التمثالُ والاسمُ: نهبُ الخيال
محمد دريوس
أقامتْ حركة طالبان الدنيا ولم تقعدها إلا رغما، بحرب كارثية أقامت هي الأخرى الدنيا ولن تقعدها، عندما قامت في آذار (مارس) 2001 بنسف التماثيل الثلاثة لبوذا، المضطجع منذ خمسة عشر قرنا، في باميان وسط أفغانستان، منصرفا عن شؤون الدنيا ومثاقيلها، ومثلها فعلتْ الولايات المتحدة الأميركية عندما أسقطتْ الشهيرين صدام حسين وتمثاله في نيسان (ابريل) 2003، مع فارق جمّ في الجرعة الإنسانية لتمثالي الشخصين المنسوفين لا للقوتين الناسفتين، وهو ما نتوقعه في جاري الأحداث من سقوط آخر، لنُصب ٍوتماثيل في غير أمكنة سواء بالرداءة الأمريكية أم بالهزء الأصولي، طالما أن التاريخ ليس أكثر من مقترح كتاب يُطالع مثله مثل قائمة الطعام في الردهات الرئاسية للشرق المتأسّي، وفي الأصل، التمثال تصوّر لكمال ٍعلى هيئة ٍمجتلبة ٍمن مقتنصات الخيال، و تبعيض للكل ِّفي متأتّى حجري طالما ألهب َويُلهب مكامن المتخيلين، على جناح، لا جنحة، الاستفاضة في الكَمْن للخلود باختيار ِالحجر وهو مادّة الخيال الأولى في تطويب الخلود، عنصرا، رغم فقره الناجم عن برودة في تعاطيه مع المكان، إلا الطبيعة، ولاحقا باختيار مادة أكثر صلابة وبقاء مثل البرونز أو الفولاذ، ورأينا كيف أن تمثال صدام حسين صمد أكثر من صدام حسين نفسه في جولة ملاكمة مع الأزل حين يتخذ شكل مجنزرات حربية، حين رأينا بأم العين وأختها هداية الفولاذ تستحيل قطنا مندوفا باستخدام عقل الديناميت الأمريكي .
والتماثيل في عهدها الأول لم تكن سوى تشبيه للحي، درءا للشرّ وإبعادا للخطر، يُراد منها الرمز لا ختمة الجمال البشري بكماله غير المتعرَّف عليه آنذاك و المختلق لاحقا من أتباع هوليوود على هيئة باربي أو أرنولد، إنما يُقالُ أنه الإفراج الأول للخيال عن شكل الحيوان أو إله الصيد وهو انحراف معماري أدرجته بدائية الإنسان، صنعة ً، للشكل، لمساعدته على تصريف طعامه وعبادته ونزواته، فنرى في الحفريات الحديثة مُشكَّلات بدئية لما كانت عليه فكرة البشر عن الآلهة في ذلك الزمان من الزمان، ونرى كيف نظر ذلك الإنسان إلى الجنس والخمر والصيد وربما السوشي والهامبرغر.
متى إذن استقرّت الهيئة كمالا وتناسقا في المعايير المكلفة باهظا، في فن النحت والتصوير؟
ربما نشوء الرياضات في أثينا وما صاحبها من احتدام، حربي في جوهره، ساهم في تشكيل البأس المتخيل لما يجب أن يكون عليه الذكر أو المرأة / المثال، المثال الذي تنازعته شرطتان، شرطة التنافس في التعارك الرياضي وشرطة استيلاد المثال الأنقى للعرق الأنقى، قبل أن يستقرَّ الخيال ُالشرقيُّ على إسباغ ألوهية غير مشروطة على الحاكم ومن ثمَّ رفع النصب والتماثيل له، موصوفة بالتذكارية بينما هي إرهابية تهدّد أكثر مما تَعِدُ وتقوم مقام السيف لمن فاته لمَح السيف، والتمثال، لغة ً، مبني على المثال، على كنه الكمال أو ما يجب أن يكون عليه الكمال في معرفة الماهية وعندنا هو استنباط الأحلام لفتية يغالبون النعاس كل صباح وهم يردّدون أن أمّة عربية واحدة وذات رسالة خالدة هي كل ما يرجون من الدنيا والدين وأن الوحدة والحرية والاشتراكية بعض كرياتهم الحمراء التي تجري في أوردتهم، جري الأرانب في الغابة، وفي اللغة أيضا أن المماثلة غير المساواة، لا تكون إلا في المتفقين جنسا، حسب ابن برّي، ولونا وطعما ومعرفة وذكاء، حسبنا، فلننتخب التمثال إذا اقتضى الحال .
أجزم ُوفي كل جزم ٍمخاتلة، فأختلُ وأجزم ُأن في كل بشريّ مثالاً مجتلباً من توصيفات اليقين، لكنه من النوع الرديء صنعة وتشكيلا، ونحن، باعتبارنا بناة التماثيل الأول ومقتنصي مفاتنها حسب ما تورده البعثات الاركيولوجية في حمانا، لا نشذُّ عن معقول الختل، لكن هذه الريادة لم تسعفنا في تكاليف حياتنا اللاحقة بعد الاستقلال، الأمر الذي أورثنا فشلا في تحقيق المطابقة بين المثال والتمثال، أو أن الحاكم لم يرضه المآل الذي وضعه فيه مثّالو العهد الوطني فآثر الإتيان بمثّالين من الأقاليم التي عرفت عبادات مشابهة لصاحب الدولة وحارس طيورها، ليقوم بتقويم الخيال السوري وتدريبه على الإتيان بالمطابقة، استيراد يُراد به سدّ الثغرة في الانتحات الوطني، نحّاتٌ سوفييتي كانت له اليد الطولى في تحرير أدوات نحاتي السلطة الأزلام وفي تحديد أطوال أزاميلهم وثقل مطارقهم، حتى أنشأنا كلية في جامعة لتفريق معنى اليد المرفوعة لسلام الشجعان عن اليد المرفوعة لتهديد الرعاديد، في القياسات المنصوبة في كلِّ كل .
يا للخيال! البقر يتربى في الحظائر أملا في إدرار ٍأعمّ.
والخيال الوطني فقيرُ الهيئة مذ أحكم العاملون في مخابره، القبض على تردّدات الهمس في مفاتنه، بعسكر التمكين، وأنجزوا ترجمته إلى مقاسات تُعدُّ بأصابع اليد المقطوعة أما الباقي فهُمّش وطُرد وأُعدم تهميشا وطردا حتى باتت للغة تماثيل على صنوف اتحادات / تماثيل، وللمسرح تماثيل وللتماثيل تماثيل، وهذا ما يقودنا للصلافة الأخرى في نهب الخيال وتجريده من كبريائه المتجبّر على مرّ العصور، إلا على محفّة الشطح الحزبي، ففي مفرق كل مفرق وهواء كل ساحة، نصب يُدار بالأسماء على بديهة أصحاب الشأن من ذوي ختل المناصب في إطلاق التسميات، فتسمّى ساحة الربيع الذي رطّب بال القائد، أو شارع معطف السيدة الأولى أو مبنى قميص ولي العهد الأزرق، وللاسم أقسامٌ تندرج في تدبير المنادى، مفردا ومثنى وجمعا، والاسم يعيّنُ مسمّاه مطلقا، دون حاجة للمضاف أي من غير لاحقة تقيّد القرينة بالتملّك أو بالخطاب، كمثل إلقاء اللواحق على عواهن اللواحق، خصوصا عندما تطغى اللاحقة فتمحي الاسم عينه نحو ما يفعل الفاعلون عندما يلحقون الوطن بالقابض على ‘زمّارة رقبة’ الوطن أو عندما يذهبون بالشكر له وكأنه هو هو من فقد ابنا أو أفنى عمرا في المتاريس أو دفع شيكا من أمواله ثمن مصالحة بين عشيرتين مختلفتين على لون الباذنجان الوطني، والاسم، مرّات، اقتناص لحظة في الحديقة الخلفية للأب المتظلّم من خفّة أبنائه، ومرات ختل ٌمصحوبٌ بوهم المعنى، كأن يسمى الوليد ‘ذكي’ على أمل الاستنارة، فيطبق بغبائه الآفاق، أو ‘رهيف’ فيترك ظلّه خطا على الأرض لفرط سماجته أو ‘باسل’ فينشأ جبانا ختّالا. إذن لا غلوّ، هكذا نسمّي أولادنا، باستعمال المأمول منهم والمتخفّي عنا أو يتشارك الرهاب التاريخي /الخدر في لحظة التسمية فيطبقُ الحافرُ على الحافر، حافرُ الخدر على حافر الحرف، فيُحكى عن أسماء ٍ طغتْ في مفاصل تاريخية معينة، تزامنت ْمع صعود ِنجم ِزعيم ٍأو حزب ٍأو رئيس ِعصابة، فبعد نجاح ثورة الضباط الأحرار انتشر اسم ناصر، كمآل يتناسب مع السطوع البهي المصحوب بشفاعة الاسم، وكذلك اسم صدام واسم بعث و انتشرت أسماء في المدود التركيبية لليسار العربي على نحو يسار وستالين وناديجدا وحتى البكداشيون وجد من أعجب بزعيمهم فسمى ابنه خالد تكريما له، هذا عن أسماء الأشخاص أما عن أسماء الأمكنة فحدّث ولا حرج عن جرائم ارتكبت بحق ذاكرة الأمكنة من تعريب وتطييف (من طائفية) لأسماء الأمكنة، على هدي صاحب الهدي، معرفة أزلية وحقّة بوجوب ما يجب أن يكون عليه اسم المكان، ولاحقا ذاكرته المتأسسة بتعاليم الحزب المهيمن، في نزعِ
قدسية المعنى عن الاسم، والمعنى صيّاد يبتكر فريسته /الاسم بهدي الصوت وهدي الشكل، فكيف نسمّي بلدا فقد شكله وصوته، وكيف نجد معنى لما لا اسم له، واسما لما لا معنى له؟
نقول أدبٌ دجاجة ونقول زبدة بلا دسم.
شاعر من سورية