نقد ثقافة التقديس
د. رشيد الحاج صالح
المتأمل في فلسفة «المقدّس»، يجد أن الناس تقدس فكراً معينا أو شيئا محددا أو مذهبا بعينه، لأن المقدسات تمنحها المكانة الاجتماعية وقوة السيطرة، أو لأنها تعوضها عن عجز ما، وتساعدها على نسيان واقع مرير. فالإنسان الذي يقدّس أمرا ما، هو إنسان فقد الثقة بقدرته على صنع واقعه ومستقبله. وبما أن ذاته ليست مؤهله لأن تمنحه قيمة وهوية، فإنه سرعان ما يبحث عن القيمة والهوية في المقدّس، عبر ربط الذات بهذا المقدّس ذي المكانة المرموقة. فالمرء عندما يخاف على المقدّس ويلجأ إلى الدفاع عنه، فإن خوفه هذا نابع من خوفه على ذاته، ودفاعه ذاك نابع من دفاعه عن ذاته، طالما أن ذاته لا قيمة لها ولا هوية من دون المقدّس الذي تنتمي إليه، فالذي يدافع عن المقدّس، لا يدافع عن الحق في وجه الباطل، ولا عن الخير في وجه الشر، كما يحلو له أن يصور الأمر، بل يدافع عن ذاته بكل بساطة.
هذا الربط بين مكانة الذات والمقدّس، يجعل الذات تابعة للمقدس لا تعرف سوى الخضوع له وخدمته أياً كان الثمن. وهذا يعني إلغاء الذات غير الواعي لمصلحة المقدّس، وهذا هو المدخل الواسع لما يسمى بـ«التعصب». فالتعصب هو الاعتقاد بأن مقدسي على حق ومقدسات الآخرين على باطل، بحيث تتحول مقدسات الآخرين إلى متربص بوجودنا وهويتنا.. ولذلك فإن التفكير بصوت عال في المقدّس، والتأمل في سلطته وجبروته، أمر لا يمكن قبوله بسهولة، لأنه تجاسر على البنية النفسانية للشخصية العربية التي ربيت على احترام المقدّس وتبجيله. فالتقدّيس يعني الضعف، ويعني الخوف، ويعني الجهل، ويعني الاستسلام. والإنسان القديم قدّس قوى الطبيعة آنذاك، لأنه ضعيف أمامها، ويخافّ كوارثها، ويجهل أسبابها، ولذلك استسلم لها بتقديسها. واليوم نحن نقدس القائد التاريخي، لأننا نفتقد له، ونقدس الدكتاتور لأن بنيتنا النفسانية الداخلية تخافه، واستسلامنا له يبهجه ويكفينا شره. ونقدس حقنا في فلسطين تعويضاً عن عجزنا عن تقديم أي شيء لذلك الحق.
كما أن التقديس فعل مخالف للعقل والتفكير الواقعي، لأن الذي يقدس أمرا ما، لا يفكر فيما إذا كان هذا المقدّس واقعيا أم وهميا، نافعا أم ضارا، عقليا أم عاطفيا.. من المستفيد منه ومن الخاسر، وما هي قدراته الحقيقية على حل مشكلات المجتمع؟. على العكس من ذلك، يقوم المقدّس بإعادة تشكيل الواقع والعقل والمنطق بما يناسبه ويخدمه، فتغدو كل الوقائع هي علامة على صحة المقدّس، وكل الأحداث ضرورات تؤكد اللجوء إلى المقدّس. وكل الشرور دليل على أننا ابتعدنا عن المقدّس. ففي السياسة مثلاً، قدسنا حق الشعوب في تقرير المصير نصرة لفلسطين، ونسينا حقوق الإنسان، فأدخلنا إلى السجون العربية من العرب أكثر مما أدخلت إسرائيل. وقدسنا الوحدة لأنها تمنحنا القوة، وتخلصنا من سيطرة المستعمر، ونسينا أن الوحدة بين مجموعة من الأنظمة الشمولية مصيبة ما بعدها مصيبة، فاعتقدنا أن الوحدة تحل مشاكلنا، ونسينا أن علم السياسة المعاصر يقول إنه علينا أن نحلّ مشكلاتنا مسبقاً استعداداً لوحدتنا المنشودة وخدمة لها، لأن الوحدة هي ثمرة جهد، وليس شماعة نعلق عليها هزائمنا، ومستودع نصدر إليه مشكلاتنا. قدسنا الأفكار السياسية فانقسمنا إلى قوميين وماركسيين وإسلاميين وليبراليين، يخون بعضنا بعضا ويدخله في عالم الكفر والفسق والتبعية. وفي مجال الدين قدسنا النصوص والأشخاص والأحداث والأفكار فانقسمنا إلى عشرات المذاهب والفرق والاتجاهات، فرحلنا إلى الماضي ونصبناه حاكماً علينا يفصل بيننا في كل ما يستجد من الأمور، بحيث اختار كل فريق شيئا ما من الماضي، وفتح له دكاناً، وأسس له حزباً وأخذه ليمارس السياسة من خلاله.
يضاف إلى ذلك فإن المقدّس مقترن بافتقاد الأمن النفساني. فسيولوجيا المعرفة تؤكد لنا أن المقدسات في المجتمعات ذات الأنظمة الشمولية والتقليدية تحتل مساحة واسعة في ذهنية الناس، لأن التقدّيس يتحول إلى مطلب سلطوّي، بمعنى أن تلك الأنظمة تسوق لمقدس ما: ديني أو سياسي أو اجتماعي، وتطالب الناس بتقديسه لكي تلهيهم عن مفاسدها من جهة، ولكي تعطي شرعيتها المطعونة نوعاً من التقديس، بوصفها سلطة تحمي مقدّسا ما أو تدافع عن مقدس ما. وبذلك توفر تلك الأنظمة الأمن النفساني والأيديولوجي لشعوب تعيش في ظل عالم محفوف بالمخاطر.
فهل هناك نقاط ضعف في ثقافتنا أكثر من ثقافة التقديس؟!
كاتب من سورية