكس على الإنسان العربيّ في ميادين متعدّدة، وتتسبّب في هدر شامل لهذا الإنسان نفسه. يمكن في هذا المجال التطرّق إلى نتائج ثلاث تتّصل بآثار هذا الهدر. يتّصل الأثر الأوّل بالعوامل النفسية التي يتسبّب بها تخلّف الإنسان العربيّ اقتصاديّا، وانعكاسات ذلك على كيانه المادّي والمعنوي. إنّ أقلّ ما يشار إليه هنا يتّصل بالأزمة الوجودية للإنسان العربيّ، والتي تؤدّي إلى حالة من الإستلاب والقهر والعجز الشامل. فالتنمية اليوم تركّز على الإنسان بشموليته بحيث يشكّل هذا الإنسان المدخل لمشروع التنمية. يشير تقرير التنمية الإنسانية العربية الصادر عن الأمم المتحدة عام 2002 إلى هذا الجانب بالقول :”الثروة الحقيقية للأمّة العربية تكمن في ناسها، فهم أمل الأمة وثروتها. وتحريرهم من الحرمان بجميع أشكاله، وتوسيع خياراتهم، لا بدّ أن يكون محور التنمية في البلدان العربية”. فالإنسان العربي المستلب هو إنسان عاجز عن العطاء والبناء وغير قادر على المساهمة في تطوّر المجتمع. يضاف إلى ذلك نتيجة أخطر تتّصل بفقدان هذا الإنسان لحصانته الإنسانية تحت وطأة الحاجات المادية والركض وراء لقمة العيش، بما يجعله فاقدًا لاستقلاليته كإنسان، مستسلماً لقدر تأمين الحاجات، وهي أقصر الطرق لإذلاله وإهانته وفقدانه لكرامته وحقوقه كإنسان.
النتيجة السلبية الثانية لفقر المواطن العربي وبؤسه، تتصل بكون هذا الفقر يشكّل تربة خصبة لنموّ وازدهار حركات التطرّف الأصوليّ ومادّة للتصعيد الإرهابي. يجمع دارسو الحركات الأصولية في العالم العربي على الإشارة إلى عنصر الإحباط واليأس الناجم عن الحرمان والفقر وانسداد آفاق المستقبل أمام أجيال شابّة من أبناء الوطن العربي، بوصفها عنصراً مركزياً في لجوء هذه الأجيال إلى الحركات الأصولية والعمل تحت رايتها، إضافة إلى أثر هذا الحرمان في تصعيد نزعات العنف لدى هذا المواطن. يعاني العالم العربي، كما جرت الإشارة، إلى واقع مرير من الحرمان الشامل، والناجم عن فشل مشاريع التنمية الاقتصادية والاجتماعية في إنعاش وتحسين مستوى معيشة المواطن وتأمين مستقبل الأجيال. وهو فشل تأتي في أولوياته كيفية توظيف الثروات المادية الهائلة المتوفرة في الوطن العربي، والتي تستخدم في معظمها خارج حاجات أبنائه. هذا الفشل الذي يقع على عاتق الأنظمة السياسية، شكّل المادّة الخصبة لحركات الإسلام السياسيّ وغيرها من حركات التطرّف لتقدّم نفسها في وصفها الجواب الخلاصي لإنقاذ ملايين العرب من بؤس التخلف الذي يعانون منه. لذا لم يكن انتشار واجتياح شعار “الإسلام هو الحلّ” نابعاً من فراغ، بل أتى لسدّ الفراغ الذي تسبّبت به الأنظمة القائمة في قهر الإنسان العربي. سيظلّ هذا الشعار مكتسباً كلّ أهمّيته وقدرته على التجييش طالما أنّّ واقع القهر الراهن يجرجر نفسه، ويقدّم هدر الثروات العربية كلّ يوم حجّة إضافية لاجتياح الشعار العقول العربية.
ترتبط النتيجة الثالثة بما جرت الإشارة اليه، أي إنّ التخلف والفقر السائدين يشكّلان المصدر الأساسي أيضا لسيادة الاستبداد السياسي وتكريسه في العالم العربي. يواجه العالم العربي مسألة السلطة السياسية ومن يملكها، حيث تقوم أنظمة وراثيّة تتصرف بكونها مالكة البشر والحجر، وليس من حقّ المواطن العادي سؤالها عما تفعل، وتتصرف في قضايا تمسّ كيانه الوجودي. لم يكن الفقر والحرمان والبؤس والإحباط في يوم من الأيام أرضًا تنبت فيها نبتة الديمقراطية بما تتضمنه من مساءلة للحاكم ومساواة في الحقوق والواجبات، وإحلال حرية الرأي والتعبير، وإجبار الحكام على وضع الثروات العامّة في خدمة الشعب وتطوّره.. كان الفقر والحرمان عنصرَيْ تكريس الاستبداد في كلّ مكان، والمادة التي تعين الحاكم على الإمساك بالسلطة ومنع تكوّن الحركات المعارضة. بل إنّ التاريخ، القديم منه والحديث، يقدّم شهادات على دور الفقر والإحباط واليأس التي تصيب الشعوب، في تقوية النزعات الفاشية وصعود قواها إلى السلطة، بوصفها جواباً وهمياً تتلمّسه الشعوب خلاصاً وجودياً وكيانياً من أزمتها.
يشير الكاتب السعودي الراحل عبد الرحمن منيف إلى الآثار السلبية التي تركها اكتشاف النفط على الإنسان العربي، فيرى في هذه الثروة “لعنة” بدل أن تكون “نعمة” عليه. لا يجافي هذا الكلام الواقع الحقيقي، بل يكاد يختزله، خصوصاً عندما ندرك المآل الذي وصلت اليه هذه الثروات وكيف وظفت ومنعت في الحقيقة إمكان وجود ميادين لنمو الانسان العربي. شكّلت هذه الثروات مجالاً لشراء المعارضين وشلّ قواهم، واستخدمت في بناء أجهزة قمع وإرهاب لتكريس الاستبداد القائم، وأفسدت الكثيرين من خلال توظيف الأموال في الحاجات الشخصية، وبديلاً عن المساهمة في تطوير وإنماء المجتمعات العربية، وضعت رؤوس الأموال في خدمة الرأسمالية العالمية.. هكذا، ليس من المبالغة في التشاؤم القول بأنّ هدر الثروات العربية يساوي بالتمام هدر الإنسان العربي في كلّ أبعاده ومستويات وجوده. إنه إنكار لإنسانية هذا الإنسان واحتقارٌ لقيمه وحقه في الحياة الكريمة. إنّ هذا الهدر للثروة مأساة عربية بكل معانيها وأبعادها، والأصعب فيها تلك الديمومة المتواصلة والعجز عن اختراقها.
موقع الآوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى