الشيخوخة…مصطلح نسبي
د. طيب تيزيني
تجيء الأزمة المالية الغربية الراهنة، لترخي بظلالها على عدد متعاظم من بلدان المعمورة أولاً، ولتتمدد أكثر فأكثر باتجاه المزيد من القطاعات المجتمعية ثانياً (من المال والاقتصاد إلى الثفافة والفن والمنظومات الأخلاقية والأوضاع النفسية والعضوية التي يخضع لها البشر إضافة للتحولات الاجتماعية والتربوية ، بل ثمة إشارة ملفتة لتعاظم هذه الأزمة… قد تتمثل في نشوء أمراض جديدة خطرة على صحة البشر، يمكن أن يكون انفلونزا الخنازير أحدها، إضافة إلى مرض الإيدز. والطريف في ذلك أن الولايات المتحدة ظلّت حتى مرحلة قريبة ترفض الاشتراك في تكاليف مواجهة هذا المرض الأخير على الصعيد الدولي.
ولأن الأمر المعني هنا لا يتصل بتقدم البشر على نحو خطّي متصاعد دائماً وأبداً، فإن الكثير من مظاهر التقدم البشري الصحي العضوي والنفسي تحققت على صعيد مشكلة الشيخوخة، وهذا من شأنه أن ينفي القول بوجود علاقة ميكانيكية بين التقدم المذكور وما يحدث على صعيد المال والاقتصاد، خصوصاً ضمن نظام سياسي لا يحافظ على درجة عالية من حقوق الإنسان – ويُحتسب ذلك لصالح البشر المتحدرين من الفئات الوسطى وما دونها في المجتمعات المعاصرة، إذاً، لأن الأمر كذلك، بتنا نضع أيدينا على خطوات من التقدم في البحوث العلمية الخاصة ببعض قضايا علم السكان ومشكلات الخصوبة الاجتماعية والأجيال والمراحل العمرية الكبرى (الطفولة واليفاعة والشباب والكهولة والشيخوخة) إلخ. والمسألة الرئيسية، هنا، تتحدد في ملاحظة مرحلة الشيخوخة في عدد من البلدان الغنية، على وجه التحديد.
فمن المعروف أن الشيخوخة تحمل دلالة التراجع الحيوي العقلي والنفسي وغيره. ومن ثم، لا وجود لكائن حي لا يمر بها. والسؤال هنا يأتي من داخل الشيخوخة، وذلك بصيغة هي نفسها مفتوحة بالاعتبار الفلسفي: هل ثمة شيخوخة ملزمة وكلية، في كيفية مطلقة؟ لقد أجاب علماء من مختلف الأنساق العلمية المعنية بذلك، بأن الشيخوخة ليست حالة فطرية قطعية تحدث في مرحلة ينتظرها البشر عبر مخاوف كبيرة من القلق والاضطراب حيال “مستقبل غير قابل للتبصر والتحكم به”، ويأتي الوعي الإنساني الفلسفي الرفيع ليضع ذلك القول في موضع مفعم بالحكمة والتوهج والتوازن البديع؛ مما قد يقود إلى القول بأن فلاناً عاش ومات واقفاً.
وبمزيد من التخصيص، يمكن القول بأن ثلاثة عناصر معيارية هي التي تحدد الوضعية، التي يوجد فيها الإنسان، وتحدد – من ثم – فيما إذا كان هذا الأخير دخل مرحلة الشيخوخة، أو لم يدخلها، أو – وهنا تكمن الفكرة العقدية المنهجية – لن يدخلها بمثابتها شيخوخة خالصة. ما هذا الاحتمال الثالث، الذي يبدو غريباً، ولكنه ليس كذلك تماماً؟ إنه الاحتمال القائم على بنية مركبة تدخل فيها مرحلة الكهولة بل أحياناً كذلك مرحلة الشباب، بحيث يمكن أن يصح القول بالمصطلح البنيوي المركب: الشيخوخة الكهلة أو الشابة، والأمر هذا يتضح عبر الأخذ بعين الاعتيار ببعض العناصر المتعلقة بذلك. فعبر دراسات قامت بها مجموعة عمل بجامعة دمشق في حقول متعددة، وبالعودة إلى دراسات ومعطيات تتصل بذلك، اتضحت بعض الأمور، في صيغة احتمالية أولية: إذا كان بعض الباحثين يرون أن “الاعتماد على النفس” بما يعنيه من قدرة على تناول الطعام أولا وعلى ارتداء اللباس ثانياً، وعلى المتنقل ثالثاً” هو معيار النظر إلى الشيخوخة، فنحن مع آخرين من الباحثين نضيف إلى ذلك عاملين آخرين، هما ممارسة المشي بخطوة سريعة واستمرار طاقة الذاكرة الزمانية والمكانية.
في ذلك السياق، تبرز المعطيات التالية: بعد أن كانت الشيخوخة تبدأ في بلدان صناعية بعمر يصل إلى 65 عاماً، أخذت تبدأ الآن، بكيفية عامة، بعمر الـ 76 أو 77 عاماً. وثمة توقعات ترى أن امتداد “الشيخوخة” قد يصل إلى 82 عاماً.
وفي هذا كله تبرز ملاحظتان اثنتان، أولاهما تتحدد في أن مصطلح “الشيخوخة” نسبي ولا يتصل بعرقٍ أو جنس بعينه. فهو نسبي نسبية العلاقات السوسيو اقتصادية والنفسية وغيرها في المجتمع، دون أن يرتبط بها على نحو جبري ميكانيكي قطعي. أما الملاحظة الثانية فتفصح عن نفسها في أن مرحلة الشيخوخة لا تتجلى في شيخوخة خالصة، كما لاحظنا، وإنما يمكن أن تصير بنية مركبة من كل المراحل العمرية، بما فيها الكهولة والشباب. وليس خافياً أن هذا الأمر منوط بـ “إعادة شباب” العالم ضمن نظام دولي يقوم على العدل في اقتسام الثروة، كما على تعميم العقل والفن والديمقراطية، ومن ثم على رفع الإنسان إلى مستوى إنسانيته.
جريدة الاتحاد