انتصار جديد للديمقراطية على البندقية
جورج كتن
أثبتت الأحداث الأخيرة في جزيرة التخلف والاستبداد من باكستان إلى المغرب، أن الديمقراطية وحقوق الإنسان هي محور الصراعات المختلفة الدائرة في معظم بلدانها. ففي باكستان تواجه الحكومة المنتخبة الطالبان الساعون للتغيير اعتماداً على السلاح والإرهاب الذي أرادوا من خلاله فرض مفاهيمهم المتخلفة في وادي سوات تمهيداً لتعميمها في كل البلاد.. إلى العراق حيث دار الصراع بين مناصري العملية السياسية الديمقراطية ومن حاولوا بعملياتهم الإرهابية إعادة عقارب الساعة إلى العهد الصدامي البائد أو لمفاهيم القرون الوسطى.. إلى الكويت التي سجلت في انتخاباتها الأخيرة نجاحاً باهراً في مجال حقوق المرأة، وتراجعاً للموجة الإسلامية الاصولية المسماة “صحوة” على سيرة السلف، كبديل عن النهضة للحاق بالمسيرة الإنسانية.. إلى مصر حيث وافق مجلس الشعب على قانون يخصص المرأة ب 15% من مقاعد مجلس الشعب، في مواجهة نواب الإخوان المسلمين الذين صوتوا ضده واصفين “تمكين المرأة” بأنه مصطلح أميركي!! يتعارض مع مفاهيمهم المتخلفة..
لا يتسع المجال هنا لمتابعة كل ما يجري في المنطقة ولكن يجب تسجيل أن أحد أهم أوجه الصراع من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان جرى في لبنان حيث أعطت الأغلبية أصواتها لتحالف 14 آذار رغم التوقعات المسبقة الواثقة من نجاح الطرف الآخر، وهو انتصار لمشروع بسط سيادة الدولة على كافة أراضيها، ولحصر السلاح في مؤسساتها التي تعمل لخدمة المواطنين دون تمييز.. ولخيار الأمن الذي توفره قوى الدولة الشرعية على الأمن الذاتي للميليشيات المسلحة للطوائف، فقد صوت المواطنون للسلم الأهلي وللسلام على الحدود والتقدم ولتوجيه كل الجهود للتنمية.. وهو انتصار للاعتدال وللديمقراطية والليبرالية في مقابل “ديمقراطية موجهة” نموذجها ولاية الفقيه الإيراني.. وهو انتصار للجمهور الديمقراطي المتنوع على الجمهور الشمولي الذي يجمعه الراتب والفتوى والسلاح.. وانتصار لسلطة المؤسسات الدستورية على سلطة فرض إرادة المنتصر بقوة السلاح، وللسياسة الواقعية العقلانية على سياسة أيديولوجيا القرون الوسطى، وللتمتع بالحياة على ثقافة الموت المسمى استشهاداً .. وانتصار للمرأة المساوية للرجل في الحقوق والحرة في لباسها وعملها وعلاقتها بالرجل، على المرأة المكبلة بالسواد من رأسها إلى أخمص قدميها التابعة والخادمة للرجل الممنوعة من العمل أو من الوصول للمناصب العليا..
وهو فشل لتكريس التخلف الاجتماعي والتطرف وللسياسة التي تنبع من فوهة البندقية أو من على ظهر الدبابة الانقلابية، ولمنطق الجهاد والرفض والمقاومة التي لم تعد من ضرورة لها.. وفشل لسياسة إبقاء هيمنة ميليشبا مسلحة على قرار الحرب والسلم واستمرار حالة “الدولة ضمن الدولة”.. وفشل لتحويل لبنان إلى منصة لحروب الآخرين وساحة صراع للقوى الإقليمية والدولية.. وفشل للقوى الأصولية التي تستثمر القضية الفلسطينية إلى جانب السلاح والدين للوصول إلى السلطة عن طريق الانتخاب إن أمكن أو بالعنف إن احتاج الامر، كما استخدمت الانظمة الاستبدادية القضية الفلسطينية والدبابة مدعومة بمفاهيم وطنية وقومية ويسارية للاستيلاء على السلطة ثم الحفاظ عليها لعقود بنفس الوسائل مع إضافة القمع.. وفشل لسياسة تخوين المخالفين بالرأي حيث توزع المليشيا المسلحة شهادات الوطنية على أتباعها وتحجبها عن مخالفيها..
نعم فالديمقراطية اللبنانية ليست مثالية وليست علمانية بل مبنية على محاصصة طائفية، لكنها تظل الديمقراطية الأكثر توفيراً للحريات وحقوق الإنسان بين دول المنطقة والأفضل احتراماً للدستور والقوانين المعتمدة على التشريع الدولي، على الأقل فإن الاعتماد على التنافس الانتخابي في إطار سيادة الدولة أفضل بكثير من طوائف مسلحة تتصارع على السلطة باستخدام أسلحتها. فالديمقراطية النسبية والازدهار الاقتصادي في لبنان كان مبشراً إلى أن أعاقته حروب الميليشيات الأهلية محلية وعربية وآخرها حرب تموز.
لبنان كان يمكن أن يصبح فعلاً سويسرا الشرق ليس فقط لجمال جباله وسهوله وسواحله بل لحضارته وحداثته وتقدمه الاقتصادي، أو هونغ كونغ المنطقة لولا الحروب المكلفة التي ليست في حدود طاقاته كأضعف بلد عربي ألقي عليه عبء فتح الجبهة الوحيدة المشتعلة مع إسرائيل. واجه لبنان صعوبات عديدة خلال نصف القرن المنصرم، إذ انهارت الدولة أثناء الحرب الأهلية لصالح الميليشيات الفلسطينية واللبنانية إلى أن وضع اتفاق الطائف أسس إعادة بناء الدولة وبسط سلطتها على كامل الاراضي اللبنانية. وجاء سحب القوات السورية وعودة الجيش اللبناني للجنوب كخطوات لاستكمال السيادة التي لم تتم حتى الآن حيث المربعات الأمنية تنتهكها، بجيشها الخاص وأجهزتها الامنية وشبكة مواصلاتها.. كسلطة موازية للسلطة الشرعية المنتخبة وأقوى منها.
وقد ثبت بطلان الادعاء بأن أجهزة الدولة الموازية لن تستخدم سلاحها للداخل، وذلك في 7 أيار وما سبقه من احتلال لوسط بيروت لما يزيد عن سنة ونصف ومحاصرة سراي الحكومة وتعطيل جلسات المجلس النيابي ومنع انتخاب رئيس للجمهورية ومحاولة إسقاط الحكومة، إلى أن رضخت الحكومة الشرعية لإعطاء فيتو للأقلية لتستخدمه متى شاءت ضد قرارات الأغلبية الحاكمة، كما جرى الاتفاق عليه في اتفاق الدوحة حيث كان للسلاح المستخدم فيما سمي ب”اليوم المجيد” الدور الاول في إخضاع الدولة الشرعية للدولة الموازية اللاشرعية.
لقد اعترف قادة الحزب بنتائج الانتخابات الاخيرة بروح رياضية، ونتمنى أن يكون ذلك اعترافاً غير قابل للقلب بالعملية الديمقراطية تمهيداً لتحويل أسلحتهم للجيش اللبناني كما فعلت الميليشيات التي سبقتهم، والتحول لحزب سياسي يعزز استمرار الدولة اللبنانية ويعتمد الأساليب الديمقراطية، وحبذا لو اتخذ إسماً مدنياً وليس إلهياً. لكن الأمنيات عادة ليست الوقائع القائمة، حيث لا يزال الحزب يحذر مما يسميه التعرض لسلاحه، ويرفض التخلي عن فيتو الثلث المعطل، وهو لم يسقط بعد من برنامجه إقامة دولة إسلامية من النموذج الإيراني، ولم يعلن أنه سيكف عن تحويل لبنان إلى بلد منكوب بالحروب، ولا يزال يعتبر احتلال بيروت وحرق مكاتب المستقبل الإعلامية ومؤسسة الحريري التربوية “يوماً مجيداً” سبقته أيام أخرى سوداء كغزوة الأشرفية احتجاجاً على الرسوم الكاريكاتورية الدانماركية وغزوة الرد على نقد برنامج “بسمات وطن” وغيرها، التي تبين ضعف ثقة الحزب بالوسائل الديمقراطية وسهولة انزلاقه لاستخدام سلاحه لإخضاع المواطنين المخالفين.. وهو لم يتخل عن التلاعب بتعابير الأغلبية النيابية “الوهمية”! والأكثرية الشعبية “الحقيقية”!، وهو ما زال يسعى لحكومة “وحدة وطنية” مع من يتهمهم بأنهم عملاء!. فديمقراطيته من الصنف “المظبط” حيث البندقية هي الحكم، مما مكن من تمديد البيعة لأحمدي نجاد بالاعتماد على إعلان وزارة داخليته نتائج مفبركة.. وهي “ديمقراطية” تعتمد تصدير نموذجها بالتدخل في الشؤون الداخلية للدول المجاورة كما في الدعوة أثناء حرب غزة لانتفاضة على السلطة في مصر وتنظيم خلايا مسلحة ..
لم تفت الفرصة ليتخلى الحزب عن سياساته السابقة بعد فشله الانتخابي، فإذا لم يفعل، هل نشهد في المستقبل القريب عودته لاستخدام السلاح لفرضها؟
حزيران 2009
خاص – صفحات سورية –