من لقاء وعي مسكون بالتفوق مع خصوم مثلنا… نحصل على نتانياهو
ياسين الحاج صالح
ليست رؤية سياسية متطرفة أو بعيدة من العدالة تلك التي تضمنها خطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو أخيراً في صدد مستقبل الفلسطينيين. هي قبل كل شيء رؤية عادمة للسياسة. شرط السياسة، ولو متطرفة، مساواة من نوع ما في المرتبة الوجودية، قبول بأن الخصم مكافئ مبدئياً في الجدارة الإنسانية والسياسية. لا شيء من ذلك في خطاب نتانياهو.
كان يمكن النظر إلى كلام الرجل على دولة فلسطينية منزوعة السلاح كموقف إسرائيلي جائر، لو لم يكن منغرساً في بنية ذهنية متجذرة تضع اليهودي فوق الفلسطيني جوهرياً. عن هذه البنية تصدر المطالبة باعتراف الفلسطينيين بإسرائيل دولة الشعب اليهودي، الأمر الذي يعني الإقرار به تسليماً بالعقيدة الصهيونية، أي الإيديولوجية الوطنية الإسرائيلية، وإدانة ذاتية للوطنية الفلسطينية واعتذاراً عنها. التصور الإسرائيلي لتسوية مع الفلسطينيين يقايض «تنازلاً» إسرائيل للقبول بكيان مكشوف ومبدد للفلسطينيين في مقابل استقالة وجودية ذاتية من جانبهم، ينسلخون بموجبها عن كيانهم ويضوون ما بقي لهم من وجود شحيح تحت كنف الكيان الذي أقيم على حسابهم.
في عين الإيديولوجية الصهيونية، ليست إسرائيل يهودية لأن أكثريتها من اليهود، بل هي كذلك جوهرياً، وقد كانت كذلك منذ 3500 عام على قول نتانياهو نفسه، حتى حين كان اليهود أقلية ضئيلة فيها. لا مكان في إسرائيل الجوهرية هذه للفلسطينيين. فإن وجدوا كان وجودهم عارضاً ومن مرتبة أدنى، وليس وجوداً أصيلاً من صنف الوجود اليهودي.
وعودة اللاجئين ليست مرفوضة سياسياً بل جوهرياً، أعني استناداً إلى مفهوم إسرائيل ذاته كما هو متمثل في الإيديولوجية الصهيونية. إسرائيل الجوهرية هذه ليست دولة مثل غيرها، ولا هي تعويض عن الهولوكوست، بقدر ما هي تحقيق لوعد إلهي متعال عن السياسة والتاريخ. القدس عاصمة «أبدية» لإسرائيل الجوهرية الثابتة بحكم تعريفها ذاتها. لقد كانت كذلك دوماً ولا تستطيع إلا أن تكون كذلك. إسرائيليتها ووحدتها مسألة تعريف وماهية.
وفي عالم الجواهر والماهيات هذا تستحيل التسوية، لأن السياسة ذاتها غير ممكنة. التظاهر بها ممكن ومرغوب. هيّا إلى السلام، يخاطب نتانياهو نظراءه العرب بنبرة تنز خيرية وطيبة. لكن السلام هنا أيضاً تعريف لأي شيء تفعله إسرائيل. إنه وصية أنبيائها وتحية أبنائها وختام صلوات مواطنيها، كما قال رئيس الوزراء الإسرائيلي نفسه. السلام اسم لإسرائيل وليس فعلاً سياسياً تشارك فيه مع غيرها. ولعلها لم تخض ست حروب أو سبعاً، فضلاً عن حريبات لا تتوقف، إلا لأنها السلام مجسداً. السلام ممكن بين دول مصنوعة من الحرب، أما مع دولة يشكل السلام ماهيتها، فالسلام الممكن الوحيد هو السلام الأورويلي.
النتائج الواقعية على كل حال تؤكد أن التسوية المقبولة إسرائيلياً هي تلك التي تضمن مزيداً من تآكل الوجود الفلسطيني. نحو 16 عاماً بعد أوسلو، يبدو الفلسطينيون أخف وجوداً مما كانوا قبل أوسلو. ويبدو وجودهم مرشحاً لمزيد من التبدد والتآكل. ليست إسرائيل وسندها الأميركي هما السبب الوحيد، لكن إسرائيل وسندها ليسا سبباً يقارن بغيره. من في رصيده سبب كهذا يستطيع أن يرتكب كل الأخطاء في العالم، ومن يناهضه سبب كهذا لا يكاد ينفعه عقله. وليست ثانوية الوجود الفلسطيني مسألة استدلال أو تخمين. بعد حرب 1967 أمكن موشيه دايان أن يقول إن الفلسطينيين الذين يبقون في أرضهم سيتحوّلون إلى «غبار بشر، وحثالة مجتمع». وحتى حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973 كان في وسع غولدا مائير أن تقول: «أين هم الفلسطينيون؟ إنني لا أراهم!».
ثم إن ما يستخلص من خطاب نتنياهو هو ذاته ما كان يمكن استخلاصه من الفتك الرهيب بغزة قبل أشهر. دلت عملية «الرصاص المسكوب» تلك على أن الفلسطينيين غير مرئيين من الإسرائيليين. أولئك بالكاد حائزون على ضرب من الوجود شبحي، أدنى نوعياً من وجود الإسرائيليين، يعيشون في عالم مواز غير العالم الذي يعيش هؤلاء فيه، وغير مساو له. كيان الفلسطينيين ثانوي، قابل للتقليص والحذف والقص والمحو والطمس والإزالة والتبديد. وجودهم عارض، هامشي، هش، مؤذ، وشرير جوهرياً، إن لم يكن إعدامه أمراً مرغوباً، فإنه بعد كل حساب ليس بالشيء المهم. هم لا ينكرون وجود الفلسطينيين والحق يقال، لكنهم يخصونهم بوجود بخس، يتساوى مع العدم أو يكاد. وجود الإسرائيليين في المقابل أول، أصيل، حقيقي، متين، راسخ، متفوق وخيّر، غير قابل للحذف إلا بدمار العالم.
لكن بعد قول ذلك كله، ليس لنا أن نبالغ في استثنائية الوعي الذاتي الإسرائيلي وخروج كيان إسرائيل على السياسة. الدول عموماً كائنات نصف عاقلة، مسوخ نصفها إنسان ونصفها الآخر حيوان. وجانبها غير العاقل يطل على بعد الهوية والقومية والماضي فيها (الوعد الإلهي والشعب المختار في حالة إسرائيل)، فيما يطل جانبها العاقل على البعد القانوني والمؤسسي والراهن (دولة القانون…). وهي لا تتأنسن، لا تسلك عقلانياً في المجال الدولي ولا في المجال الداخلي إلا مضطــــرة. في هـــذا إسرائيل مثل غيرها. إلا أنهــــا تنفرد عن غيرها بقلة اضطرارها، بتمتعها برعاية وحرية لا نظير لهما على مستوى العالم. لذلك أصول معروفة في الماضي الحديث، وله أصول ثقافية أقــــدم، تحيل إلى المناهل الثقافية وأصول «الحضـــارات». لكنّ له أسساً معاصرة تتمثل في تطوير الإسرائيليين نظاماً عاقلاً إلى أقصى حد لتعاملاتهم في ما بينهم. يتعــــزز هذا بواقع أن خصوم إسرائيل، الفلسطينيين والعرب، قلما تبينوا هذه المعادلات العالمية، وقلما عملوا على زحزحتها، ولطالما كانت معاملاتهم في ما بينهم مثالاً لغير المعقول.
فإذا التقى وعي ذاتي متأصل ومسكون بالتفوق مع قلة الاضطرارات ووفرة الرعاية ومع خصوم مثلنا لم يشتهروا بحسن التدبير والسياسة، حصلنا على… نتانياهو.
على أن ارتفاع الاضطرار عن إسرائيل مضر بها على المدى الأطول. الاضطرارات تربي، تروض على التواضع وقبول العادية. هذا شيء مقصّى من الخبرة الإسرائيلية. وهو ما يجعلها دولة قليلة التربية، وقحة بإفراط، مغرورة جداً، وصلفة إلى أقصى حد. فإذا التقت يوماً قلة التربية هذه مع قدر من الحكمة من طرفنا وشيء من التحفظ حيالها من جهة الغرب، أمكن احتواء إسرائيل وضبطها، لتغدو دولة مثل غيرها.
خاص – صفحات سورية –