إفسادُ الودِّ والقضية
وهيب أيوب
إن مقولة: “الخلاف بالرأي لا يُفسِد للود قضية” المتداولة بين المثقفين السوريين ومنهم المعارضة، والعرب عموماً، لا تعدو شعاراً كباقي الشعارات المتداولة دون الالتزام بها حقيقة على أرض الواقع وما يبيّنه سلوك المثقفين وتعاملهم فيما بينهم، دون السقوط طبعاً في مسألة التعميم.
فقد رأينا وسمعنا نماذج عديدة وكثيرة في تلك المسألة على الفضائيات العربية وخاصة على “الجزيرة” في برنامج “الاتجاه المعاكس”، فما يكاد الحوار يبدأ بين الطرفين موحياً بالعقلانية والهدوء في دقائقه الأولى، حتى ينهار ويتحوّل في لحظات إلى تراشقٍ وتناحر، يأخذ في معظم الأحيان الطابع الشخصي والذاتي الانفعالي فيمن يستطيع إسكات زميله وإقصاءه، ولصق شتى التهم ضده لتقزيمه والانتصار عليه في معركة صح أن نسميها “صراع الديَكة” وحوار طرشان، لا مجادلةً بين مثقفين أو محاججة في العقل والمنطق! وتغدو الأحكام القطعية المسبقة لكلا الطرفين تجاه الآخر منزلقاً إلى الإقصاء المتبادل والقطيعة النهائية.
أزمة المثقفين تلك ليست طارئة وليست نتيجة المشاريع السياسية والفكرية في النصف قرن المنصرم كما يُظَنُّ وحسب.
تقديري، أن جذور الأزمة تضربُ عميقاً في تاريخ وتراث المجتمع العربي والإسلامي منذ أربعة عشر قرناً أو يزيد، لما تحمله تلك الموروثات الدينية والتربوية والتراثية والثقافية من مناهج وطبائع استبدادية درجت عليهما سلطتا الدين والسياسة، إضافة لامتداد تلك الذهنية التي باتت نمطية إلى القبيلة والطائفة والعائلة داخل كل منزل. فربُّ المنزل يمارس سلطته القمعية على أولاده وزوجته (ما نسميه السلطة الأبوية أو البطركية)، والأخ الكبير على أخوته الصغار وهكذا… كلٌ يمارس سلطته واستبداده على من دونه، حتى يتم إنتاج السلطتين الاستبداديتين اللتين تمسكان بالحكم، فتعيدان إنتاج الاستبداد والطغيان على ما يجعلهما السلطة المُطلقة وتنشرانها مُجدداً من أعلى الهرم إلى أسفله بأشكالٍ أشد قسوة وضراوة. النتيجة مجتمع متخلّف برمته، سلطة وشعباً، بما فيه المثقفون. ومن الضروري هنا ذكر كتابين هامين في هذا المجال للدكتور مصطفى حجازي “سيكولوجية الإنسان المقهور” والآخر “الإنسان المهدور” من حيث توسّعه وتعمّقه في وصف وتحليل ذهنية الإنسان أو المجتمع المتخلّف المقهور والمهدور على حدٍّ سواء.
والنقطة الثانية: وبالمقارنة مع أوروبا والغرب، فإن العرب والمسلمين لا يملكون تراثاً قديماً أو حديثاً في مسألة الديموقراطية، وهم ما زالوا يغرفون من تراثهم الديني الإسلامي ويعيدون صياغته من جديد بنماذج أكثر تخلفاً ووحشية أيضاً. بينما الغرب الذي عاش عصوراً ظلامية ووحشية في القرون الوسطى، استفاق في عصر النهضة والحداثة وما بعدها على تراثه اليوناني القديم، خاصة في عهد بركليس والعهد الروماني الذي تلاه. وهنا أذكر مثالين صغيرين للتدليل على ذاك التراث: فالفيلسوف اليوناني سقراط حُكِم عليه بالموت من خلال تصويت “ديموقراطي” حاز على أغلبية ضئيلة أرادت التخلّص من سقراط.
وفي عهد يوليوس قيصر الذي أراد أن يتفرّد ويستبد بالحكم، شارك أكثر مُحبيه، بروتوس، بقتله، وبقول بروتوس ما معناه: “سأقتل كل من حاول الاستئثار والاستبداد بروما حتى ولو كان أبي”. من هنا شكّل هذا التراث للأوروبيين في عصر النهضة وما بعدها رافعة تجعل النضال ضد الاستبداد مقدمة للحرية والديموقراطية عبر تضحيات ذهب الآلاف بل الملايين في سبيلها، ومهّد المفكرون والفلاسفة الأوروبيون لها زمناً طويلاً. بينما في عالمنا العربي والإسلامي كان الجهاد دائماً محاربة السلطة من أجل السلطة؟ لهذا أخذوا ينتقلون من استبدادٍ إلى آخر، ودون أن يستطيعوا تجديد أو إبداع فكرٍ أو إنتاج كتلة تاريخية قادرة على الانتقال من فلسفة الاستبداد إلى فلسفة الحرية والديمقراطية، حتى أنهم عجزوا عن إخراج فيلسوف واحد منذ ابن رشد حتى اليوم. بينما اكتظت أوروبا بالفلاسفة والفكر الفلسفي الوضعي والإنساني على مدى القرون السابقة.
لا يمكن إدارة الحريات العامة، سواء بين المثقفين أو سواهم، إلا من خلال دولة المواطنة والقانون. فهناك الكثير من الأسباب الواقعية والمنطقية التي تحرم أي فرد، في مجتمع استبدادي وسلطة ديكتاتورية تسيّر كل شؤونها بالمحسوبيات والمحظيين والمحظيات، من القدرة على التصرّف بمفرده كديموقراطي؛ الديمقراطية تعاقد اجتماعي وسياسي وتبادل مصالح بين الجميع، فهل تستطيع أن تكون اشتراكياً- بالممارسة- في مجتمع رأسمالي؟
لن تستطيع أن تكون حرّاً وديموقراطيا حقيقياً إلاّ إذا كان الآخرون كذلك، ولن تنال منهما (الحرية والديمقراطية) إلا ما أتاحته لك دولة القانون والديمقراطية نفسها. لهذا كان على المثقفين أنفسهم النضال والسعي لإقامة تلك الدولة، حتى يعيشوا ويعيش الآخرون في رحاب الحرية والديموقراطية، وهذا يحتّم عليهم إعطاء النموذج الصحيح للتعامل الديموقراطي فيما بينهم على الأقل ليكونوا مُحفّزين للآخرين وليس العكس.
ولكن لماذا نطلب من المثقف أن يتجاوز، بقوة وعيه وإدراكه، هذا الواقع المأساوي وأن يتحمل قبل الجميع مسؤولية المواجهة مع تلك السلوكية النمطية والذهنية الاستبدادية في السلطة والمجتمع، وأن يرسم النموذج الأفضل من خلال تعامله وسلوكه اليومي، سواء مع زملائه المثقفين أو الناس عموماً؟ لأنه في تخلّيه عن تلك المهمة سيتيح للسلطة الحاكمة مزيداً من القمع والاستبداد واستمرار قهر المثقفين والشعب إلى أجلٍ غير معلوم.
ما زال الفكر العربي والإسلامي حتى اليوم يحاول من خلال أطروحاته، التحايل على الحرية والديموقراطية والاستدارة حولها دون ملامستها أو الاقتراب منها حقيقة، من خلال الزج دائماً بالدين والمقدسات والتراث والأيديولوجيات الشمولية والأحكام المسبّقة لهم جميعاً، عِلماً أنه لا يمكن الوصول إلى دولة الحرية والديمقراطية والقانون وإرساء المواطنة الصحيحة لكل أبناء الوطن على مختلف انتماءاتهم، إلا بفصل هذا عن ذاك، أي الدين عن الدولة. لهذا أيضاً بقي العقل العربي والإسلامي جزءا أصيلاً من تخلّف السلطة والمجتمع، ولم يقدر على دفع الأثمان والتضحيات اللازمة لتجاوز تلك الموروثات، والانتقال إلى عصر الحداثة وما بعدها، اعتماداً على العقل والمنطق والفلسفة الإنسانية. وعليه، بقي يراوح مكانه أحياناً ويرتد إلى الوراء مرّات أُخرى.
وهذا لا يمكن حدوثه، كما ذكرنا، إلاّ من خلال نقد الدين والمقدسات والتراث الحامل للكثير من المسلّمات.
وأما إرجاع المسألة إلى أسبابٍ بيولوجية عضوية أو طبيعة نفسية؟
فقد تحدّث العديد من الفلاسفة والعلماء عن هذا الموضوع، وقالوا بالفعل بوجود مثل تلك الأسباب.. ردّها مثلاً الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو إلى الأسباب البيئية والمناخية بين شعوب الشمال والجنوب، مُعتبراً أن الأقاليم الشمالية الأكثر برودة تنتج عقولاً وذهنيات أكثر ديناميكية وحيوية من حيث سرعة تدفّق الدم في الجسم، قابلة للتطوّر أكثر من مثيلاتها في الأقاليم الحارّة الجنوبية. وقد خصّص مونتسكيو لهذا الشأن فصلاً خاصاً في الجزء الأول من كتابه “روح الشرائع” في الفصل السابع عشر تحت عنوان: “كيف تكون صلة قوانين العبودية السياسية بطبيعة الإقليم”. ويقول بالحرف: (تسود آسيا روح عبوديةٍ لم تتركها قط، فتعذّر أن تَجِدَ في جميع تواريخ هذا البلد علامةً واحدة دالّة على نَفْس حرّة، ولا تَجِدُ فيها غيرَ بطولةِ العبودية)، ولهذا يقول إن شعوب الأقاليم الشمالية كانت دائماً تُخضِع مثيلاتها الجنوبية ولم يحدث العكس إلاّ نادراً. وربما تحدّثً عن أشياء مشابهة العلاّمة ابن خلدون أيضاً في “مقدمته” المعروفة.
إلاّ أن الدكتور مصطفى حجازي وغيره يرفضون تلك النظرية التي لستُ متأكداً من مدى علميتها في عصرنا الحديث، وأنا شخصياً غير مؤمن بها، لكني أميل إلى تصديقها أحياناً عندما أنظر إلى هذا التاريخ الطويل الحافل بالاستبداد من جهة والخضوع والقبول من جهة ثانية، وأتمنى كما غيري أن أكون على خطأ، أو أعثر على إجابة علمية تؤكّد أو تنفي ما ذهب إليه بعض العلماء والفلاسفة، بحيث لا تبقى المسألة سجالاً بين كونها فكرا عنصريا استشراقيا استعماريا استخدمه ويستخدمه الشمال ضد الجنوب، أو كونها حقيقة علمية. وهنا بالتأكيد لا نتحدّث عن النظرية العنصرية الفيزيولوجية التي سادت في أوروبا قبل أكثر من قرن، فهي نظرية ساقطة علمياَ، ولكن نتحدّث عن العوامل البيئية وغيرها مما قال به مونتسكيو وابن خلدون.
ولكن مما لا شك فيه، أن تاريخاً وتراثاً قهرياً استبدادياً استمر على كرّ القرون، لا بدّ وأن يخلق ذهنية نمطية وطبيعة نفسية تشكّلت بالتراكم والتكرار، وهي تجد صعوبة بالغة بالتحرّرِ والانعتاق.
فما زال القهر والاستبداد يمارَسان على مدار الساعة في المجتمعات العربية والإسلامية، بدءاً بالبيت والمدرسة والجامعة، وصولاً لكل مؤسسات الدولة وموظّفيها. حتى أن المعلم ومحاضر الجامعة في مجتمعاتنا يتصرّف، بالرغم من تلقّي بعضهم العلم في الغرب، كضابط جيش وليس كمعلم أو مربي؛ إضافة لأسلوب التلقين والترديد المتبع في المدارس والجامعات، والذي لن ينتج إلاّ ذهنية وفِرَقاً من المستبدين وقطيعاً آخر من الخاضعين الطائعين غير القادرين على الخلق والإبداع.
ويعتبر الضرب مثلاً، سواء في البيت أو المدرسة وسواهما، عقاباً مسموحاً به حتى للمرأة-الزوجة، بل وضروري في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، بينما يعتبر ذات السلوك في المجتمعات الأوروبية الحديثة تصرفاً غير قانوني وغير أخلاقي أيضاً. من هنا، نرى أن مسألة العنف والاستبداد ظاهرة مألوفة وغير مُدانة في كثيرٍ من الأحوال، وهذا بالتأكيد ينعكس على كل أفراد المجتمع بما فيهم المثقفون، الذين ما زالوا بغالبيتهم غير قادرين على تغيير سلوكهم ليكونوا قدوة للآخرين، وتلك هي مأساة النُخب العربية والمثقفين العرب الذين ما فتئوا يمارسون القمع والإلغاء والتخوين والقطيعة غير المبرّرة ضد بعضهم البعض لأسباب الخلاف بالرأي والرؤيا فقط.
من هنا، تنقلب مقولة: “الخلاف بالرأي لا يفسد للود قضية”، إلى إفساد الود والقضية معاً.
وهيب أيوب
الجولان المحتل \ مجدل شمس
خاص – صفحات سورية –