سمعنا نبضة جديدة من لبنان
موفق نيربية
أثبت «حزب الله» في الانتخابات اللبنانية هذه المرة ما كان يقوله من أن سلاحه موجّه للخارج، وأن الآخرين لم يكونوا على حقٍ في مخاوفهم، عن حقٍ أو دعاوةٍ مضادة. تلك المخاوف لم تكن خاصة باللبنانيين بعضهم، بل بغيرهم خارج الحدود، وأقربهم أشدّهم خوفاً، لمعرفته وتجربته المريرة. ولم يرفع المتطيّرون أيديهم عن قلوبهم ويتنفسوا الصعداء حتى السابعة مساء يوم الانتخاب. حين اجتاز اللبنانيون منعطفاً آخر باتجاه الاستقرار.
سادت هذه الأفكار السوداء في الأعوام الأخيرة، مع كلّ مرحلةٍ واستحقاق، بعد حرب 2006 ثم تعطيل الحكومة والبرلمان والاعتصام الشهير وأحداث 7 أيار/مايو حتى اتفاق الدوحة وانتخاب رئيس وتشكيل حكومة… كلّ خطوة إيجابية كانت تتمّ بقلع واحد من أضراس العقل، بالتراجع خطوتين من أجل التقدم خطوة واحدة، لأن القوى الأكثر تطرّفاً؛ دولياً وإقليمياً ومحلياً؛ كانت تبدو جاهزةً لأيّ شيء، وتحت أيّ عنوان. وذلك عين الترهيب وروحه.
فكان البعض؛ داخل لبنان وحوله؛ مكتفياً بسلامة إجراء الانتخابات وانعقادها، وجاهزاً لاعتبار ذلك كفافاً يحمد الله عليه، بغضّ النظر عمّن يفوز بنتيجتها، بل إن بعضهم الأكثر تطرّفاً في استلالاته، كان يتمنى نجاح «حزب الله»، ليدخل اللعبة الديمقراطية وينضبط بالمسؤولية عن استمرار الدولة وتقويتها، فينجح أو يفشل، وفي الحالتين يستفيد لبنان على طريقته، ويستفيد العرب تهدئة محتملة لأمواج التطرف والإثارة المجانية.
فوق ذلك، خاض اللبنانيون انتخاباتٍ اعترف المراقبون بنزاهتها المختلفة نسبياً عن أي انتخابات سبقتها رغم الملاحظات حول إرهاب السلاح ولو كان كامناً، وعن المال السياسي، وغير ذلك. تاريخ الانتخابات اللبنانية كان أسوأ، في أيام أفضل. خاضوها بإقبال مفاجئ مختلف أيضاً عن أي انتخابات سايقة. واستطاعوا تنفيذ أحد الإصلاحات المطلوبة منذ زمن، وهو تواقت العملية وإنجازها في يومٍ واحد، الأمر الذي كان المعترضون عليه- ومازالوا- يحتجون دائماً بضعف الدولة ومؤسساتها.
ربما كان للأجواء التي شكلها تعديل السياسة الأميركية وخطاب أوباما دور رئيس في تمرير الانتخابات بهدوء، مع ما أكده بعد ذلك حول ضرورة الاحتكام إلى صندوق الانتخاب والقبول بنتائجه مهما كانت، مما خفف أثر أقوال بايدن وفيلتمان السابقة. ربما أيضاً أجواء الانتخابات الرئاسية الإيرانية واستعادة الإصلاحيين والعقلانيين لبعض قوتهم، بعد تصريحات أحمدي نجاد وتفجيرات زاهدان الطائفية المنذرة. ربما ثالثاً توافق جانبي بين السعوديين والسوريين. لكن ذلك كلّه لم يكن ليُعَوّل عليه لولا اللبنانيين أنفسهم. استطاع الرئيس اللبناني، بعدّته في الداخلية والدفاع، تأمين حالة انتخابية غير مسبوقة، في ظروفٍ غير مساعدة، رغم ما قيل عن «تدخله» في العملية. واستطاعت القوى السياسية كلّها، أن تحافظ على معايير التهدئة، لإظهار التزامها الخيار الديمقراطي. وقد أثبت ذلك إقرار «حزب الله» وأمل بالهزيمة وبالنتائج، في حين تابع الجنرال عون سياسته النزقة. ذلك النجاح لا يخفي تفاقم الحالة الطائفية في إطار الرجعة إلى قانون 1960 الانتخابي، وحالة التحريض اللاحقة، مما دفع بالإصلاحيين التقدميين إلى الزاوية، وأعاد تكريس إمارات الحرب والطوائف.
أثبت لبنان من جديد، أنه مناط «العروبة» الجديدة، وأن قوى العروبة الأخرى عاجزة وتتخبط في مأزقها، فقد كان منبعاً لوعي النهضة منذ القرن التاسع عشر، ومقراً لقواها الصاعدة وأزمتها المتقمصة بأشكال مختلفة بعد حرب 1967، وها هو يعود متنفسّاً لها بشروطها المتعلقة بالعقلانية والحرية والديمقراطية.
وضع أحد الساسة السوريين المخضرمين عنواناً في مذكراته للفصل المختص بانتخابات 1943 في لبنان؛ التي جرت بعد الانتخابات السورية بقليل:
«المعركة التي لم تخضها سورية يخوضها لبنان»… وقال «… في لبنان تدور المعركة الانتخابية حول القضية الوطنية بين أعوان الانتداب وبين طلاب الاستقلال والتحرر والعروبة. بينما لم يجر شيء من ذلك في الانتخابات السورية، بل إنه لم يجر فيها معركة حزبية أصلا حيث انحلت الأحزاب وعلى رأسها الكتلة الوطنية وعصبة العمل القومي…». «أما في لبنان فقد جرى عكس ذلك، إذ كانت المعركة الانتخابية محتدمة بدقة ووضوح بين أعوان الانتداب وطلاب الاستقلال، وإذا كان التناقض الاستعماري بين فرنسا وبريطانيا قد لعب دورا مهما في دعم الاتجاه العربي التحرري، فما أحراه آنذاك أن يلعب دورا أكثر أهمية في سورية».
«… لهذا ارتفع شأن قادة حركة الاستقلال في لبنان، الخوري والصلح وكرامي ورفاقهم، إلى مرتبة عالية في نظر السوريين، بالقياس إلى قادة الحكم بدمشق، مما جعل الصحافة اللبنانية يتسع انتشارها في سورية أكثر من الصحف السورية نفسها…».
ويمكن- لمن يرغب- أن يقوم بتحديث أسماء الناس والدول وحالة الانتداب والمحاور… بعد أن يضع عباءته جانباً، ويشمّر قليلاً عن ساعديه.
* كاتب سوري