الخراب الكبير
نديم جرجورة
لم يكن مفاجئاً بلوغ الكلام السياسي اللبناني هذا المستوى من الانحدار الفظيع، لأن سياسة التحريض المذهبي المنتهَجَة منذ اغتيال رفيق الحريري تضمّنت شتماً وتقريعاً وتخويناً، ما أفضى إلى هذا الدرك القاتل في التواصل اللبناني الداخلي. لم يكن صادماً استخدام سياسيين لبنانيين كلمات بائسة في مضامينها ودلالاتها السلبية، في حوارهم مع الآخر (رجل دين، إعلامي، عدو)، لأن اللغة السياسية المعتَمَدة في النزاع اللبناني الآنيّ استعانت بالمعاني السيئة كلّها في التخاطب اليومي بين الأطراف المتحاربة بعضها ضد البعض الآخر. لم يكن مغايراً للمألوف اللبناني، الطالع من لحظة الصدام الجديد بين اللبنانيين قبل أربعة أعوام وبضعة أشهر، ما قاله هذا السياسي في خلوة، أو ما تفوّه به ذاك السياسي عبر هاتف، أو ما نطق به زميل ثالث لهما عبر الشاشة الصغيرة؛ لأن العبقرية السياسية اللبنانية تفتّقت عن نهج لا مثيل له في القاموس السياسي الكلاسيكي، وفي لغة السياسيين المتحدّرين من العائلات المذهبية المتحكّمة في النظام الطائفي. وهذا النهج متعلّقٌ بحالة سياسية وليس بعاملين في السياسة، لأن ما جرى في الأيام القليلة الفائتة دليل على أن السياسيين القادمين إلى العمل في الشأن العام من عائلات غير معروفة أو غير تقليدية لا يختلفون إطلاقاً، شكلاً ومضموناً، عن أولئك المتجذرين في عائلات معروفة وتقليدية لم تعد قادرة على إنجاب قادة سياسيين على المستوى العائلي المحلي الضيّق، على الأقلّ.
لكن السياسيّ اللبنانيّ لا يتحمّل، وحده، مسؤولية الانحدار المذهل إلى هذا الدرك القاتل من البؤس اللغوي. فالمشاهد الثلاثة الآنفة الذكر (وهي نماذج أوضح عن حالة أعمّ) تعكس صورة لا تقلّ بؤساً عن غيرها: هناك رجال دين وإعلاميون وعاملون في مجالات متفرّقة ساهموا في تفتيت بقايا الدرع الأخلاقية التي حصّنت البلد وناسه لبعض الوقت، على الرغم من الشقاء المدمِّر الذي صنعته الحرب الأهلية اللبنانية وأعوام السلم الهشّ والمنقوص، قبل أن تُمارَس سياسة التحريض المذهبي العنيف، التي عكست حالة واقعية أخفى اللبنانيون عيونهم عنها طويلاً، قبل أن تنفجر أمامهم فتسوقهم إلى الخراب الكبير. هناك لبنانيون متمرّسون في صوغ مفردات بذيئة يستعملها كثيرون في علاقاتهم بالآخرين، تابعين أم أعداء، مع أن حدّة اللغة البذيئة تخفّ قليلاً عند مخاطبة الزعيم أولئك المنسحقين أمام جبروته وسطوته. أما الموافقة على نشر محضر خلوة، بالصورة والصوت أولاً قبل أن تُنشر كتابة لتأكيد «نصّها الرسمي»، فجزءٌ من حقيقة المشهد اللبناني العام، الذي لا يختلف عن تقريع سياسي لرجل دين أو مهاجمته إعلامية وتهديدهما المباشر علناً، وتأكيدٌ على ذروة الفلتان اللبناني المنذر باستمرار مخيف لهذا النهج، بإضافة ممارسات عاملين آخرين في الشأن العام.
ما جرى ليس تحطيماً للقيود الاجتماعية والأخلاقية فقط، بل علامة مضيئة عن مستقبل لبناني ناصع باهترائه القاتل.
السفير