ثورتا تونس ومصر: هل هما إيذانان بانتهاء الملكيّتين الجمهورية والأميرية؟
مصطفى علي الجوزو
حين جاء الإسلام لم تكن البلاد العربية تعرف الدولة المستقلة إلا خارج حدودها، أما في الداخل فقبائل كبيرة أو صغيرة يحكمها شيوخها، وقليل من الإمارات التابعة لبيزنطة وفارس. ثم نشأت الدولة الإسلامية، ولم يكن لنظامها صفة سياسية معينة، إلا أنها حكومة النبيّ، فلا هي مُلك كالملك الذي توارثه أنبياء بني إسرائيل، ولا جمهورية، لأنّ الجمهوريات لم تكن معروفة آنذاك، ولأنّ الحكم الدينيّ أقرب إلى الثبات وحكم الشعب أقرب إلى التغيير. صحيح أن الحكم الإسلامي حاول إزالة الفروق الطبقية والعنصرية والقبلية، ووضع أول التشريعات المدنية والنظم السياسية المدوّنة، وعوّل على الشورى، لكنه لم يكن جمهورية.
ومضى العصر النبوي، وفي قلوب المسلمين الأوائل مجافاة للعصبية، فالنبيّ لم يكن يحكم بصفته الهاشمية، بل بصفته الرسولية، وكان المرشحون للخلافة وقت احتضاره خمسة: أربعة غير هاشميين، وهاشمي واحد، هو الإمام عليّ – ونحن لا ندخل هنا في الخلاف المتصل بالوصية – واستقر الاختيار على رجل غير هاشمي، هو أبو بكر الصديق التيميّ، فلقي معارضة من بعضهم لكونه ينتمي إلى قبيلة صغيرة. فلما احتُضر أبو بكر استشار وجوه المسلمين فأقرّوه على العهد بالخلافة لعمر بن الخطاب، وهو عدويّ، فلما احتُضر عمر رفض أن يوصي لأحد بعده ولا سيما لبعض أبنائه، بل عهد إلى ستة صحابيّين ليختاروا واحداً منهم: خمسة غير هاشميين، وواحد هاشمي هو الإمام عليّ نفسه؛ واستقرّت الشورى على اثنين: عثمان وعليّ، فبايع عليّ لعثمان، وعثمان أمويّ. وكان بنو أمية قبل الإسلام أحد أهم قبيلتين في مكة، لا ينافسهم إلاّ بنو هاشم، حتى إذا وافت عثمان المنية لم يعهد إلى أحد بالحكم. ثم تولى الإمام عليّ الخلافة، وهو هاشميّ، فلما طُعن لم يعهد بالخلافة إلى أحد، ولم يأمر بالشورى كعمر. وهذا أمر لافت، فالوصية التي تركها، والتي أثبتتها كتب التاريخ، توحي أنه كان قادراً على تسمية من يخلفه، واستنكافه عن ذلك يدلّ على عدم إيمانه بولاية العهد. ولعل هذا سبب ضعف الخلافة التي تولاها ابنه الحسن بعده، واضطرار الحسن إلى النزول عنها لمعاوية. لكن الذي حدث أن معاوية ابتدع أمر الوراثة في الحكم، فنشأت الملكية الأولى في الإسلام، وانقسم المسلمون بسببها.
وابتداع الوراثة السياسية لم يمضِ دون معارضة؛ فقد ثار عبد الرحمن ابن الخليفة الأول أبي بكر الصديق، وقال في المسجد: «تريدون أن تجعلوها هِرَقْلِيّة: كلما مات هرقل قام هرقل»، وأنكر ذلك معه الحسين بن عليّ وعبد الله بن الزبير، ونشأ من هؤلاء الثلاثة ومن عبد الله ابن الخليفة الثاني عمر حزب المعارضة، وكان كلام ابن الزبير لمعاوية معبّراً عن تاريخ الخلافة غير الوراثية إذ قال له: «قُبض رسول الله (ص) ولم يستخلف أحداً، فارتضى الناس أبا بكر (…)، فاصنع كما صنع أبو بكر؛ فإنه عهد إلى رجل من قاصِيَة قريش ليس من بني أبيه فاستخلَفَه؛ وإن شئت فاصنع كما صنع عمر: جعل الأمر شورى في ستة نفر ليس فيهم أحد من ولده ولا من بني أبيه»، وأيّد الآخرون قول ابن الزبير، فهددهم معاوية بالقتل حتى تسنّى له أخذ البيعة ليزيد من الناس في المسجد وهم ساكتون.
فلما مات معاوية وتولى يزيد الحكم امتنع من بيعته الحسينُ بن عليّ، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن العبّاس، ثم بايع له الأخيران مكرهَيْن، وفرّ ابن الزبير إلى مكة حيث استقل بالحكم، وأصرّ الحسين على رفض البيعة. ثم كانت كربلاء، ثم استباح جند يزيد المدينة ومكة التي تحصن بها ابن الزبير.
وبعد ذلك توالت الأسر العربية على الخلافة الملكية واصطرعت، ونشأت إمارات مستقلة وسلطنات، وكان آخر الخلافة خلافة بني عثمان في تركية، التي أُعلن إلغاؤها سنة 1924م، بعد قيام الجمهورية التركية سنة 1923، وهي أول جمهورية في البلاد الإسلامية، في ما نعلم. والمفارقة أن مصطفى كمال منشئ هذه الجمهورية مارس العسف في بلاده، وظل رئيساً للجمهورية حتى وفاته سنة 1938، أي مدة خمس عشرة سنة، عدا ثلاث سنوات قضاها رئيساً للجمعية الوطنية الكبرى، قبل ذلك، وهذا بقول آخَر حكمٌ ملكيّ بتسمية جمهورية، مع فرق هام هو أن مصطفى كمال لم يورث ابنه الحكم، إن كان له ابن، بل جاء بعده حكام آخرون…
وفي أواخر العهد العثماني وبعد نهايته حكمت البلاد العربية ممالك متعددة، كانت إما امتداداً لممالك قديمة، أو جديدة بالكلية، وكان حكامها يُدْعون إما أمراء للمؤمنين أو خلفاء، الخ، حتى بعد نيل البلاد الاستقلال، باستثناء لبنان وسورية والجزائر التي استقلت بنظام جمهوري.
فلما أن وقعت نكبة فلسطين حمّلت الشعوب العربية حكامها مسؤولية ما جرى، واتهمت بعضهم بالتواطؤ مع الاستعمار وقوى الاغتصاب أو بالعمالة لهما، وأدى ذلك إلى انقلابات العسكرية، كما هو معروف. لكن الذي حصل أن الانقلابيّين، وحتى الثوّار أيضاً الذين انتزعوا الحرية من الاستعمار، استمرأوا كرسيّ الحكم، وجعلوا الأمر هرقلية وفق مصطلح عبد الرحمن بن أبي بكر، أي أصبحوا على مذهب معاوية لا على مذهب الخلفاء الراشدين الأربعة. فأقام عميدهم في الحكم واحداً وأربعين عاماً ونصف العام، حتى الآن، وهو ما لم يستمر عليه أي ملك، إلاّ مؤسس المملكة السعوديّة. ولذلك ضحّى بعضهم بأمته كلها من أجل أن يبقى في الحكم ثم يورثه ابنه. حتى لبنان، الدولة الوحيدة التي لم ينجح فيها انقلاب، والتي مارست الحكم الجمهوري بأقل قبح ممكن، بالقياس إلى سائر الدول العربية، لم تبرأ من الهرقلية والتوريث، فحكَمَ أحد رؤساء جمهوريتها تسعة أعوام بلا مسوّغ دستوري، وأتى بابنه نائباً وبصهره وزيراً، وتولى أحد رؤساء وزرائها رئاسة الحكومة أكثر من عشرة أعوام، ثم ورثه ابنه لمجرد البُنوّة، وكأن آية أُنزلت بأن لأبناء المغتالين من رؤساء الحكومات حقاً حصرياً في وراثة الحكم، وتولى أحد رؤساء المجلس النيابي الرياسة ثمانية عشر عاماً، حتى اليوم، وورث بعض النواب والوزراء آباءهم، وحاول بعضهم وراثة أمهاتهم فلم يفلح، ولولا ما يجري في الأنظمة الديكتاتورية لاستحق بعض حكام لبنان الدخول في موسوعة غينتس، ليس فقط من حيث مدد الحكم، بل من حيث الانتفاع المالي منه.
وبكلمة، إن البلاد العربية لم تعرف الجمهوريات الخالصة بالمعنى الاصطلاحي الحديث للكلمة، بل عرفت الممالك الأميريّة والممالك الجمهورية التي يهيمن عليها نفر من المنتفعين، والتي تعتمد الوراثة السياسية غالباً، وهذا من ضروب الإبداع العربي الذي قلّ نظيره، والذي تتصل رَحِمُه بالديموقراطية التوافقية، ولا يبعث على رضا الشعوب إطلاقاً، لأنه يستعبدهم ويفقرهم ويستذلهم ويغذّي الفساد في دولهم. نحن لا نفاضل بين الجمهوريات والممالك، لأن المعوّل في أيّ نظام سياسيّ على مقدار احترام الحكّام للديموقراطية، ومقدار إخلاصهم لأممهم ونظافة أيديهم ونزاهة ضمائرهم، ومقدار خدمتهم لشعوبهم. لكن المؤكّد أن الديموقراطية والإخلاص والصدق والنزاهة والتفاني في خدمة الشعب لا تجد متّسعاً في العالم العربي. والزمن المتطور لا ينتظر صحوة الحكام الفاسدين، وليس قادراً على إيقاظهم من سُكر السلطة؛ وحين يطول احتمال الشعوب للأذى وصبرها على الاغتراب النفسي والمكاني، وحين تجد أن الخيار بين الموت جوعاً أو قهراً، وبين الموت في ميدان الثورة، فلا بد من أن تقول قولة المتنبي «عِشْ عزيزاً أو مُتْ وأنتَ كريمُ». ومن هنا نفهم أسباب الثورتين التونسية والمصرية؛ لقد أحرق البوعزيزي نفسه كيلا يعيش ذليلاً، وكي يموت بيده لا بيد أجهزة القمع، ولا ببراثن الجوع، ثم كي يوقظ ضمير شعبه على الحقيقة المرّة التي يعيشها، وعلى المصير القاتم الذي يمضي إليه تحت الديكتاتورية، فأيقظ الثورة فيه. وكذلك فعل من استشهدوا في ميادين مصر، فقدموا أنفسهم وقوداً للثورة. والراجح أن كثيرين سيوقِدون نار الثورة في البلاد العربية، وستكون ثورتا تونس ومصر نذيراً بانتهاء الملكيات الجمهورية، وربما الأميريّة أيضاً. ويبدو أن القرن الحادي والعشرين هو عهد فوز الشعوب العربية، واستردادها حقها في حكم نفسها بنفسها، وليس بواسطة قلة انتهازية تستغلها وتستعبدها وترهن حقوقها وكرامتها للأعداء.
ولا بد في هذا المقام من التنويه بدور المقاومتين اللبنانية والفلسطينية في حثّ الشعوب العربية على الثورة. فبعد الشعور بالإحباط والاغتراب والهزيمة واليأس، أيقظ فوز المقاومتين على إسرائيل في السنوات 2000 و 2006 و 2008، الروح والعنفوان في صدر الامة، فأراد الحكام المرتهنون وأد هذه اليقظة بصلافة، فكان الصدام الكبير بين إرادة الحياة العزيزة، وإرادة الموت، وأومضت الشرارة…
وينبغي تحذير القلة الانتهازية في لبنان من التحريض على المقاومة تحت ستار المذهبية، وسَوْق اللبنانيين إلى حرب أهلية، وجعل الأبرياء ضحايا منافعها الخاصة وخططها المشبوهة، ثم فرارها إلى الخارج حين تشعر بالخطر. كما ينبغي تحذيرها من استغباء الناس بزعمها أن ثورة مصر تقليد ليوم الغضب في لبنان؛ وأنها مولودة من رحم ثورة الأرز، وأن لبنان في مأمن من الثورة لسبقه إلى الديموقراطية، بفضل ما انتجته ثورة الأرز المزعومة؛ وأن متظاهري ساحة الشهداء في بيروت كانوا أكثر من متظاهري ميدان التحرير في القاهرة!! ونكتفي بالقول إن متظاهري يوم الغضب في لبنان كانوا كبلطجية تونس ومصر، وأن ثورتي هذين البلدين قد خرجتا من رحم شعبيهما الأبيّين، وأن التبعية للاستعمار لا تلد ثوّاراً، بل تضع ثيراناً، وأن الذي أنتجه انقلاب الأرز ديموقراطية كديموقراطية حسني مبارك. وأما المقارنة بين عديد متظاهري مصر ومتظاهري انقلاب الأرز فأمر مضحك. نعم قد يستطيع الفاسدون في لبنان خداع الناس والاحتماء بالطائفية إلى أجل، لكن ذلك لن يطول، ولا بد من أن يُساءَل بَهلوانيّة الطائفية يوماً…
السفير