الأصولية الدينية في أميركا
د. طيب تيزيني
يُلاحظ في كثير من الأوساط الشعبية وفي أخرى تتمثل بنسبة ليست ضئيلة من المهندسين والأطباء والتكنولوجيين والعاملين عموماً، في الحقول التي أنتجتها أو وسَّعتها ثورتا المعلومات والاتصالات على امتداد ما يقترب من العِقدين المنصرمين، بروز حالة من التدفق الديني ذي الخصوصية الأصولية.
برز ذلك في العالم العربي، بعد أن كان قد حقق حضوراً في التاريخ العربي الإسلامي بين تصاعد وهبوط، وفقاً لواقع الحال السوسيوثقافي والاقتصادي والأيديولوجي. وثمة ملاحظة منهجية مهمة تقوم على أن الشريط الأصولي الديني في التاريخ المذكور نشأ ببواعث وتأثيرات داخلية، في المقام الأول، وعبر الاحتكاك السلمي وغيره مع الغرب عموماً، في المقام الثاني، علماً أن صيغ هذا الاحتكاك السلمي كانت من التنوع بحيث تبلورت في المثاقفة والتجارة وما يتصل بهما من حيثيات أخرى.
وهذا ما ظهر -كذلك- في الولايات المتحدة منذ تكوّنها وتحوُّلها إلى موزاييك اثني وثقافي وديني ولغوي… إلخ، ولقد قدمت الطبعة التي أنجزت لموسوعة الأديان في هذا البلد ما يزيد على (2150) ديناً منظماً. (أنظر: بيتر سكاون -أميركا. الكتاب الأسود، الطبعة العربية عام 2003). ولقد قادت التحولات في الموقف من الدين هناك وعبْر ذلك الكم الكبير من الأديان، يداً بيد مع التحولات الاجتماعية والثقافية السياسية والاقتصادية في مجتمع وسوق لا ضابط لهما إلا حرية هذا الأخير، إلى جملة من الظواهر التي راحت تهز الأديان هناك عموماً، وعلى صعيد الكنيسة البروتستانتية تخصيصاً، وكان ذلك قد أخذ يفصح عن نفسه في بواكير القرن العشرين. وبرأي الباحث المذكور، فإن تلك الهزّة الدينية هي التي كانت من وراء نشأة فكرة “الأصولية الدينية”. ويرجح أن هذه الفكرة تحولت إلى مصطلح في مؤتمر عُقد حول الكتاب المقدس عام 1910 في منطقة شلالات نياغارا.
ومن المهم الإشارة إلى أن ذلك قد أتى كرد فعل على ما نُظر إليه على أنه تفسخ في المنظومة القيمية للبروتستانتية. ويخصص “وليم فانس ترولّلنجر” تلك الفكرة، فيرى أن الأصولية “ارتبطت دائماً بالوطنية (المتشددة) والعسكرية واقتصاديات السوق الحرة لدى أميركييّ ما بعد فيتنام وما بعد ووترغيت، حيث لعب الأصوليون المُحمّسون سياسياً، والذين تاقوا لإعادة إنشاء (أميركا مسيحية)، دوراً مهماً ومرئياً في إحياء الحق”. ولعل الأصولية أخذت حيّزاً غير ضئيل بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، حيث راحت تُفسَّر بوصفها عقاب الله لأميركا “لإجازتها مُناصري المرأة… والمؤيدين لمبادئ الحرية وبعض القضاة الفيدراليين”، وصاحب هذا الرأي -وهو روبرتسون- كان يعلن أمثال الشّذرات الفكرية التالية: “كيف سيكون هناك سلام حين يكون السِّكيرون وتجار المخدرات والشيوعية والملحدون وعبدة الشيطان والإنسانيون الدُّنيويون والطغاة المستبدون وجامعو الأموال والقتلة الثوريون في القمة”؟
والطريف في ذلك أن تيار أو تيارات الأصولية المختلفة والمؤتلفة أخذت تتعاظم بوصفها خطاباً إيديولوجياً وكذلك -وهذا مُلفت- من حيث هي خطاب سياسي يخترق الحملات العسكرية والسياسية والسجالات المختلفة، في مرحلة الرئيس بوش الابن. وبالرغم من أن إعلانه الحرب ضد “الإرهاب والإرهابيين” من أمثال الحركة “الطالبانية” المغرقة في الأصولية، فإن مواقفه ظلت محافظة على بُعد أصولي. ووصل ذلك إلى درجة أنه تحدث عن “الحروب الصليبية” التي قادها الغرب القروسطي ضد العرب والإسلام، بكل الشرعية. وقد تحدث بوضوح عن أن مرجعيته السياسية تتمثل بتلك التي أرسى دعائمها “الفيلسوف السياسي المفضَّل لديه وهو يسوع”. وهذا ما أثر تأثيراً سلبياً في الحزب “الجمهوري”، حيث تجلّى ذلك في الإرث الأصولي الأميركي، وفي الحركات الأصولية الأميركية المعاصرة، التي أفقدته سيطرته على حزبه نفسه. وهذا ما أفقده، على رأي البعض، إمكانية المحافظة على “فكرة الاعتدال” في ذلك الأخير (أي الحزب).
ونرى أنه من الأهمية بمكان ما أشار إليه “فانس ترولّلنجر” في قوله السابق من أن الأصولية الأميركية اقترن نشوؤها بعوامل كثيرة يقف الاثنان التاليان في مقدمتها: المواقف المتشدّدة في السياسات الوطنية والعسكرية والثقافية ذات المنحى القائم على التمركز على الذات أولاً، واقتصاديات السوق المدمّرة للقاع السكاني الفقير والمُفقَّر والمُذلّ، إضافة إلى أطراف واسعة من الفئات الوسطى. وفي ضوء ذلك، قد يصح القول بأن العامليْن المذكوريْن يمثلان قاسميْن مشتركين في معظم الحركات الأصولية الدينية في عصرنا.
جريدة الاتحاد