الليبرالية كمعنى سجال مع د.برهان غليون
سلامة كيلة
قرأت متأخراً مقالة د.برهان غليون حول
“الليبرالية وتجديد ثقافة العرب السياسية”.
وربما كان عنوانها العام هو الذي جعلني أؤجل قراءتها،لكن تبين لي بأنها تدخل في إطار السجال السوري المتعلق بنتائج اجتماع المجلس الوطني لإعلان دمشق. حيث يبدي د.برهان”إمتعاضاً”من التفسير الخاطئ لمقالته حول مستقبل المعارضة في سورية، الذي كتبه بعيد ذاك الاجتماع ،والذي اعتبر فيه بأن التيار الليبرالي هو الذي بات يسيطر بعد إزاحة كل من حزب الاتحاد الاشتراكي وحزب العمل الشيوعي. ويقوم “امتعاضه” على أن بعض ممثلي اليسار وجد”في هذا الاستخدام تهمة أو ما يشبه التهمة باليمينية”، وهو الأمر الذي دفعه لإعادة تحديد معنى الليبرالية.
وما من شك في أن المفاهيم التي تستخدم بتواتر هي في الغالب خالية من المعنى،لان كلّ يستخدمها وفق”معنى ذاتي”. الأمر الذي يفرض التأسيس إنطلاقاً من تحديد المعنى. ولقد قام د.برهان بجهد في هذا المجال منذ مدة مثلاً، لكن بدا لي هنا أنه يشوش على ذاك الجهد القيم. حيث أعاد الخلط بين الديمقراطية والليبرالية بعد أن كان أكد على ضرورة الفصل. ورغم أنه يشير إلى الفصل في هذه المقالة، إلا أنه، وهو يفعل ذلك، يحقق الخلط، وبالتالي التشوش .فهل يمكن أن نسمي الديمقراطية ليبرالية؟ ونسمي منطق السوق ليبرالية،في آن؟ وبالتالي أن نتحدث عن تيار ليبرالي دون أن نقصد تلاقي المستويين.
بداية، يمكن أن أشير إلى أن ما لفت في مقالة د.برهان التي تناولت إعلان دمشق هو أنها أكدت على سيطرة التيار الليبرالي على الإعلان، قبل أن نبحث في طبيعة هذا التيار. بمعنى انه أكد على أن إعلان دمشق لم يعد تحالف يضم التيارات المختلفة في إطار المعارضة السورية، بل بات يمثل تياراً محدداً في المعارضة. ولهذا التحديد أهمية سياسية. ثم أن تحديد د.برهان في هذه المقالة(التي هي مستقبل المعارضة في سورية) يرتبط بما كتبه سابقاً حول الليبرالية، حيث كان أكد على ضرورة الفصل بين الليبرالية والديمقراطية، وحدّد موقفاً “سلبياً” من الليبرالية لمصلحة الديمقراطية، وأشار إلى رفض الليبرالية كونها تعبّر تحديداً عن “منطق السوق”. وبالتالي مؤكداً بأن “الليبرالية السياسية”هي الديمقراطية. ولقد افتتح نقاشاً غنياً حينها، كانت”النخبة”المعارضة في تناقض معه،لأنها ترى أن لا فكاك من الربط بين الليبرالية(بمعناها الاقتصادي) والديمقراطية،بل أنهما واحد. وهذه “النخبة” هي التي شكلت قوام المجلس الوطني لإعلان دمشق، وهي التي أسقطت التيارات الأخرى. وكان طبيعياً أن تفعل ذلك لأنها تعتقد بأن رؤيتها هي”مطلقة الصحة”، وإن وجود الآخرين هو الذي يشوش على تحقيقها لأهدافها. وبالتالي فقد كان تحديده لسيطرة التيار الليبرالي مترابط مع كل ذلك، بغض النظر عن أحكام القيمة التي يمكن أن توصّف الليبرالية بالإيجاب أو بالسلب. حيث هنا يجب أن تناقش السياسات التي يطرحها هذا التيار.
ضمن ذلك فُهم تحديد د.برهان لما جرى في اجتماع المجلس الوطني لإعلان دمشق، حيث لم يكن الهدف هو القول بأن المنتصرين سيئين أو جيدين، بل كان الهدف هو التحديد، تحديد الطابع الذي يجمع هؤلاء، أي الليبرالية. هل مصطلح الليبرالية مشوش ؟ ويستخدم لإغراض إيديولوجية؟
كان د.برهان قد تجاوز التعميم الذي يتضمنه التعبير ،أي حينما كانت الليبرالية “فلسفة”.وحدّد توضّعها كما باتت في الواقع، حيث أشار إلى أنها باتت تعني”منطق السوق”. وأنها تحددت كمصطلح يعبر عن سياسات اقتصادية. بينما باتت الليبرالية السياسية هي الديمقراطية. لهذا طالب بالفصل بين هذه وتلك، وتبنى الديمقراطية ضد الليبرالية كما كان يشير المرحوم الياس مرقص.
في هذه المقالة(الليبرالية وتجديد ثقافة العرب السياسية) يتناول مصطلح الليبرالية من أجل تحديد المعنى الذي قصده في مقاله السابق. ورغم أنه ينهي هذا المقال بالعودة للتأكيد على ضرورة الفصل بين الليبرالية والديمقراطية. فقد عمد إلى استخدام تعبير الليبرالية في الحالين (أي حال الديمقراطية وحال الليبرالية ذاتها)، وهو ما أضفى غموضاً عميقاً على ما يريد قوله. وبدا كأنه خاضع تحت عبء خلافات المعارضة. وأنه يغطي على طرف،أكثر من كونه يؤصل المصطلح كما أشار. لهذا بدا المصطلح مشوشاً من جديد، وبدا وكأنه يبرر سياسات تبلورت في إعلان دمشق. وهنا يقع في المحظور الذي أشار إليه. أي في”اختيار هذه الدلالة أو تلك للمفهوم ،وتفسيره حسب ما يخدم مصالحه الإيديولوجية أو السياسية“.
فلا شك أن للمصطلح تعددية دلالية طبيعية من حيث هو”تركيب تراكمي”، ولكن هذا التركيب التراكمي يوصل إلى تحديد معنى يصبح هو المعنى “المتعارف عليه”، هو”المعنى”. وتصبح كل التحديدات السابقة جزءاً من تاريخه. بمعنى أنها لا تعود منافسة للتحديد الجديد، بل تكون إرثه. طبعاً هذا لا يعني ألا يعود فرد إلى استخدام المصطلح بمعناه الأقدم، حيث يمكن أن يتمسك بالمعنى الأوّل لليبرالية كونها فلسفة، لكن ذلك سوف يبدو “خارج المألوف”، وشاذاً عن التوضعات الواقعية له. لكن المصطلح تحدد(أو تموضع)ولم يعد يحتمل العمومية التي كانها في البدء ، إلا كموقف شخصي ،أي ليس كمشروع سياسي، حيث ليس من الممكن أن يصبح كذلك إلا عبر التحديد في المجال الاقتصادي(أي الحرية الاقتصادية) والسياسي(أي الديمقراطية).
وبهذا فإن الليبرالية لم تعد فلسفة إلا كلحظة أولى، كمنطلق، يقوم على أساسه التصور في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. هنا لا تعود المسألة هي مسألة “تعددية دلالية”. بل تصبح مسألة تحدّد، تعيّن. وبالتالي فقد تحدت “الفلسفة الليبرالية” كونها تعني الحرية الاقتصادية،ومنطق السوق. والديمقراطية التي هي الشكل السياسي الذي يضمن تحرير وانعتاق الإنسان. بمعنى أن هذه”الفلسفة الليبرالية”غدت محدّدة في مشروع اقتصادي يقوم على الحرية وحق التملك. وآخر سياسي يقوم على الحريات الفردية والسياسية. وهما مشروعان توحدا مع البرجوازية منذ أقل من قرن، بينما كانت هذه الأخيرة تعمم الحرية الاقتصادية في ظل نظم ديكتاتورية (بونابرتية). وبالتالي فقد توافقا في لحظة محدّدة نتيجة الظروف الاقتصادية /الاجتماعية والعالمية. ولقد توحدا في المراكز الرأسمالية وليس في كل مكان تسيطر فيه البرجوازية.
لهذا كان تأكيد د.برهان في مقالاته السابقة على الفصل مهماً وعميقاً، لأنه لا يجوز التخلي عن النضال من اجل الحريات الفردية والسياسية. لكن يجب التوقف ملياً إزاء السياسة الاقتصادية الليبرالية. حيث يجب أن تتبلور إجابة واضحة حول مدى قدرتها على تطوير مجتمعاتنا، عبر تأسيس قوى منتجة وامتصاص البطالة، وتحقيق التراكم في سياق تحقيق الحرية الشاملة.
ولقد أدخل د.برهان تصور ماركس في سياق نقاشه، لكن بطريقة مربكة. فماركس واجه التناقض بين الحرية الاقتصادية التي تفضي إلى اللامساواة، وبالتالي نشؤ الفروق الطبقية، وبين الحرية السياسية. حيث انطلق من أن وجود الملكية الخاصة هو الذي يكبح تملك”ملكوت الحرية”. لهذا توصل بأن المساواة لا تتحقق إلا عبر إلغاء الملكية الخاصة. لهذا كان في تضاد مع الليبرالية التي باتت المعبّر عن الميل لتحقيق الحرية الاقتصادية(اقتصاد السوق)، وليس “بالدمج الافتراضي بين الحرية الاقتصادية والحرية السياسية،أي إلا باعتبار الديمقراطية التعبير السياسي عن الرأسمالية والاعتقاد بأن حرية السوق وحرية الفرد السياسية أمران مترابطان ومتماهيان تماماً”. حيث أن ماركس اكتشف –كما يشير برهان-بأن الموقفان-الحرية الاقتصادية والحرية السياسية- “لا يتفقان، فكلاهما ينفي الآخر”. وهو الأمر الذي جعله يربط الديمقراطية بالاشتراكية في مشروعه الأساسي. حيث “لم يكن لمشروعه الشيوعي غاية أخرى سوى التحقق الفعلي لقيم الليبرالية وغاياتها”كما يقول د.برهان غليون، لكنه هنا يستبدل كلمة الحرية التي كان يحدّدها ماركس بكلمة الليبرالية،مما يجعل المعنى مختلفاً.فقد جاءت الماركسية من داخل فكر التنوير، ومن أجل تحققها الفعلي، أي “قيم الحرية والانعتاق الكامل للفرد من الاستلابات المادية والإيديولوجية المتمثلة في نظر ماركس في سيطرة الملكية الخاصة والاستغلال الطبقي والوعي الزائف”. وبذلك كان مفجر ذاك الفكر”بقدر ما دفع طروحاته النسبية إلى حدودها القصوى”كما يشير د.برهان.
وسنلمس بأن التشوش هنا ،كما في مواضيع متعددة، نابع من أن د.برهان يستخدم تعبير الليبرالية كمساوٍ لما كان يسمى”الفلسفة الليبرالية”. التي كانت ترتبط بمفهوم الحرية بمعناه العام. فإذا كانت الليبرالية في المستوى الاقتصادي قامت على الحق المطلق بالتملك، وبصفته جزءاً من الحرية الفردية، فقد توصل ماركس إلى أن حق التملك يفضي بالضرورة إلى نزع حقوق آخرين واستلاب حريتهم. وبهذا فقد رفض هذا الحق. كما أنه توصل إلى أن حرية السوق التي هي أساس الليبرالية الاقتصادية تفضي إلى نزع الحرية كذلك، عبر نشؤ الاحتكار. لهذا تمسك بالحرية معمقاً إياها إلى المستوى الاقتصادي من خلال إلغاء الملكية الخاصة. وهو هنا كان يبلور مشروعاً للحرية قائماً على نزع الملكية. وبالتالي نزع الليبرالية.
ثم أن هذا الإبدال بين الليبرالية والحرية قاد إلى التمييز بين الليبرالية والليبراليين، “فالليبرالية غير الليبراليين”. هنا بمعنى قيم الحرية نعم ،لكن بمعنى قيم الليبرالية فلا. فإذا كانت”الفلسفة الليبرالية”تعني الحرية بمعناها العام:الاقتصادي،الاجتماعي،والسياسي،فإن هذه- بهذا المعنى العام- تبقى”فوق”الواقع، وبالتالي فإن ما يناقش هو تحديداتها، تموضعها، في علاقتها بالواقع. وهو الأمر الذي جعلنا في حوار مع ما هو واقعي: أي الأفراد والطبقات والسياسات. وهذا يشمل الممارسة التاريخية لكل التيارات. بمعنى أن عمومية الفكرة لا تعني شيئاً ،إلا ربما كدلالة. وإذا كنا قد أشرنا إلى تحدّد الليبرالية في اقتصاد السوق، فقد قام تحليل ماركس كله على بيان حدوده ومشكلاته، وهدره للحرية، لهذا قدّم مشروعاً بديلاً للحرية يقوم على أنقاض الليبرالية، لكنه يتضمن كل ما تضمنته”الفلسفة الليبرالية”(فلسفة عصر التنوير) من قيم الحرية. وبالتالي فهو تحديد للحرية في إطار مشروع مختلف عن ومناقض للمشروع الليبرالي. إن العام لا يوجد إلا في الخاص، هذه بديهية، لهذا فإن قيم الحرية بمعناها العام لن تكون سوى موقف أخلاقي، الأمر الذي يحدونا إلى دراسة الممارسة التاريخية، وتموضع الأفكار فيها. فالفكرة القومية يمكن أن تكون صحيحة في ظرف محدّد بالرغم من ممارسة”القوميين”. وكذلك يمكن أن تكون خاطئة في ظرف آخر. والفكرة الاشتراكية كذلك…إلخ..
في هذا الإطار سيبدو واضحاً خطل التمييز بين “الفكرة الأصلية وتطبيقاتها”، حيث أن الفكرة الأصلية لم تعدُ أن تكون موقفاً أخلاقياً عاماً. ولقد تحدّدت في مشروع ممارس.الأمر الذي يجعلنا في نقاش مع الممارسة التاريخية ذاتها. حيث يمكن أن نتوافق على ضرورة الحرية، لكن أية حرية؟ الحرية المتشكلة في نظام اقتصادي ليبرالي وسياسي ديمقراطي، هذه التي تحمل تناقضها في ذاتها؟. هنا نحن نتجاوز الليبرالية كفلسفة، حيث أن منطق الفلسفة قد جرى تجاوزه لمصلحة ما هو اقتصادي وسياسي واجتماعي، وظلت كفكرة مجردة، وعامة، لا يسعنا إلا أن نتمثلها. بمعنى “استيعاب قيمها ومفاهيمها ونقدها معاً” في إطار بنية فكرية نبلورها، وهو ما فعله ماركس، ودعا إليه عبد الله العروي كضرورة ماركسية،من دون المرور بالمرحلة الليبرالية، أي من دون المرور بالرأسمالية. وبالتالي لتتمظهر الحرية في مشروع مناقض للمشروع الليبرالي، متضمنة كل قيم الديمقراطية في المستوى السياسي. ولا شك في أن تضمن قيم الديمقراطية يفرض السؤال حول المشروع الاقتصادي،هل هو ليبرالي أم شيء آخر؟ وهو ما يجعلنا في تماس مع، ليس”الفكرة الأصلية” بل تمظهرها الواقعي. وهنا لا يكفي القول بأنه “ليس لليبرالية كفلسفة مدنية وسياسية علاقة ضرورية مع اقتصاد السوق”، لان ليس من “فلسفة”دون مشروع اقتصادي، وإلا ظلت فكرة مجردة، وليس مشروعاً للنضال السياسي. حيث ليس من الممكن تأسيس نظام ديمقراطي دون أن يكون مؤسساً على مشروع اقتصادي. وحين يغيب هذا المشروع يطغى ما هو قائم، وبالتالي تعود الديمقراطية للارتباط باقتصاد السوق. لهذا فإن الفصل بين الليبرالية (بمعناها الاقتصادي) والديمقراطية يفرض إعادة تأسيس الديمقراطية في إطار مشروع اقتصادي آخر. كما أن التأكيد على “أن الليبرالية من حيث هي فلسفة أخلاقية وسياسية لم تفقد مكانتها كمصدر للقيم الرئيسية التي تحرك مجتمعانا وتوجه ثقافة عصرنا”، يبقى ملتبساَ. فهنا تجري الإشارة إلى قيم الحرية والانعتاق بمعناها العام، وليس في تحدّدها. وهي في هذا الإطار صحيحة، حيث يجب العودة المتكررة إلى قيم الحرية والانعتاق، ولكن من أجل صياغة مشروع واقعي،على ضوء نقد كل الميول المضادة للحرية. وهنا لا تتحوّل الليبرالية كفلسفة أخلاقية وسياسية إلى مشروع واقعي، بل هي”نقطة انطلاق”، تذكُّر، بينما يجب أن تكون في روحية مشروع واقعي.
وفي هذه الوضعية يتوضح أكثر فأكثر التناقض بين هذه القيم والليبرالية ذاتها، كونها مشروع اقتصادي. لأنها تتبلور في “سياسات الرأسمالية المتوحشة”. حيث أن “مصالح تراكم رأس المال” تفرض سحق الحرية حينما تبدو كمعيق لتحقيق الربح الأقصى. وهذا هو تعيّن الليبرالية في طبقة ، والمؤسِّس لمشروعها. وبالتالي يبدو الاقتصادي هو الأساس، والسياسي(أي الديمقراطية)هو المكمل،أو الهامش، في هذه الليبرالية.
هل أن “الهجوم الدائم” لليسار العربي على الليبرالية لا يمس بسؤ سياسات الرأسمالية المتوحشة التي تعرفها مجتمعاتنا، بل أنها تستخدم بشكل رئيسي لقطع الطريق على روح التحرر والانعتاق الناشئة”؟ هذا تساؤل حول النتيجة التي يصل إليها د.برهان، وليس من غرابة في ذلك ما دام قد خلط الليبرالية التي باتت تتحدّد في اقتصاد السوق، بالديمقراطية، وتعامل مع الليبرالية بصفتها فلسفة تحرير وانعتاق، متجاهلاً أنها غدت -ووفق تحديده هو- تعني”منطق السوق”. وبالتالي استخدم مصطلح الليبرالية في مكان غير مكانه. ليبدو أن “الهجوم الدائم” الذي يقوم به اليسار العربي (وبعض التيارات الإسلامية كما يشير) هو على روح التحرر والانعتاق ، وليس على السياسات الاقتصادية التي يسميها المتوحشة، وهي كذلك بالفعل. وربما كان هذا التحديد لا يليق بالدكتور برهان لأنه يحمّل اليسار ما لم يقم به، ويشوه مواقفه، ليظهره كمقدم “خدمة “للنظم التسلطية ” التي تريد أن تقتل هذه الروح -روح التحرر والانعتاق-في مهدها”. رغم أن هذا اليسار هو الذي يبث روح التحرر والانعتاق في مواجهة كل القوى التي تفرض الاستسلام، وتنظر للتكيف مع الأمر الواقع (الأميركي الآن). ويشدد على، ليس التجاوز السياسي لهذه النظم، بل والتجاوز الطبقي أساساً، أي تجاوز هذه الرأسمالية المتوحشة.
المشكلة في هذا المنطق هي أنه لم يجد ما يواجه به اليسار إلا هذه التهمة، وهو منطق متكرر من الكثير ممن يعتبرون أنفسهم ليبراليين، وخصوصاً من كانوا يساريين سابقاً. بينما يكمن في ثنايا هذا المنطق ما يظهر ضعف النقد. حيث أن د.برهان مثلاً يقوم بعملية خلط بين الليبرالية والديمقراطية كما أشرت للتو، ليعتبر بأن نقد اليسار لليبرالية يطال “روح التحرر” وليس –بالتالي- السياسات الاقتصادية المتوحشة كما يوصفها هو ذاته.
إن نقد اليسار لليبرالية هو نقد للسياسات الاقتصادية القائمة على تعميم منطق السوق، المطبقة داخلياً ،وعلى صعيد عالمي, هو نقد يطال الطبقة المسيطرة ليس لكونها استبدادية فقط، بل لكونها تنهب المجتمع، وتحتاج للاستبداد من أجل ذلك. وهو هنا متقدم على النقد”الليبرالي”الذي يطال المستوى السياسي فقط. لأنه يطال كلية التكوين السلطوي،أي كمشروع اقتصادي سياسي، وليس كمشروع سياسي فقط. وبهذا فإن اليسار هو الذي يحمل روحاً تحررية أعمق، ويسعى لانعتاق أوسع. وبالتالي أتمنى ألا يكون د.برهان يدافع عما يوصّفه بشكل صحيح فيما يخص الليبرالية الاقتصادية، ويعتبر أن نقده هو ما يفيد النظم التسلطية، وانه هو “روح التحرر”. وان يعود للانطلاق من تمييزه بين الليبرالية والديمقراطية. وبالتالي ألا يستخدم مصطلح الليبرالية في مواضع تشوش كل المعنى. لان ذلك هو الذي يشوش الفكر، ويعمم “الرثاثة الثقافية”. وليس نقد اليسار لليبرالية، ورفضه للسياسات الليبرالية المنطلقة من اقتصاد السوق والخصخصة.
إن ما يضعف النقد الليبرالي للنظم التسلطية هو ربطه الديمقراطية بالليبرالية الاقتصادية، وبالتالي يظهر المسألة وكأنها خلافات في إطار “الطبقة” الرأسمالية بين الرأسماليين الجدد، والرأسمالية القديمة. لتبدو الديمقراطية في حدود الشكل الذي يطابق توافق المصالح بين هاتين الشريحتين. وهذا ما يسعى اليسار إلى تجاوزه لما هو أعمق.
هنا نصل إلى تحديد د.برهان حول “ولادة نخبة ليبرالية” تبلورت في إعلان دمشق. التي قال إنها “ليست طفرة سطحية وإنما تعبر عن موجة عميقة تعكس وقائع بنيوية”. يعتقد بأنها “تتغذى من انحسار أفكار الاشتراكية الشمولية على الصعيد الدولي، وتحوّل البلاد نحو اقتصاد السوق”. طبعاً فليكن، لقد مثل إعلان دمشق تلك النخبة، وبالتالي بات التعبير عن “النخبة الليبرالية”، ولا شك في ذلك. لكن ما هي طبيعة هذه النخبة؟ ما هي سياساتها؟ لاشك في أن “ولادة” هذه النخبة نتج عن انهيار المنظومة الاشتراكية، وبالتالي تحوّل قطاع كبير ممن كانوا اشتراكيين إلى الليبرالية. وليس في ذلك غضاضة، حيث من حق أيّ كان أن يعتنق الأفكار التي يرى أنها صحيحة. لكن ما يلفت هنا هو أن هذا التحوّل جرى بتسرع، ودون انتقاد، أو حتى دون قراءة للأفكار المتبناة، حيث بدا أنه ينساق خلف تيار كانت الرأسمالية تعممه عالمياً خدمة لمصالحها، نتج عن انهيار الأحلام بفعل القمع السلطوي والسجون في الغالب، والذي توّج بانهيار “المثال الاشتراكي”. مما يعني أنه لم يتأسس على وعي عميق بالليبرالية،لا في مستواها الاقتصادي ولا في مستواها السياسي. ولهذا تبنت كل المفاهيم المعممة تلك، وخصوصاً الربط بين الليبرالية(أي اقتصاد السوق) والديمقراطية، والاندماج بالعولمة. وحتى القناعة بضوضاء الدولة الأمريكية حول الحرية والديمقراطية، وتحرير الشعوب من النظم التسلطية.
ولقد اصطدم د.برهان بهذه الآراء أكثر من مرّة ،منها حينما طرح مسألة الفصل بين الليبرالية والديمقراطية، حيث أن هذه النخبة لا ترى ديمقراطية خارج اقتصاد السوق. ثم حينما طرح الحوار حول المشروع الأمريكي. وهي مواقف تظهر في المقالات، كما في الحوارات الشفوية. مما يجعل هذه النخبة تسير خلف الليبرالية الاقتصادية كما أخذت تشيع منذ “خطف اليمين الرأسمالي فكرة الحرية الفردية ودمجها مع سياسات اجتماعية لا تأخذ بالاعتبار إلا مصالح تراكم رأس المال”. ومن هذا الأساس يجري القول بأن هذه النخبة تطرح الليبرالية في إطار التبعية للغرب، أو للسيطرة الأجنبية، والخضوع للمؤسسات الدولية الرأسمالية. حيث أن الانطلاق من تكريس اقتصاد السوق لا يعني سوى الارتباط بالنمط الرأسمالي من موقع التبعية، وهذه مسألة بحثت بتفصيل في الأدبيات الاقتصادية.
هنا النخبة الليبرالية تصرّ على الربط بين اقتصاد السوق والديمقراطية، ولا ترى إمكانية لغير ذلك. ولهذا تبدو”ديمقراطيتها”مثلومة، لأنها تنطلق مما هو “طائفي”. ومن المجتمع كمكونات طائفية دينية وإثنية. هل هذا خارج سياق الليبرالية الممارسة في الواقع؟ لا أظن. وهو ما يجعلنا نتلمس الميل المجرد لدى د.برهان، الميل للتعلق بـ”المثال” دون رؤية التمظهر الواقعي؛ لهذا يشير إلى أنه ليس لدينا”فكر ليبرالي مكتمل بأي معنى من هذه المعاني، ولا اقتصاد ولا حزب، ولا بالأحرى حكم ليبرالي”. إذن ماذا يسود؟ هو”لا يتعدى ممارسات شبكات مصالح ورجال أعمال تنتمي بشكل أكبر إلى منطق الصراع الوحشي وغير المضبوط على الموارد أكثر مما تعبر عن قيم الليبرالية .حتى في أسؤ تعبيراتها يمينية، وسياسات حكومية فوضوية، ونزوعات فكرية شبه ليبرالية تربط بين السياسات التخصصية، والتبعية الإستراتيجية للغرب، والدفاع عن نظم سياسية مؤسسة على الإقصاء والاحتكار. وإعدام الحريات الفردية والجمعية. والتلاعب بالإرادة الشعبية”.نعم، وهذا هو وضع ليس النظم التسلطية فقد، بل وتلك التي تلبرت منذ ثلاثة عقود مثل مصر،وأخرى لم تكن إلا نظم ليبرالية مثل المغرب والأردن. وبالتالي يجب أن نلحظ بأن هذا هو توضّع الليبرالية اليوم، ولن تكون إلا كذلك، وأيضاً لن يتبلور أي”فكر ليبرالي مكتمل”،هذا هو الواقع الليبرالي وهذا هو الفكر الليبرالي.