صفحات مختارة

أســئلة الحيــارى: التاريخ والحضارة والسير إلى الوراء

صقر ابو فخر
تحفل الحياة الثقافية العربية، ولا سيما في ما نقرأه في الصحف والمجلات، وما نشاهده في محطات التلفزة، بكثير من المعلومات الغريبة والحكايات العجيبة التي ما برحت تتردد في أفواه الناس وعلى مسامعها من غير ان تثير أي ريبة او شك او حتى احتراس معرفي. إن كل رواية مما سأرويه، تبدو مسلماً بها، وقد اكتسبت قوتها من شيوعها لا من صدقيتها. فكأننا في هذه المعمعة غافلون تائهون ذاهلون، مقودون بالتواتر وبالتكرار على غرار كلام المشايخ في خُطب الجُمع.
وعلى سبيل المثال، صار «أبو رغال» مثالاً للخيانة عندما عمل دليلاً لجيش أبرهة الحبشي حينما سار لاحتلال مكة. طيب! لماذا لم يُتهم أمير الطائف بالخيانة، وهو الذي كلف «أبو رغال» هذه المهة؟ بل ان أي كلمة لم تقل بحق أمير الطائف آنذاك، حتى اننا نجهل اسمه الى حد كبير. أما عبد الله بن سبأ الذي حمّله المؤرخون معظم خطايا المسلمين الاوائل، فلم تزودنا المصادر الموثوقة بأي برهان قاطع على وجوده. وعلى الارجح، فإن الذي اختلقه هو المؤرخ سيف بن عمر التميمي، وهو مؤرخ كذوب ومحدّث ضعيف. وكم قرأنا، تكراراً، الخطبة البليغة والرائعة لفاتح الأندلس طارق بن زياد حين وقف بين جنوده يراقب حرق سفنه. لكن، ألم يتساءل احد كيف لهذا المولى البربري الحديث العهد بالعرب والإسلام ان يلقي مثل هذه الخطبة الفائقة البلاغة؟ وكيف يحرق قائد عسكري عدته الحربية كلها قبل بلوغ النصر؟ انه قائد مخبول بلا ريب لو كان فعل ذلك! والراجح لديّ انه لم يحرق سفائنه قط، ولم يبتدع تلك الخطبة المشهورة، فالقصة كلها موضوعة من ألفها الى يائها.
حكايات وأعاجيب
لا اظن انني سأعثر على عربي واحد، حتى لو حملت مصباح «ديوجين» وامضيت عشرين سنة في التفتيش، يزعم ان في الامكان العثور على العدالة في المحاكم العربية، هذه المحاكم التي تعمل بقوانين الطوارئ وبإرادة الحاكم المستبد اولا وأخيراً. ومع ذلك فإن هذه المحاكم تصر على تزيين قاعات المحاكمات بالآية التالية: «وإذا حكمتم فاحكموا بالعدل». أما السجون العربية، وهي كما علمتم، فلا يتورع القائمون عليها عن استفزاز السجناء المساكين، وسجناء الرأي بالدرجة الاولى، فيعلقون لوحات بالخطوط العربية الجميلة للآية التالية: «وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين».
إن هذا الاستخدام غير النزيه للآيات القرآنية ووضعها في غير مواضعها من شأنه ان يمنح اياً كان من الناس الحق في استخدامها في أي موضع. وهذا ما حصل بالفعل، ففي احدى دورات الانتخابات النيابية في مصر، وكان السياسي المعروف اسماعيل صدقي مرشحاً، رفع انصاره (أي هو نفسه) يافطة مكتوب عليها: «واذكر في الكتاب اسماعيل انه كان صادق الوعد». وأحد الحلاقين وضع فوق باب دكانه لوحة كتب عليها: «نحن نقص عليك أحسن القصص» ورسم مقصا الى جانب الآية. أما عمرو محمد الفيصل من السعودية فقد دهش لرفض وزارة التجارة تسجيل احد منتجات شركته نزولاً عند رأي «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، لان اسم المنتج، وهو برنامج المستكشف Explorer يحتوي حرف χ وهو علامة الصليب على رأي تلك الهيئة العجيبة. ويقترح عمرو الفيصل ساخراً إلغاء علامة الزائد (+) وعلامة الضرب ) (x من دروس الحساب كلها «لحماية ديننا الحنيف من تسلل الأفكار الهدامة».
الأتراك وسيدنا عثمان
ليس غريباً، على الاطلاق، في خضم هذا الانحطاط الثقافي والانحلال الحضاري، ان نسمع بعض الخبثاء يتشدقون بعبارات سامة مثل «البلدان الناطقة بالعربية»، او «الاستعمار السوري للقامشلي». هذه وقاحة عنصرية. والوقاحة من هذا العيار لا تبلغ حد الفكاهة أبداً، فالاولى وضيعة بينما الثانية، أي الفكاهة، فهي رفيعة او مقبولة او «مهضومة». ومن الروايات الجاهلة و«المهضومة» معاً ان احد الصحافيين اللبنانيين إبان مؤتمر القمة العربية الاولى في سنة 1963 رغب في ان يتسلى مع سائق مصري في شوارع القاهرة، فسأله عن رأيه في المؤتمر، فقال السائق: إن هذا المؤتمر عظيم ما دام الريس جمال هو الذي جمع العرب كلهم هنا في القاهرة، لكن اولاد الكلب هم الأتراك. ألا تعرف لماذا؟ لانهم تركوا سيدنا عثمان، ولهذا صار اسمهم «الأتراك العثمانيون». أليست هذه هي حالنا التي لا تزال تتدهور منذ 850 سنة؟.
الدوران إلى الخلف
ما زال تاريخنا، أي تاريخ العرب، متسربلاً بالدين بطريقة مهينة. والمقصود إليه هو سطوة الرؤية الدينية على الوقائع التاريخية، وليس المقصود بالطبع تاريخ الإسلام بحد ذاته، فهو شأن يشتبك بقوة بتاريخ العرب منذ نحو 1400 سنة. وفكرة التاريخ عند «هيغل» مثلا تعني السير الى الأمام، أي الترقي المتواصل. أما فكرة التاريخ عند الديانات فهي على العكس من المفهوم الهيغلي، تعني «التقهقر». أي ان التاريخ يبدأ من نقطة ما، ميلاد المسيح او صلبه، او هبوط الوحي على النبي محمد مثلا، وكل ابتعاد عن هذه النقطة هو نقصان، وكل اقتراب منها هو كمال.
لا اتبنى الرؤية الدينية للتاريخ البتة. انها رؤية تؤدي الى عدم المعرفة تماما. وعلى سبيل المثال فإن النبي ابراهيم، بحسب الرواية السائدة ذات المصدر التوراتي، ترك مدينة «أور الكلدان» وسار مترحلا الى بلاد كنعان، واستغرقت رحلته 15 عاماً حتى قطع المسافة من «أور» في جنوب العراق الى «حاران» في شمال سوريا ثم غربا الى فلسطين. غير ان المسافة بين «أور» و«حبرون» (أي الخليل) لا تحتاج هذا العناء ولا ذلك الوقت ولا المرور بمدينة «حاران». فلماذا كانت هذه المسيرة الغريبة، ولا سيما انه لم يفعل شيئا في «حاران»؟
هنا بالذات تظهر فكرة «التقهقر». فالهجرات لا تنطلق, عادة، من المدينة الى الصحراء، او من البلاد الخصبة الى البلاد القاحلة (برية الأردن)، إلا اذا كان هناك سبب حاسم او جوهري. وفي رحلة النبي ابراهيم لا يوجد أي سبب حاسم او قاهر على الاطلاق. وللعلم، فإن «أور الكلدان» الواردة في الترجمة العربية للتوراة غير صحيحة. فالنص الاصلي هو «أور كسيديم» وليس «اور الكلدان». ودولة الكلدان قامت بعد مضي العهد المفترض لابراهيم بنحو ألف عام. وتحيلنا اخطاء الترجمة في النصوص الدينية على الانجيل الذي ورد فيه اسم «سمعان القيرواني». والقيروان بناها عقبة بن نافع في المغرب بعد نحو 700 سنة من الميلاد المفترض للمسيح. والصحيح انه «سمعان القوريني» نسبة الى «قورينيا» في ليبيا من اعمال برقة، وهي مدينة عين شباط اليوم.
الحضارة العربية والتقهقر
الحضارة العربية التي قال عنها أدونيس في شمال العراق انها تكاد تنقرض، انتهت كمدلول تاريخي منذ سنة 1258 ميلادية حينما سقطت بغداد تحت حوافر جيش هولاكو. نعم، لقد انقرضت الحضارة العربية منذ نحو 850 سنة، لكن، هل انقرضت الثقافة العربية؟
الثقافة لا تنقرض حتى لو انقرضت الحضارة التي هي وعاؤها التاريخي. والثقافة هي النتاج الاسمى للحضارة، وهي تبقى حتى لو شرعت الحضارة بالتدهور، او اخذت في الانحطاط والانحلال. تماما مثل المهن التي تنقرض، لكنها تبقى في اسماء العائلات التي امتهنتها. فقد اندثرت مهنة صنع برادع الحمير ومهنة صنع الطرابيش، لكن عائلة البرادعي او عائلة الطرابيشي تبقى لفترة طويلة حتى بعد انقراض اساسها المادي، أي المهنة نفسها. وبهذا المعنى، فإن الثقافة تستمر ما دام المجتمع ينتج ثقافة ولو بشروط حضارية متدنية. وليس غريباً ان تصدر اهم الكتب في التاريخ العربي الوسيط في المرحلة التي اصطلح عليها بـ«عصر الانحطاط» مثل: «القاموس المحيط» للفيروز أبادي، و«لسان العرب» لابن منظور، و«تاج العروس» للزبيدي، علاوة على كتب ابن خلدون. أما الحضارة العربية فهي شأن آخر، وقد اضمحلت، بالتدريج، منذ خراب بغداد في سنة 1258 ميلادية، وظلت تحاول ان تتجدد حتى يومنا هذا، لكنها ما برحت عاثرة ومهيضة.
لقد كان على المثقفين العرب، وعلى المفكرين العرب، ان يتأملوا في أسباب انحطاط العالم العربي. وفي هذا الميدان ظهرت أفكار كثيرة حاولت ان تفسر ظاهرة انحطاط الحضارات. بعضها تحدث عن تفوق حضارات معينة، ودونية حضارات أخرى منها الحضارة العربية لمشاكلتها الاسلام. ولا ريب في ان تحميل العرب، كمجموعة بشرية، الدور الرئيس في الانحطاط يجانب العلم. فقد كان للعوامل الجيوسياسية والمناخية شأن كبير في تقهقر المنطقة العربية منذ القرن العاشر ميلادي الذي سبق الحروب الصليبية وسقوط بغداد معا. ففي سنة 800 تقريبا، أي في أوج الحضارة العربية، كان عدد سكان المنطقة العربية نحو 30 مليون شخص، وعدد سكان اوروبا يساوي هذا الرقم ايضا. لكن في سنة 1000 تقريبا، بدأ عدد السكان يتزايد بصورة متدرجة في أوروبا ذات المناخ البارد والمطير، بينما لم يسجل العالم العربي أي زيادة سكانية ذات شأن. وفي سنة 1600 وصل عدد سكان اوروبا الى مئة مليون نسمة، بينما ظل الوضع في العالم العربي على ما هو عليه، علاوة على موجات القحط والتصحر. وفي ذلك الوقت تماما كان «فاسكو دي غاما» يكتشف رأس الرجاء الصالح الأمر الذي أفقد خطوط التجارة القديمة أهميتها، وأدى الى انتقال مركز الثقل التجاري من البحر المتوسط الى المحيط الاطلسي، أي من أيدي العرب الى الاوروبيين. وجاء الاحتلال التركي، الذي ادخل العالم العربي في ركود طال 400 سنة، ليقضي على آخر أمل بظهور طبقة تجارية ذات مشروع نهضوي. ثم جاءت الثورة الصناعية في اوروبا لتقضي على الصناعات الحرفية العربية. ولم يبق امام العالم العربي الا الاكتفاء بزراعات بسيطة مثل الحبوب والقطن والحرير في مصر والشام، والصوف في العراق، والزيوت في شمال افريقيا… الخ. ثم دخلنا في عصر الاستعمار الحديث، وما زلنا في عراك معه حتى اليوم.
ان معظم الذين تعاركوا مع أدونيس على مفهوم انقراض الحضارة لم يفرقوا بين الحضارة والثقافة. الحضارة الاغريقية اندثرت، والحضارة الرومانية انقرضت، والحضارة المجرية لا يسمع بها أحد اليوم، والحضارة الفارسية كفت عن الحضور منذ أكثر من 1500 سنة. لكن بلاد اليونان والرومان والهنغار وايران ما برحت تنتج ثقافة متعددة الألوان ورفيعة المستوى بالتأكيد. وهذا هو حال العالم العربي الذي تئن الثقافة في أرجائه جراء العسف والظلم… لكنها تئن بالتأكيد، أي انها موجودة وتحاول التجدد.
العرب الحاليون لا علاقة لهم بالحضارات العظيمة التي قامت في هذه البلاد ثم بادت، وهذا هو مفهوم الانقطاع الحضاري. فالعراقيون لا صلة لهم بالحضارة السومرية ـ الآشورية ـ الكلدانية. والمصريون الحاليون هم على هذا المنوال. ولو أجرينا امتحانا للعراقيين والمصريين في حضارتيهم القديمتين لنالوا أصفارا. وينطبق الأمر نفسه على السوريين وصلتهم بالحضارة الآرامية العظيمة. ولعل في ذلك برهان أولي عن ان الحضارات تندثر، اما الثقافات فتستمر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى