صفحات سورية

اعلان دمشق”، “كفاية”، “18 أكتوبر”: أمثلة تعاكس السؤال

null


نهلة الشهال


بداية أثير تساؤلاً حول الارتباك في تعيين الموضوع، أو ما بدا لي انه قدر منه. فالسؤال يتضمن نفيين: الأول في تعيين الحقل، الذي سُمي “الاتجاهات غير الدينية”، والمضمر هو افتراض طغيان “الاتجاهات الدينية” على الحقل العام، أي اتجاهات الإسلام السياسي، فلماذا لا تسمى؟ والثاني هو في التساؤل حول “ماذا يبقى من دور”، الذي يضمر هو الآخر جوابه أو إيحاءه بأن هذا الدور قليل، إذا بقي منه شيء
.

ثم أتناول موضوعة “الحقل العام”، فهل المقصود به المجال السياسي؟ لأنه في ما عدا ذلك، فالحقل العام واسع جداً، فيه الاجتماعي والنقابي والثقافي والإعلامي والفني الخ

حسناً، بعد تلك التحفظات الاحتياطية، وبعيدا تماما عن المشاكسة، أميل إلى الجواب بما يعاكس الإيحاء الوارد في السؤال، أو على الأقل بما يحدّ من وثوقه. وانتقي لي بضعة أدلة على ذلك من تجارب جديدة في المنطقة العربية، سأحاول استعراض شيء من ابرز نقاطها. فهناك تجمعات تحالفية في المجال السياسي لفتت الأنظار، بعضها معروف بقوة في لبنان، كحال “إعلان دمشق”، وبعضها الآخر مشهور كحركة “كفاية” المصرية، وثالثها ذو دلالة وإن كان أقل حظاً إعلاميا، وأقصد به “حركة 18 أكتوبر” في تونس، وهناك عدا هذه أمثلة عديدة.

لا يقوم إعلان دمشق (2005) على عمود فقري ينتمي إلى الإسلام السياسي، رغم حضور الأخير فيه. بل تسيطر على أجوائه العامة “الاتجاهات غير الدينية”، اليسارية أو الليبرالية. وبغض النظر عن تقييم كل واحد منا للصراعات التي تخترق هذا التحالف، وبخاصة الأخيرة منها التي تسببت بخروج بعض مكونيه، إلا أن الإسلام السياسي لا يتحكم بمحاور ذلك الصراع الجاري بين جهات كلها “غير دينية”. ثم وبغض النظر أيضاً عن رأي كل واحد منا بدور “إعلان دمشق”، وبمستقبله الممكن، أو بديمومته ومآلاته، فمما لا شك فيه انه يمثل ظاهرة السنوات الماضية الأبرز في الحياة السياسية السورية، الموقف الأشد وضوحا وشجاعة في قربه (وإن الجزئي، وإن الرمزي، وإن المصاب في سياق صيرورته الشاقة بانحرافات عن وجهة الابتداء)، مما ينتظر الناس إعلانه حتى لا يكون موات تام.

وعلى ذلك، فوجود اتجاهات دينية ضمن مكونيه ليس تفصيلاً، وهو يعني أن تلك الاتجاهات، على قوة رصيدها الشعبي، وجري الرياح اليوم وفق هواها، تحتاج إلى إقامة تحالفات مع شيوعيين وناصريين وديموقراطيين وليبراليين، وكتاب وفنانين لا يكنون لها الإعجاب إن لم نقل أكثر. تنازل برغماتي اتقاء لشر الانكشاف أمام قمع لا يرحم؟ ربما. ولكنه هنا، حقيقة واقعة ملموسة تعني أن هؤلاء الآخرين لهم دور مُقَر به، ضروري وذو قيمة. وفي سوريا اليوم، فإن من يذهب إلى السجون ويتعرض للتنكيل، ليسوا الإسلاميين الذين اخلوا ساحة التحرك – لأن تهمتهم تقود إلى الإعدام، فإما تخفوا تماماً أو غادروا إلى جوار البيت الأبيض كحال فريق من الإخوان المسلمين – وإنما عارف دليلة وميشال كيلو والأخوان البني، ومؤخراً فايز سارة، هذا إذا لم نذكر إلا الأسماء “المعروفة”، وهم خليط غير متوافق على كل شيء، بل مختلف في الخيارات السياسية، ولكنهم جميعاً علمانيون. وهم من أصبحوا في أعين السوريين والعرب والعالم رموز الحقل العام بمقدار ما هو قائم.

أما الحركة المصرية من أجل التغيير “كفاية”، فهي ابتدأت عام 2004 بقرار تأسيسي اختار العضوية الفردية وليس التنظيمية، تداركا للإخلال بتوازنها الداخلي الذي يمكن أن يعنيه دخول حزب بحجم جماعة “الإخوان المسلمين” إليها. وهؤلاء شارك أفراد منهم في “كفاية” جنبا إلى جنب هنا أيضا مع يساريين وناصريين وديموقراطيين وليبراليين. بل ترأس الحركة قبطي، وكان ذلك موقف يحمل الكثير من الدلالة. وقد أدت “كفاية” دوراً خطيراً في الحياة السياسية المصرية، التي كانت قبلها قد استسلمت لقدر من الانمحاء وعدم التجرؤ على شيء، بينما كان الواقع السياسي والاجتماعي المصري يهبط من سيء إلى أسوأ. فجاءت مسألة تعديل الدستور في ما يخص شروط الترشح للانتخابات الرئاسية وتلتها الاستعدادات لتوريث جمال مبارك لتفجر حركة احتجاج من غير المبالغ به القول إنها تجاوزت في ديناميتها توقعات مطلقيها، وفاجأت السلطات المصرية التي كانت في بداية الأمر تعامل مناسباتها باستهزاء بصفتها “حركات مثقفين وشوية فنانين وخواجات”، إلى أن اضطرت إلى إنزال آلاف مؤلفة من رجال الشرطة للإحاطة بكل تجمع كانت تدعو إليه “كفاية”، ليس بسبب جماهيريته الحاشدة وإنما بسبب ما عنى: كسر حاجز الرهبة من مجابهة السلطة، الذي أسسته سنوات من القمع ممزوجة بمقدار لا يقل عن القمع المباشر والجلف أهمية يتمثل بمصادرة الشرعية الجماهيرية من قبل أنظمة تقوم بذلك باسم الاشتراكية، وبتخلي القوى السياسية والفكرية المعنية عن دورها النضالي، بسبب الإرهاق والاستنزاف أو الانتهازية

وسرعان ما ظهرت نتائج كسر حاجز الخوف واستعادة القدرة على المبادرة، فعمت مصر في السنتين الفائتتين التحركات المطلبية، عمالية وفلاحية وطالبية، بل تلك التي شملت قطاعات كبيرة من الموظفين. ويحوز هذا التقييم لدور “كفاية” على قدر عال من التوافق عليه في مصر، ويحاذر في الوقت نفسه من الوقوع في المبالغة ومجانبة الصواب، بادعاء أبوّتها لهذه التحركات، غير المطبوعة بـ”اتجاه ديني”، والتي تدخل هي الأخرى في حيز “الحقل العام“.

ثم هناك ظاهرة ثالثة فرضت نفسها على الحقل العام في بلدها، أعني بها “حركة 18 أكتوبر” التونسية، وهي التي يحمل اسمها تاريخ الإضراب عن الطعام الذي قامت به مجموعة من المناضلين اعتراضاً على عزم ارييل شارون القيام بزيارة تونس للمشاركة في مؤتمر المعلوماتية عام 2005. كان تسليط الأضواء المتوقع لو تحقق الحدث، فرصة عالمية لإبراز عطب الوضع العام في ظل الرئيس زين العابدين بن علي والنظام البوليسي المحكم الإغلاق الذي بناه الرجل، ويسعى إلى تأبيده في الوقت نفسه الذي يؤبد وجوده على رأسه. وقد تطورت الفكرة فتبلورت بوثيقة سياسية مشتركة جمعت في ذلك الإطار، وبعد نقاشات تفصيلية ومضنية، تنظيمات سياسية وجمعيات وأفراد، يتشكلون هم أيضا من شيوعيين وناصريين وديموقراطيين وليبراليين وإسلاميين. وبينما يتفق الجميع على اعتبار حزب النهضة – الإسلامي الذي يترأسه راشد الغنوشي – أكثر الحركات السياسية التونسية امتلاكاً لقواعد شعبية ممتدة، يتفقون كذلك على عجزه عن الاستفراد بالحقل العام أو السيطرة عليه، ليس بسبب ما يتعرض له من قمع فظيع فحسب، وإنما لأنه لا يحيط بالتطلعات العامة للتونسيين، وهي تطلعات إلى الديموقراطية والحداثة والإبداع الثقافي والتميز التعليمي وحقوق النساء وبناء دولة المؤسسات وضبط الفساد… تلك التي بدا أن إصلاحية بورقيبة الأصيلة، رغم كل شيء وكل النقد الممكن لجوانب أساسية من أسلوبه وما يمثل، تتيح فرصة تبلورها، والتي يمثل حكم بن علي نكوصاً كاملاً عنها.

ومنذ أشهر قليلة، عاد نجيب الشابي وميه الجريبي، وهما من أهم رموز “18 أكتوبر”، إلى الإضراب عن الطعام لأسابيع عدة، احتجاجا على محاولة السلطات مصادرة مقر التنظيم الذي أسسه الأول وتترأسه السيدة الجريبي. إن هذه النضالات من أجل الحقوق العامة تمثل اليوم العصب الحي للحقل العام في تونس، وقد تولد من رحمها أو بفضلها، أشكال وميادين أخرى للتحركات الاحتجاجية، يحمل الواقع إرهاصاتها… بما يشابه السياق المصري.

ويمكننا الاسترسال، فنتناول بالفحص هوية من يتحكم بالحياة الثقافية في أماكن متنوعة، كلبنان مثلاً، رغم القوة الشعبية الأكيدة لـ”حزب الله” (الذي حاز عليها لأسباب لا يلخصها البعد المذهبي ولا اللبناني)، أو في المغرب رغم القوة الشعبية الأكيدة، هي الأخرى، لظواهر كـ”العدالة والتنمية”، الأقرب إلى حركة “الإخوان المسلمين” في صيغتها التركية، أو “العدل والإحسان” المتبلورة من قلب تراث التصوف الإسلامي وزواياه، البالغ الرسوخ في تلك الأصقاع

(كاتبة وناشطة سياسية)

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى