تهميش الرأي العام في السياسة الأميركية
نعوم تشومسكي
عندما سألتْ “مارثا راداتز” -مراسلة قناة “إي. بي. سي. نيوز”- مؤخراً نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني عن موقفه إزاء استطلاعات الرأي التي أظهرت أن الأغلبية الساحقة من الأميركيين تعارض الحرب على العراق،
أجاب تشيني: “وما المشكلة في ذلك؟” وأثناء توضيح تعليقات تشيني، سُئلت المتحدثة باسم البيت الأبيض “دانا برينو” عما إذا كان ينبغي للرأي العام التأثير في المنحى السياسي؟ فأجابت: “لقد أتيحت لكم هذه الفرصة، ويمكن للشعب الأميركي التعبير عن رأيه كل أربعة أعوام، هذه هي تركيبة نظامنا“.
وعندما يُسأل الأميركيون عما إذا كانوا يعتقدون أن الانتخابات هي المرحلة الوحيدة التي يجب أن يكون فيها للرأي العام تأثير على مجريات الأمور أو عما إذا كان ينبغي للقادة إيلاء اهتمام للرأي العام خارج إطار الانتخابات، يتّضح أن 94 % من الأشخاص المستطلعة أراؤهم يعتقدون أن على المسؤولين الحكوميين أخذَ الرأي العام في الاعتبار في الفترة التي تلي الانتخابات.
ويظهر الاستطلاع نفسه أن الأميركيين لا يعلّقون الكثير من الآمال على احتمال تحقيق تطلعاتهم، فنسبة 80 % ترى أن النخبة الحاكمة تسعى إلى خدمة مصالحها الخاصة، لا مصالح الشعب.
بالفعل، وصلت الإدارة الأميركية إلى أبعد حدود التطرف القومي والمجازفة في الحياة السياسية بتجاهلها التام للرأي العام، وتعرضت، نتيجة لذلك، إلى موجة من الانتقادات لم يسبق لها مثيل.
من الممكن أن ينجح مرشح “ديمقراطي” في إعادة السياسة الأميركية إلى مسار الاعتدال، إلا أن هذا الاحتمال ضئيل. فإذا راجعنا تصريحات هيلاري كلينتون وباراك أوباما، نجد أنه من الصعب إيجاد أي سبب يدفع إلى توقّع تغيّرات ملموسة في السياسية الأميركية في الشرق الأوسط.
ينبغي ألا ننسى أن أحداً من المرشحين “الديمقراطيين” لم يعبّر عن “رفض أخلاقي” لاجتياح العراق. وما أعنيه بذلك هو الرفض الذي عبّرت عنه دول العالم كافة عندما اجتاحت روسيا أفغانستان أو عندما اجتاح صدام حسين الكويت، أي ذلك الرفض النابع من فكرة أن العدوان هو جريمة، أو بالأحرى “الجريمة الدولية العظمى” بحسب ميثاق نورمبرغ. ولم يصف أحد هذين الاجتياحين بأنهما مجرد “خطأ استراتيجي” أو تورط في “حرب أهلية من المستحيل كسبها”، كما وصف أوباما وكلينتون اجتياح العراق.
انتقد المرشحان “الديمقراطيان” الحرب على العراق انطلاقاً من التكاليف الباهظة التي تطلبتها والفشل الذي انتهت إليه، وبات هذان المعطيان يعتبران “سببين واقعيّين” للتنديد بالحرب، وهو موقف يوصف بالعملي والجدي والمعتدل، في إطار الجرائم التي يقترفها الغرب.
توضّحت نوايا إدارة بوش، وعلى الأرجح نوايا “جون ماكين” أيضاً، في إعلان المبادئ الذي وُقّع بين بوش وحكومة المالكي المدعومة من الولايات المتحدة، والذي نشره البيت الأبيض في شهر نوفمبر 2007.
وقد سمح هذا الإعلان للقوات الأميركية بالبقاء في العراق إلى أجل غير محدد “لردع أي اعتداء أجنبي” (علماً بأن خطر العدوان الوحيد المسلّط على المنطقة آت من الولايات المتحدة وإسرائيل، ولو أكدتا أن هذا ليس من نواياهما) ولحفظ الأمن الداخلي، كل ذلك بالطبع في إطار حكومة لا ترفض الهيمنة الأميركية. كذلك، يلزم الإعلان العراق بتسهيل “دخول الاستثمارات الأجنبية إلى البلاد، لاسيما الأميركية منها وتعزيزها”، فيما يمكن اعتباره دلالة صريحة وواضحة عن الرغبة في بسط النفوذ الإمبريالي.
فما هي الخيارات المتاحة أمام “الديمقراطيين” اليوم؟ لقد وضحت الصورة في شهر مارس 2007 عندما وافق البيت الأبيض ومجلس الشيوخ على اقتراحات قدمها “الديمقراطيون” لتحديد جدول زمني لانسحاب الجيوش الأميركية من العراق. وفي مقالة في صحيفة “ذي بوسطون غلوب”، قدّم الجنرال المتقاعد “كفين راين”، وهو باحث رفيع المستوى في مركز “بلفر” للشؤون الدولية بجامعة هارفارد، تحليله في هذا الشأن. وبحسب “راين”، تسمح هذه الاقتراحات للرئيس برفع القيود لمصلحة “الأمن القومي”، الأمر الذي يُبقي الباب مفتوحاً أمام كافة المناورات، كما أنها تتيح للجيوش الأميركية إمكانية البقاء في العراق، طالما أنها ما زالت تنفذ إحدى المهام الثلاث التالية: أي حماية المنشآت أو القوات الأميركية أو المواطنين الأميركيين، ومحاربة “القاعدة” أو الإرهابيين الدوليين، وتدريب قوى الأمن العراقيّة. ويبدو أن الهدف الحقيقي هو إعادة بلورة مهام الجيوش الأميركيّة في العراق. ويخلص “راين” إلى أن هذه الاقتراحات قد تطرح استراتيجية جيّدة، لكن فكرة الانسحاب مستبعدة. وفي المحصلة، يصعب إيجاد فوارق بين اقتراحات السابع من مارس التي قدمها “الديمقراطيون” وتلك الخاصة بأوباما وكلينتون. وحول إيران، يُعتبر “أوباما” أكثر اعتدالاً من هيلاري في إطار الملف الإيراني، وشعاره الرئيسي هو “التغيير”، حيث يطالب باستعداد أكبر من الجانب الأميركي للمفاوضة مع طهران، لكن ضمن الحدود التقليدية. وصرح علناً بأنه قد يمنح محفزات اقتصادية لإيران ويتعهّد بعدم السعي إلى “تغيير النظام” في حال أوقفت الدولة الإيرانيّة تحركاتها في العراق، وتعاونت في مسألة الإرهاب والملف النووي، وأقلعت عن سلوكها المتهوّر المتمثل في دعم الجماعات المسلحة الشيعية في العراق.
وفي هذا الإطار، تطرح بعض الأسئلة البديهية نفسها، مثلاً: ما سيكون رد فعلنا في حال صرّح الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد بأنه قد يتعهّد بعدم السعي إلى “تغيير النظام” في إسرائيل في حال أوقفت هذه الأخيرة ممارساتها غير الشرعيّة في الأراضي المحتلّة، وتعاونت في مسألة الإرهاب والملف النووي؟
مقاربة “أوباما” المعتدلة تلاقي صدى إيجابياً لدى شريحة الناشطين من الرأي العام، وهو واقع لم يسترع انتباه الكثيرين، كالعادة. وشأنه شأن كافة المرشحين الذين يتمتعون بحظوظ للفوز، أصرّ “أوباما” في جميع مراحل حملته الرئاسية على أن الولايات المتحدة ينبغي أن تهدد إيران باحتمال شن هجوم عسكري عليها، العبارة المعتادة في هذا الصدد هي “إبقاء كافة الخيارات مفتوحة”، مما يشكل، للتذكير، انتهاكاً لميثاق الأمم المتحدة. غير أن الأغلبية الكبيرة من الأميركيين لا توافق على هذا الرأي. وبالفعل، تؤيد نسبة 75 %من الذين استطلعت آراؤهم تحسين العلاقات مع إيران، في حين لم تتعدَّ نسبة الذين يؤيدون فكرة “التهديدات الصريحة” 22 %، بحسب برنامج تقييم الرأي العام بشأن السياسة الدولية. وبالتالي، فإن المرشحين “الديمقراطيين” لا يؤيدان موقفاً يتبناه 75 % من الرأي العام حول الملف الإيراني.
شكلت أراء الأميركيين والإيرانيين حول المسألة المحورية المتمثلة في السياسة النووية موضوع دراسة معمقة. ففي البلدين، ترى شريحة كبيرة من السكان أن إيران يجب أن تتمتع بالحقوق عينها التي يتمتع بها أي من موقعي معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، بما معناه أنه ينبغي السماح لها بتطوير الطاقة النووية، لا الأسلحة النووية.
كذلك، تؤيد الشريحة نفسها فكرة إنشاء منطقة خالية من الأسلحة النووية في الشرق الأوسط تشمل الدول الإسلامية وإسرائيل. أما نسبة 80 % فتؤيد إزالة الأسلحة النووية بشكل تام من المنطقة، وهو واجب قانوني يلزم الدول التي تملك الأسلحة النووية، إلا أن إدارة بوش عمدت إلى رفضه رسمياً.
وعلى الأرجح، فإن التقييم الاستخباراتي القومي الذي صدر في شهر ديسمبر 2007، والذي أشار إلى أن إيران لم تكمل أي برنامج لتطوير الأسلحة النووية منذ سنة 2003 عندما سعت إلى التوصل إلى تسوية شاملة مع الولايات المتحدة وفشلت في مساعيها، يعكس أيضاً معارضة الأجهزة الاستخباراتية للهجوم العسكري على إيران.
لكن يمكن أن تتغير الظروف، ويتغير المرشحون معها، لمصلحة الولايات المتحدة والمنطقة بأسرها. ومن المحتمل أيضاً ألا يبقى الرأي العام مهمشاً ومتجاهلاً. كذلك، قد تقرّ القوى الاقتصادية المحلية، التي تحدد مسار السياسة الأميركية بجزئها الأكبر، بأنها قد تخدم مصالحها بصورة أفضل لدى تلاقيها مع الرأي العام الأميركي وباقي دول العالم، لا عن طريق تقبل سياسة واشنطن المتشددة.
أستاذ الفلسفة واللغويات بمعهد ماساشوسيتس للتكنولوجيا- كامبردج
ينشر بترتيب خاص مع خدمة “نيويورك تايمز“.
جريدة الاتحاد