رابح لن يحكم وخاسر لن يعارض
فواز طرابلسي
في تحليل الانتخابات النيابية، يجري التركيز على الانقسام بين الكتلتين المتنافستين، لذا يجدر التذكير بما يجري إهماله: حقيقة أن معظم الفائزين ينتمون إلى واحدة من ثلاث فئات: كبار الرأسماليين وزعماء الميليشيات وأحزابها وبقايا السلالات السياسية. وحقيقة أنه في هذه المعركة الأخيرة، تفوقت الفئتان الأولى والثانية على الفئة الثالثة، عدداً على الأقل. ولا بد من الإضافة أن عدداً لا بأس به من النواب الجدد، البالغ عددهم 47 نائباً، هم إما من نتاج التناسل السلالي أو أنهم قد وصلوا إلى النيابة من خلال عملية تبديل للمرشحين الحزبيين.
لا معنى لإلقاء اللوم على «قانون الستين» من حيث المسؤولية عن الاعتصاب والتجييش الطوائفيين. فالقانون بحد ذاته لا يفسّر النتائج التي أدت إليها الانتخابات. يكمن التفسير في شبه الإجماع بين أطراف الطبقة السياسية على اعتماده. فالقانون الانتخابي لا يفعل مفعوله بغض النظر عن إطاره الزمني والمجتمعي والنفساني. كان الغرض من اعتماد هذا القانون في عهد فؤاد شهاب استيلاد زعامات متوسطة لكسر احتكار زعماء المناطق المسيطرين على التمثيل النيابي في المحافظات. أما العودة إليه، بعيد حرب أهلية ساخنة وتداعياتها العنيفة في 2005 و2008، فقد خدم العكس تقريباً: كرّس احتكار عدد من زعماء الأحزاب والميليشيات لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة لتمثيل طوائفهم وإقفال التمثيل السياسي لمعظم الطوائف خلا الطوائف المسيحية.
بهذا المعنى، أدخلت انتخابات الـ2009 تعديلات في الجغرافية النيابية لا في توازن القوى الفعلي بين الطوائف والمذاهب المسيّسة. فالمقياس، على ما أعلمنا أحد نواب كتلة «الوفاء للمقاومة» ليس من فاز في الانتخابات، أو من لم يفز، بل من هو المسيطر في طائفته. فهذه هي التشاركية. وليس صدفة أن القسم الأكبر من المقاعد حُسم أمره سلفاً ـ مع أن الأمر لم يخل من المفاجآت ـ وأن أعمال التصويت كانت أشبه بـ«الاستفتاءات» في الدوائر حيث للقوى المختلفة، وخصوصاً «حزب الله»، أكثريات كاسحة من الأصوات.
تفصيل ليس بالصغير هو عدد الذين صوّتوا بالورقة البيضاء. زاد عن الأحد عشر ألفاً. تصعب معرفة من هم هؤلاء تحديداً. لكنهم بالتأكيد خميرة للزمن الآتي عندما «تنجلي الرغوة عن الصريح»، رغوة 8 و14 عن صريح الإرادة الحرة للبنانيين.
يبقى أن أغرب التعليقات على حصيلة الانتخابات هو كيل المدائح لـ«التعدد المسيحي الباهر» من طرف المعجبين بأداء 14 آذار، يقارنونه بـ«الأحادية الكاسحة» عند الدروز والسنّة والشيعة.
فات هؤلاء أمران: الأول، إن موضوع المبارزات الفعلية بين الأفرقاء المسيحيين لم يكن حماية التعددية، بل كان ولا يزال المنافسة عمّن يكون الزعيم القوي الذي يعيد لموقع الرئاسة الأولى صلاحياته. ومع أن الجنرال ميشال عون كان الأكثر جهراً والأشد ادعاءً في تبني هذا المشروع، فلا شيء ينقص سمير جعجع أو الرئيس أمين الجميل في مجال عروض القوة. إلى هؤلاء، لا يخفي الرئيس ميشال سليمان عزمه على زيادة صلاحيات رئيس الجمهورية. والفوارق هنا ليست في الأهداف بل هي في الوسائل والتحالفات والرعاة الإقليميين والدوليين.
ثانياً، نسي مدّاحو «التعدد المسيحي الباهر»، أو هم تناسوا، أن عميد مشروع «الأحادية الكاسحة» في تمثيل الطائفة بواسطة زعيم فرد وحزب سائد، إن هو إلا الرئيس الراحل بشير الجميل الذي شكّل استئثاره المسلح بتمثيل القسط الأكبر من المسيحيين بين سني الحرب الأولى والاجتياح الإسرائيلي، نموذجاً حاول سائر الزعماء الميليشياويين والعسكريين، مسلمين ومسيحيين، الاقتداء به. ولا بد من الاعتراف بأنهم أصابوا نجاحات هي نفسها باهرة
في هذا المجال. فليس من قبيل الصدفة أن يتبارى البشيريون والعونيون في بيروت الأولى في الانتساب إلى الرئيس الراحل. وحري بمادحي «التعدّد» الإنصات إلى سامي الجميل يهنئ الأرمن على وحدتهم ويلوم المسيحيين على «تعدّدهم». فأحياناً يفيد أخذ «أسرارهم من صغارهم».
حقيقة الأمر أن الرابح في هذه الانتخابات لم يربح لأنه لن يحكم. والخاسر لم يخسر لأنه سوف يشارك في الحكم غير راض بدور الأقلية المعارضة. ذلك أن الأكثرية العددية التي حصلت عليها قوى 14 آذار («الأكثرية الدفترية»، كما أسماها جوزف باحوط) لا تنصرف بما هي تفويض للحكم أي لتشكيل حكومة الفريق الواحد المنسجم ينفذ برنامجه والسياسات. هذا على افتراض أننا بصدد برامج أو سياسات عند هذا الفريق أو ذلك.
باختصار، أعادت الانتخابات إنتاج الاستعصاء البنيوي نفسه في النظام السياسي. إنه الاستعصاء الناجم عن آليتين متراكبتين ولكنهما غير متساوقتين: آلية الحكم بواسطة الأكثرية (الطائف) وآلية الحكم بواسطة التشاركية والثلث المعطّل في الجهاز التنفيذي (الدوحة).
فريق يتأهب لتشكيل الحكومة آملاً في أن يقايض الثلث المعطّل بالضمانات لسلاح المقاومة، وفريق لم يقرّر بعد موقفه من المشاركة، لكنه قد لا يرضى عن الثلث الضامن بديلاً. ولكن ثمة جديداً لم يلحظه اتفاق الدوحة: شرّع الاتفاق لانتخاب الرئيس ميشال سليمان. (وإن ننس لن ننسى دور اتفاق الدوحة في حل الإشكال في دائرة بيروت الثانية!) لكن اتفاق الدوحة لم يلحظ حصة رئيس الدولة في المقاعد الوزارية.
وهكذا لم نعد أمام معضلة صوت ضامن واحد بل أمام صوتين اثنين.
الذين يبشروننا بحكومة اتحاد وطني، يظنون أنهم يبشروننا بجديد. يريدوننا أن ننسى أنه كانت لنا واحدة من هذا الصنف قبل الانتخابات. وكان ذلك في ظل «صوت ضامن» واحد، فكيف باثنين؟
هل للبنانيين أكثر من الانتظار ريثما يجلو الأمر اتفاق إقليمي ما، إذ عجّلت الانتخابات النيابية اللبنانية على ما يبدو من وتائر المصالحة بين «س» و«س» وكلاهما ينتظر بدوره، في ما يشبه الارتخاء، ما سوف يأتي به «الحاوي» الأميركي الجديد للمعتدلين والممانعين العرب على حد سواء؟
وفي الانتظار، يوجد حل داخلي، يبدأ بتطبيق الدستور لتصحيح النظام السياسي من أحاديته: طوائف تنتخب ممثليها مباشرة إلى مجلس للشيوخ بما هي دوائر انتخابية بذاتها. ومجلس نيابي خارج القيد الطائفي يحيط بأدنى تلوين من تلاوين الحياة السياسية وتمثيل المواطــنين في قانون انتخـــابي يعتــمد لبــنان دائرة واحدة والتمثيل النسبي في دوائر مقفلة.
السفير