عصر رأس المال لإيريك هوبزباوم: رابحون وخاسرون
عادل نصّار
بأسلوب تأريخي أمين للنظرية الماركسية التي تولي الشأن الاقتصادي أهمية مركزية في تفسير التغيرات التي تطرأ على المجتمع في مختلف أوجهه، يؤرخ إريك هوبزباوم في كتابه “عصر رأس المال”، الصادرة ترجمته حديثاً عن المنظمة العربية للترجمة، للفترة الممتدة بين 1848 و1875، متقصياً الأثار المباشرة وغير المباشرة لما يسمّيه التاريخ الفعلي لبداية سيادة منطق رأس المال في علاقات الانتاج.
يقول بداية إنه، وغداة هزيمة الثورات التي عمت أوروبا والطامحة آنذاك إلى اجراء تغييرات على الصعيد الاجتماعي وأنظمة الحكم، لجأت الاريستوقراطية الحاكمة في معظم بلدان هذه القارة إلى إجراء تسويات موقتة مع البورجوازية الصاعدة، عبر الإفساح في المجال لها للتحرك في الأسواق واطلاق يدها في المشاريع الاقتصادية التي تنوي تنفيذها. هي كانت تأمل بذلك أن تحد من الخطر الذي تمثله طموحات شعوب تلك البلدان والتي كانت تنال تعاطفاً من هذه البورجوازية التي كانت ترى فيها رأس حربتها لزعزعة استقرار النظام الأريستوقراطي الواقف في وجه طموحاتها.
عززت هذه التسوية التي قامت آنذاك، من فرص الهدوء في القارة وأبعدت موقتاً شبح اندلاع ثورات اجتماعية جديدة، وإن لم تمنع نشوب بعض الحروب الموضعية التي قامت إما لقمع تمردات بعض الأقاليم وإما لاجبارها على الانصياع لقرارات الضم، تماماً كما حصل مع بعض سياسات بسمارك رئيس حكومة بروسيا آنذاك.
سمحت التسوية للبورجوازية بأن تتفرغ لتنمية أعمالها مستغلة طفرة الاكتشافات العلمية التي سادت تلك الفترة حيث عملت سريعاً على توظيفها واستثمارها في مشاريعها وأنشطتها الاقتصادية، فشهدنا للمرة الأولى انتشار الآلة البخارية وتوسع شبكة السكك الحديد.
وعلى رغم أن البورجوازية لم تتسلم مقاليد الحكم وتركت هذا الشأن للاريستوقراطية، إلا أن تأثيراتها بدت جلية في تلك الفترة، حول اطلاق العنان لفكرة القومية وضرورة انشاء الدولة وفقاً لهذا المفهوم القائم على وحدة جفرافية واثنية ولغوية. كان هذا الأمر في رأي هوبزباوم سيؤدي إلى اشكالات لا حصر لها للبورجوازية التي طمحت من خلال هذه الاطروحات إلى تعميم منطق ليبيرالي معتقدة خطأ أنه سيؤدي في النهاية إلى إمكان تعايشها مع دول تشكل نقيضاً للدولة الأمة القائمة آنذاك، مثل بريطانيا وروسيا وبروسيا. شهدنا طفرة في الدعوات لاقامة الدول وفقاً لهذا المنطق السالف الذكر. لم تتقدم فكرة القومية وحدها في ذلك العصر بل رافقتها أيضاً مفاهيم أخرى مثل الديموقراطية وضرورة المشاركة في الحكم عبر الانتخابات، فشهدنا تعديلات أساسية في بلدان أوروبية عدة في انظمة حكمها مستندة الى المبادئ الديموقراطية، وإن أبقتها في أطر محدودة وضيقة للغاية مثل اقتصار حق الاقتراع لأشخاص حددتهم الأنظمة الأريستوقراطية بما يتوافق والنظام العام القائم، إضافة الى منع اي تهديد يهدد مصالحها الاقتصادية، وخصوصاً أن شبح ثورات 1848 كان لا يزال يخيم في سماء أوروبا، وقد اعتبر الأمر آنذاك تنازلاً قامت به الأريستوقراطية مراعاة للبورجوازية الناهضة والمتسلحة بأفكار ومفاهيم مغايرة.
من جهة أخرى كان للتجارة المزدهرة مع أماكن أخرى من العالم والتي أمدّتها الاكتشافات العلمية بطاقة لا مثيل لها وخصوصاً مع انطلاق السفن التجارية والسكك الحديد التي أطلقت ثورة في مجال السرعة والاتصال، اثر شديد على حركة تبادل السلع وانتقالها وانتقال البشر. وكان لاكتشاف الذهب في كاليفورنيا أثره الكبير في هذا المجال حيث شهدنا آنذاك أكبر موجة هجرة بلغت حوالى التسعة ملايين مهاجر منتقلين ليس فقط إلى كاليفورنيا بل إلى أرجاء أخرى من القارة الأميركية وأوستراليا وكندا.
يقول المؤلف إن هذه الاكتشافات والاختراعات يسّرت أمور الامبراطوريات في مستعمراتها وخصوصاً البريطانية منها، لكنها فرضت معضلة على أبناء هذه المستعمرات في كيفية التعامل معها، لأنها تفرض تحدياً من نوع آخر قائماً على الاعجاب بالحضارة الجديدة وبالمفاهيم الحديثة. وكان من شأن هذا أنه قسم هذه البلدان بين فئة متعلمة تنشد التعاون والتعلم، وفئة تريد الدفاع عن تقاليد بلادها، وفئة حاكمة استغلت الأمر لمزيد من التعاون مع الامبراطوريات طمعاً بالحفاظ على حكمها.
كان المصير الأسود الذي آلت إليه هذه البلدان معروفاً، أما الرابح في هذه المعضلة آنذاك فكانت اليابان التي حسمت أمرها في اتجاه التعامل الايجابي مع واقع الغربنة المفروض من الخارج. ومما لا شك فيه أن الكاتب يظهر تأثره الشديد بمقولة ماركس حول الطاقة التثويرية للقوى الامبراطورية المتطورة والتي تحتل بلداناً متخلفة مثل بريطانيا والهند التي يأتي على ذكرها مراراً في هذا الفصل من الكتاب. ثمة رابح آخر أكبر يقول الكاتب في تلك الفترة إنما لأسباب أخرى وهي الولايات المتحدة الاميركية، القوة الصاعدة بفعل خيراتها واتساعها وتطور صناعتها واستخدام العلم وتسخيره في خدمتها. ولا ينسى الكاتب التذكير بالطفرة العمرانية التي حدثت بفعل اكتشاف الذهب في كاليفورنيا وانتصار الشمال الصناعي على الجنوب الزراعي المتخلف في الحرب الأهلية التي جرت بينهما، مما مكّن أميركا من تدعيم قوتها وسهّل انطلاقتها.
هذا على صعيد الأثر الذي تركته سيطرة رأس المال كأسلوب اقتصادي في الداخل الأوروبي والخارج، أما كيف واجهت البورجوازية مشكلات إدارة مشاريعها المتوسعة باستمرار والمتزايدة انتشاراً، فيلاحظ الكاتب أن أسلوب الادارة الابوي لم يعد يجدي نفعاً، ذلك أن هذه المصانع لم تعد قائمة على مئة أو مئتي عامل التي كان يفيد معها هذا الأسلوب في توجيه الأوامر ومراقبة سير العمل فيها. ففي مشاريع تقتضي توظيف الآلاف كما هو حاصل مع مشاريع بناء السكك الحديد أو مصانع الفولاذ، اقتضى ايجاد فلسفة أخرى، وأمام عجز البورجوازية عن اجتراح شكل جديد لإدارة عملياتها الصناعية لجأت إلى الأسلوب العسكري الهرمي البيروقراطي.
أما في الجانب الاجتماعي فقد حافظت البورجوازية على العائلة وعزلتها عن الخارج، وإن بصورة مليئة بالفصام حيث يمارس فيها الخداع والسلطة الذكورية. إلا أن الكاتب يسجل تأثيرات أخرى لرأس المال مثل الفنون على أنواعها من الموسيقى إلى العمارة والرسم والتصوير الفوتوغرافي، وإن كان يعتبر أن الرواية اعتبرت وليدة هذا العصر وشكلت ذروته الفنية ودرة تاجه، ويسجل الكاتب للبورجوازيين صنّاعاً وتجاراً أنهم باقتنائهم الأعمال الفنية ساهموا في اعلاء شأن الفنون التي عاملوها بصفتها شأناً مقدساً الأمر الذي ترك أثراً ايجابياً على الفنانين والفن عموماً.