مَن يحكم أميركا ؟
السيد يسين
صعد أوباما إلى منصب الرئيس في الولايات المتحدة الأميركية بعد حملة انتخابية قادها بمنتهى الاقتدار تحت شعار التغيير. وكان لهذه الكلمة وقع السحر لدى ملايين الناخبين الديموقراطيين والجمهوريين، بعد أن طفح بهم الكيل من أخطاء وخطايا ثماني سنوات عجاف، من حكم الجمهوريين برئاسة الرئيس السابق جورج بوش. (…)
جاء الرئيس “أوباما” إذن حاملاً راية التغيير، لأن النخبة السياسية الأميركية جمهورية وديموقراطية، أحست أن “جورج بوش” أضر بسمعة أميركا ضرراً بالغاً بمغامراته العسكرية التي أدخلها فيها، بعد أن رفع شعار “الحرب ضد الإرهاب”، والتي بدأها بالغزو العسكري لأفغانستان، ثم ثنى على ذلك بالغزو العسكري للعراق. وقد انتقل الشعور بالسخط لدى النخبة السياسية الأميركية إلى ملايين الأميركيين، بعد أن تزايدت أعداد الضحايا بين صفوف الجيش الأميركي، وبروز صور نعوش القتلى التى ترد تباعاً إلى واشنطن من العراق، لدرجة أن “بوش” منع إذاعة هذه الصور. بالإضافة إلى زيادة معدلات الانتحار والهرب من الخدمة العسكرية، بعد أن أحس الجنود أنهم زُج بهم في حرب عبثية غامضة الأهداف، وغير محددة الوسائل.
وإذا أضفنا إلى ذلك استنزاف الخزانة الأميركية، وتأثير ذلك على الإنفاق الاجتماعي، لأدركنا أن الشعور بالسخط على الإدارة الجمهورية كان عنيفاً، مما أدى بالجماهير إلى اختيار “أوباما” الذي اكتسح الانتخابات لأنه رفع شعار التغيير.
غير أن السؤال الرئيسي هو هل الرئيس الشاب الجديد الذي تبنى شعارات بالغة الإيجابية، أهمها الاحترام الحقيقي لحقوق الإنسان، وتطبيق حكم القانون، واعتماد لغة الحوار بدلا من لغة المدافع، قادر على إحداث التغيير أم أن هناك عقبات كامنة في صميم بنية النظام السياسي الأميركي، قد تحد من طموحه ولا تسمح له بالتغيير إلا قليلاً؟
هذا سؤال مهم لأن الإجابة الموضوعية عليه هي التي ستحدد مدى واقعية الآمال التي علقها على أوباما ملايين البشر سواء في الولايات المتحدة أم في خارجها ممن جذبتهم القصة الأسطورية لصعوده من اللامكان، لكي يتصدر كرسي رئاسة الولايات المتحدة، بالرغم من أصوله العرقية المختلفة التي يكشف عنها اسمه الغريب “باراك حسين أوباما”، وظروف نشأته الصعبة التي خاضها بإرادة من حديد، لكي يتخرج في جامعة هارفارد العريقة، ويصبح قانونياً لامعاً ثم يكون بعدها أصغر أعضاء الكونغرس سناً.
ما هي فرصة أوباما التاريخية في تغيير توجهات السياسة الخارجية الأميركية؟
فلنعترف منذ البداية أن إدراكات النخبة السياسية الحاكمة في الولايات المتحدة للمصالح القومية، من شأنها أن تحد قدرة أي رئيس على التغيير المطلق مهما كانت شخصيته واتجاهاته السياسية!
بعبارة أخرى هناك “أجندة” تحدد المصالح القومية الأميركية التي تبلورت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، وبعد بداية الصراع الذى نشب بعد تحقيق انتصار الحلفاء على دول المحور (ألمانيا- وإيطاليا- واليابان) بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي.
وقد حددت الولايات المتحدة استراتيجيتها مبكراً فى هذا الصراع في ضوء مذهب “الاحتواء” Containment الذي صاغ معالمه الديبلوماسي الأميركي الشهير “جورج كينان”، ويعني ببساطة محاصرة الاتحاد السوفياتي عسكرياً بالأحلاف وفي مقدمتها حلف “الناتو”، وسياسياً بمحاربة امتداد الشيوعية إلى مختلف دول العالم، وثقافياً بشن حرب إيديولوجية ضد الماركسية فيما أطلق عليها من بعد “الحرب الباردة الثقافية”، التي قامت على أساس تفنيد دعاوى الماركسية وتشويه التجربة الشيوعية، وتمجيد المبادئ الرأسمالية، وتقديم صور جذابة لأسلوب الحياة الأميركي.
ومعنى ذلك أن محاربة الشيوعية كانت البند الأول فى بنود أجندة المصالح القومية الأميركية.
أما البند الثاني فهو التأييد المطلق للدولة الإسرائيلية سياسياً واقتصادياً وعسكرياً.
وقد ظهر التأييد السياسي الأميركي جلياً بعد أن أعلنت واشنطن اعترافها بالدولة الإسرائيلية عام 1948 بعد دقائق من إعلان قيامها. وهناك قصة تاريخية موثقة أن الرئيس “هاري ترومان” رئيس الولايات المتحدة الأميركية قد خضع في ذلك لتأثير أحد أصدقائه اليهود المقربين الذي زاره سراً في البيت الأبيض يشجعه للسير قدماً فى طريق التأييد الكامل لإسرائيل بعد الاعتراف الأميركي بها.
وقد تطور هذا التأييد السياسي لإسرائيل ليصبح عقيدة أميركية رسمية تتمثل في توجيهات مستديمة لممثلي الولايات المتحدة في مجلس الأمن، في استخدام الفيتو لمنع استصدار مجلس الأمن أي قرار بإدانة إسرائيل، حتى لو كانت ارتكبت مذبحة ضد الشعب الفلسطيني المناضل، ولو كان ذلك بمعارضة كل حلفائها الذين يميلون أحياناً – تحت ضغوط الرأي العام العالمي – إلى مجرد الإدانة اللفظية لجرائم إسرائيل!
وامتد التأييد السياسي الأميركي لإسرائيل، وتمثل في عدم المعارضة الأميركية للتوسع الاستعماري الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بالإضافة إلى إعاقة أي محاولات دولية لحل الصراع، على أساس صياغة اتفاق عادل يعطي الشعب الفلسطيني الحد الأدنى من حقوقه المشروعة.
بل إن التأييد السياسي لإسرائيل وصل إلى أقصى مداه في عهد الرئيس “جونسون” الذي أعطى الضوء الأخضر لإسرائيل لمهاجمة مصر في 5 حزيران 1967، للخلاص من نظام الرئيس جمال عبد الناصر الذي كان يعتبره مناهضاً للسياسة الأميركية، ليس ذلك فحسب، بل إمداد إسرائيل بالطائرات الكفيلة بالحصول على نصر سريع.
وقد تجاوزت الولايات المتحدة التأييد السياسي المطلق لإسرائيل، بإعطائها مئات الملايين من الدولارات سنوياً كمنح، بالإضافة إلى مئات الملايين من الدولارات باعتبارها قروضاً بشروط ميسرة، كانت تتحول عملياً – كما يقرر أحد الكتب الموثقة – إلى منح، لأنها لم تكن تسدد إطلاقاً!
معنى هذا أن التأييد السياسي الأميركي المطلق لإسرائيل، من ثوابت أجندة المصلحة القومية الأميركية. وقد أكد ذلك بوضوح نادر الرئيس أوباما في خطابه الذي ألقاه من منبر جامعة القاهرة، حين قرر أن العلاقات الوثيقة بين الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل ستبقى وتستمر، بالإضافة إلى مغازلة الدولة الإسرائيلية العنصرية بالاعتراف بالهولوكست، وتأييد المزاعم الصهيونية التي أكدت أنه راح ضحيتها ستة ملايين يهودي، وهو رقم كذبته الدراسات التاريخية والديموغرافية الموثقة.
ومما لا شك فيه أن ضمان تدفق النفط العربي أساساً بسعر معقول، هو أحد ثوابت أجندة المصالح القومية الأميركية. وينبغي ألا ننسى أن الولايات المتحدة أقامت نهضتها الصناعية ومبادراتها التكنولوجية العملاقة وخصوصاً بعد نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، على أساس النفط العربي الرخيص الذي لم يكن يزيد سعر البرميل منه عن بضعة دولارات في الخمسينات، ولم يشهد العالم ارتفاعاً فى السعر إلا بعد حرب 1973، حين توقف إمداد أميركا بالنفط السعودي. ومما يؤكد أهمية النفط العربي أن ضمان تدفقه من العراق كان أحد أهداف الغزو العسكري له.
ويضاف إلى أجندة المصالح القومية الأميركية مناهضة الدول التي قد تمثل – في إدراكات النخبة السياسية الأميركية – تهديداً محتملاً للأمن القومي الأميركي. ولذلك ابتكرت إدارة الرئيس بوش مصطلح “محور الشر” الذى يتمثل أساساً في ثلاث دول هي العراق (بحكم امتلاكه أسلحة دمار شامل كما زعمت المصادر الأميركية قبل غزوه عسكرياً)، وإيران، وكوريا الشمالية.
حذف العراق الآن من القائمة بعد غزوه، وتبقى بعد ذلك إيران على أساس اتهامها بالسعي لصنع أسلحة ذرية، وكوريا الشمالية التي تمارس سياسة استفزازية بتجارب إطلاق الصواريخ بعيدة المدى.
وتبقى أخراً – وقد يكون ذلك أولاً – الحفاظ على المصالح الاقتصادية للمؤسسات والبنوك الرأسمالية الأميركية الكبرى، باعتبار ذلك في قمة أولويات المصلحة القومية.
والدليل على ذلك أنه بعد انهيار هذه المؤسسات في الأزمة المالية، لم تتورع الإدارة الأميركية – خلافاً لكل العقائد المقدسة للرأسمالية في عدم تدخل الدولة – بضخ 750 مليار دولار لإنقاذ هذه المؤسسات.
والخلاصة أن هناك أجندة محددة للمصالح القومية الأميركية لا يستطيع أي رئيس أميركي جمهورياً كان أو ديموقراطياً، أن يغير فيها إلا قليلاً وبقدر محسوب، لأن مراكز القوة الأميركية هي التي حددت أجندة المصالح القومية.
والسؤال الذي يستحق إجابة عليه هو ما هي هذه المراكز التي تتحكم في صياغة وتنفيذ السياسة الخارجية الأميركية بالإضافة إلى السياسات الداخلية؟
بعبارة أخرى من يحكم أميركا؟
الإجابة ستحدد قدرة “أوباما” أو أي رئيس أميركي آخر، على التغير الجذري لتوجهات السياسة الأميركية!
– القاهرة
النهار