صفحات مختارة

رواد الحداثة المجتمعية والدعوة الوطنية في بلاد الشام

ماهر الشريف
عنوان مساهمتي هذه، التي تندرج في حقل تاريخ الأفكار، هو: رواد الحداثة المجتمعية والدعوة الوطنية في بلاد الشام. فمع أن خطاب عصر النهضة الأولى، الذي برز في بلاد الشام في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، قد انطوى على إشارات تتغنّى بماضي العرب وتقدمهم الحضاري في العصور الوسطى إلا أنه لم يكن خطاباً قومياً عربياً، على غرار الخطاب الذي صار يتبلور عشية الحرب العالمية الأولى ثم راح يتطبّع بطابع إيديولوجي في أعقابها، والذي انطلق المعبّرون عنه من أن العرب أمة واحدة تمثّل اللغة العربية “روحها”، والتاريخ العربي “ذاكرتها”، وهي تعاني من تبعات التأخر، وعليها، كي تندفع على طريق النهضة، أن تتّحد في دولة واحدة تحت راية القومية العربية.
وعليه، فإن الافتراض الذي سأحاول بهذه المساهمة تزكيته هو أن رواد النهضة الشوام ، الذين بات في وسعهم، بعد ما سمّي بصدمة الاحتكاك بالغرب، المقارنة بين التأخر والتقدم على الصعيد الاجتماعي، قد سعوا إلى التنوير بأسس الحداثة المجتمعية، ودعوا إلى اقتباس الوسائل التي ساعدت “الآخر” على التقدم، وذلك على قاعدة الاقتباس المشروط وليس التقليد الأعمى. ومن أبرز هذه الوسائل كانت، في نظرهم، فكرة الوطنية بوصفها رابطة تجمع كل أفراد المجتمع وتوحّدهم بغض النظر عن انقساماتهم الدينية والمذهبية.
ولادة المثقف التنويري الحديث:
كانت ولادة المثقف التنويري الحديث نتيجة تحوّلات اقتصادية واجتماعية بدأت تشهدها بلاد الشام في القرن التاسع عشر بفعل تنامي العلاقات التجارية والثقافية التي أقامتها الدولة العثمانية مع أوروبا وسياسة “التنظيمات” الإصلاحية التي اعتمدتها، وكذلك بفعل الحملة المصرية على بلاد الشام (1831-1840) التي سبقتها. وقد أسفرت تلك التحوّلات عن ولادة طبقة برجوازية محلية، تجارية ومالية، تشكّلت من فئات من الارستقراطية الريفية، المسيحية والإسلامية، ومن قطاع من أهل المدن الرئيسية، كما مهّدت الطريق أمام بروز فئة من المثقفين الحديثين.
وقد تحقق انتقال الأفكار الأوروبية الحديثة إلى بلاد الشام من خلال قنوات عديدة، كان من أهمها المدارس الحديثة، والجمعيات الثقافية، والرحلات، والكتب المترجمة.
وأعارت المدارس “العصرية”، التي تأسست بمبادرة من المرسلين المسيحيين أو بفعل مبادرات محلية إسلامية، اهتماماً كبيراً لمسألة تعليم اللغات، واعتنت بوجه خاص بتدريس اللغة والأدب العربيين، الأمر الذي جعل النهضة في بلاد الشام تكتسب، في الأساس، طابعاً أدبياً ولغوياً. أما الترجمة، فقد لعبت دوراً لا يستهان به في نقل الأفكار الحديثة، كما أسهمت في إحياء اللغة العربية وتطويرها، وذلك بتجديد أساليبها وإغناء معاجمها.
ومع أن المثقفين التنويريين الأوائل في بلاد الشام قد اختلفوا فيما بينهم من حيث الأصل الاجتماعي والسيرة المهنية، إلا أن المؤثرات الثقافية، الأجنبية والمحلية، التي ساهمت في تكوينهم الثقافي كانت واحدة تقريباً، حيث تأثر معظمهم بأفكار المنوّرين الفرنسيين، وبأفكار مفكري القرن التاسع عشر الأوروبيين، من ذوي النزعات الإنسانية. كما تأثروا ببعض الكتابات العربية، مثل كتابات ابن رشد وابن خلدون، وبأفكار مدرسة الإصلاح الإسلامي، التي أطلقها جمال الدين الأفغاني.
وكانت الصحافة هي أداة الاتصال والتعبير الأولى التي تربّى المثقف التنويري في كنفها، واعتمد عليها، في الوقت ذاته، كوسيلة لنشر خطابه الإصلاحي. كما برز دور الجمعيات الأدبية والعلمية التي شكّلت موقعاً للالتقاء والتفاعل ومنبراً للخطابة ونشر الأفكار الحديثة.
لماذا تأخرنا وتقدم غيرنا؟
لجأ المثقفون التنويريون، في معرض تعريفهم لمفهوم النهضة، إلى عدد من المصطلحات، كان أكثرها شيوعاً في كتاباتهم مصطلح ” التمدن”، كما كان من ضمنها “الترقي”، و “التقدم”، و “التنبه”. واتفقوا على أن للتمدن أصلين، اولهما معنوي، يشمل الأخلاق والعوائد والآداب، والثاني مادي، يشمل المنافع العمومية، كالزراعة والتجارة والصناعة. كما عبّروا عن تخوّفهم من انقياد العرب وراء مظاهر التمدن على حساب جوهره، أو ما يمكن أن نسميه بلغة اليوم وراء التحديث البرّاني على حساب الحداثة الجوّانية. وبات همهم الرئيس، بعد أن صار في إمكانهم التمييز ما بين التقدم والتأخر، اكتشاف وتحديد الأسباب التي أدّت إلى سيادة التأخر في مجتمعاتهم، والأسباب التي سمحت للمجتمعات الغربية بالتقدم.
وقد انقسمت أسباب تأخر مجتمعاتهم ، في نظرهم، إلى سياسية واجتماعية وأخلاقية ودينية. فركّز عبد الرحمن الكواكبي على الفساد الذي عمّ أوجه الحياة الاجتماعية الثلاثة، وهي السياسة والدين والأخلاق، وأعار اهتماماً خاصاً لظاهرة الاستبداد، الذي رأى فيه “أصلاً” لكل فساد، إذ هو “يضغط على العقل فيفسده، ويلعب بالدين فيفسده، ويحارب العلم فيفسده، [و] يغالب المجد فيفسده ويقيم مقامه التمجد”. كما أرجع فرنسيس المراش “التوحش” إلى سيادة “العبودية” أو الاستبداد، الذي يستتبع الظلم، وكذلك إلى انتشار الجهل، الذي رأى فيها “قاعدة التوحش ودعامته وعلامته ورايته”، وإلى فساد الأخلاق، وإلى انحطاط المدينة وسوء تنظيمها المعماري وانعدام النظافة فيها. بينما ركّز بطرس البستاني على التعصب المذهبي، الذي يمكن أن يفضي إلى الحروب الأهلية، والذي رأى فيه أديب اسحق “علة التأخر وداعية البلاء وسبب العناء والشقاء”، حيث “ما تأخر الشرق إلى به ولا تقدم الغرب إلا بزواله”.
أما الأسباب التي ضمنت للغرب تقدمه ومظاهر تمدنه، فقد حددوها في:
التعلق بالحرية والنزوع إلى تقييد سلطة الحكام بالدستور، وانتشار العلوم وشيوع القراءة والكتابة، وتقدم أوضاع النساء، وإطلاق حرية الكتّاب في التعبير عن آرائهم، وفصل الدين عن الدولة وتعزيز الرابطة الوطنية وحب الوطن. وبعد أن أشاروا إلى أن الغرب لم يصل إلى هذه الدرجة من التمدن إلا نتيجة تفاعله في الماضي مع الشرق، أكدوا ضرورة أن يقوم الشرق باقتباس الوسائل التي ضمنت للغرب تقدمه، على قاعدة التمييز بين النافع والضار، واستناداً إلى مبدأ التفاعل الحضاري المتبادل وإلى مبدأ توحّد العالم في العصر الحديث.
فضح الوجه “البشع” للغرب
بيد أن الدعوة إلى اقتباس ما هو مفيد من الوسائل التي ضمنت للغرب تقدمه، لم تمنع أولئك المثقفين التنويريين من تجاهل ما كان يمثّله الغرب من خطر سياسي على الشرق، من خلال سعيه إلى التوسع والاستعمار.
فقد ندّد أديب اسحق بشدة بالتدخل الأوروبي في شؤون البلدان الشرقية الذي يحصل، عادة، بذريعة ” حمل التمدن ” إليها، بينما هو في الواقع يديم التخلف ويؤبد الاستبداد فيها، حيث رأى في مقال له بعنوان: ” أوروبا والشرق ” أن الدول الاستعمارية الأوروبية التي استولت على بعض البلدان الشرقية ” لم تؤيد في تلك البلدان غير الخشونة والاستبداد، استبقاء لأهلها على حال يسهل معها أخذ أوطانهم واستخدام أبدانهم بما فطرت عليه من الأثرة تحملها على كراهية الفضل إلا لبنيها وبعض السعادة إلا لذويها “. ومع أنه قد وجّه سهام نقده إلى انكلترا في المقام الأول، إلا أنه لم يعفِ المستعمرين الأوروبيين الآخرين من مسؤوليتهم عن إبقاء الشرق على تأخره، وتوافقهم على استعباده واستغلاله، باعتبارهم جميعاً ” وإن اختلفت آراؤهم في تعريف الشرق وتحديده، فقد اتفقوا على الاعتقاد بانحطاط الشرقيين عنهم في رتبة الوجود، وتآلفوا على السعي في إذلال شأنهم وخفض مكانهم ،[ فهم] والحالة هذه عصبة على الشرقي من أي محتد وعلى أي مشرب كان، يصرفون عنايتهم إلى استخدامه واستعباده ومحو استقلاله وفتح بلاده “. أما الخلافات التي قد تبرز بين الدول الاستعمارية الغربية، في بعض الأحيان، فهي “على تقسيم الغنيمة بين الفاتحين لا على وجوب الغارة ” التمدينية ” على القوم “المتوحشين ” “.
ومن منطلق قناعته بأن تأخر الشرقيين وتقاعدهم هو الذي يستجر التدخل الاستعماري في بلادهم، أكد المثقف التنويري بأن تسلح الشرقيين بأسباب التقدم الحديث هو الذي سيمكّنهم من التصدّي للاستعمار. ومن هنا كان تركيزه على الرابطة الرابطة الوطنية، التي توحّد المواطنين بغض النظر عن أديانهم ومذاهبهم، بوصفها من أهم وسائل التمدن، الذي لن يتحقق عن طريق الطفرة، وإنما عن طريق التدرج، وباللجوء إلى اللين وليس إلى الشدة.
تمجيد الماضي: النزعة العروبية
لقد حاول المثقف التنويري في بلاد الشام، الذي اكتشف مفاهيم الوطن والوطنية والأمة والقومية من خلال احتكاكه مع الفكر الأوروبي الحديث، أن يعطي هذه المصطلحات مضامين تتناسب مع واقعه الملموس، الذي تميّز بوجوده في إطار دولة عثمانية تضم أمماً متنوّعة، تتبنّى أدياناً ومذاهب متعددة، وذلك في زمن لم تكن فيه فكرة الانفصال عن هذه الدولة قد نضجت بعد. وبسبب الطبيعة المركّبة لهذا الواقع الملموس، كان من الطبيعي أن تتزاوج في مواقف هذا المثقف نزعات متعددة، عروبية، وعثمانية ووطنية.
وقد برزت النزعة العروبية لدى رواد النهضة الشوام ليس من خلال إشاعتهم لوعي بالانتماء إلى القومية العربية وتطلع إلى وحدة العرب في إطار دولة واحدة، وإنما على شكل لجوء إلى الماضي الثقافي للعرب في العصور الوسطى، ورغبة في إحياء أمجاد التاريخ العربي والإشادة بخصائص اللغة العربية، وذلك بغرض التأكيد على أن العرب الذين عرفوا التقدم في الماضي يمكنهم بلوغه في الحاضر. وفي إطار هذا المسعى، كانت ترد في كتاباتهم وأحاديثهم إشارات إلى “أبناء العرب” و “الدم العربي”، وإلى الأراضي العربية في الحجاز واليمن وسورية والعراق.
والواقع أن النزعة العروبية بقيت ملتبسة في مواقف رواد النهضة الشوام، وهو ما نتبيّنه في إشارة بطرس البستاني إلى أبناء وطنه بوصفهم ” ذرية أولئك الأفاضل وحفدة معاشر السريان واليونان “، كما نتبيّنه بوضوح أكبر في الموقف الذي تبنّاه ابنه سليم في مقالته: ” من نحن ؟ “. ففي مقالته تلك، المنشورة في الجزء السادس من “الجنان” عام 1870، رأى سليم البستاني بأن الجذور العرقية لسكان بلاد الشام، تعود إلى العرب والسريان والكلدان واليونان أو إلى ” أخلاط” من “امتزاج تلك الشعوب العظيمة”، معتبراً بأن تلك الشعوب، التي ظهرت الأديان بين ظهرانيها والتي عمّمت الصناعة والتجارة، قد أكسبت العالم ” مبادئ ما له من التمدن وأسباب الرغد والراحة”. ومع أنه قد أشار إلى ” واقع انتماء هذه الشعوب ثقافياً وحضارياً إلى العرب القدماء جزئياً “، وذلك من خلال تأكيده على دور اللغة العربية بوصفها ” أفصح اللغات وأوسعها “، إلا أن جوابه عن سؤال ” من نحن؟ “، بقي يعبّر ، وكما يشيرماجد فخري، عن ” مدى الغموض” الذي اكتنف موقفه إزاء مسألة الهوية الثقافية والحضارية لشعوب بلاد الشام، وعن ” تردده، على غرار العديد من معاصريه، بين التصريح بالانتماء العربي الصرف وبين الانتماء ” الشرقي ” “.
التمسك بالجامعة العثمانية على قاعدة الإصلاح:
لم تتجاوز النزعة العروبية لدى رواد النهضة الشوام الحدود التي رسمناها. وقد حذّر بعض الذين درسوا أفكار أولئك الرواد، عن حق، من المبالغة في الحديث عن عمق الأماني القومية وقوتها لدى العرب في الولايات الآسيوية من الإمبراطورية العثمانية، الذين كانوا لا يزالون، حتى أواخر القرن التاسع عشر، غير مهيئين للنزعة القومية بوجه عام. وكما يلاحظ ليفين، فإن وعي الوحدة العثمانية كان راسخاً بقوة في الولايات العربية، الأمر الذي يجد تفسيره في النزوع إلى مواجهة المطامع الاستعمارية للدول الغربية وفي تأثير فكرة الجامعة الإسلامية، التي تبنّاها جمال الدين الأفغاني. ولهذا لم يتخذ النضال ضد الاستبداد التركي شكل المطالبة بالانفصال عن الدولة العثمانية بهدف تكوين دولة قومية عربية، وإنما اتخذ شكل النضال من أجل تحقيق الإصلاحات الدستورية والإدارية داخل الدولة العثمانية.
وكان أديب اسحق، الذي كان يطلق أحياناً على الشعوب التي تتشكّل منها الدولة العثمانية اسم “الأمة العثمانية”، قد عرّف الأمة بأنها ” الجماعة من الناس”، ” تتجنس جنساً واحداً”، و” تخضع لقانون واحد” و ” تتعارف باسم تنتسب إليه وتدافع عنه”. وعنى اسحق بوحدة الجنس اتفاق الجماعة على الانتساب إلى جنس واحد، لا وحدة العرق أو وحدة اللغة، معتبراً أن الرابطة بين أبناء الجنس الواحد هي ” إرادية أو سياسية، لا طبيعية أو عرقية أو دينية”. وكان اسحق من أنصار الحفاظ على الدولة العثمانية متحدة، ومع درء الأخطار الخارجية، لا سيما الأوروبية عنها، لكنه كان يرفض الطابع الاستبدادي للحكام العثمانيين وعدم احترامهم لحقوق رعاياهم.
وإذا كان أديب اسحق قد ركّز، في معرض تطرقه إلى قضية الإصلاح ، على “الإصلاح المدني”، فإن عبد الرحمن الكواكبي قد ركّز، في الأساس، على الإصلاح السياسي، حيث أكد ضرورة قيام أنظمة دستورية برلمانية على قاعدة الانتخاب الحر والفصل بين السلطات، ولاحظ بروز “قواعد أساسية”، صارت تتصف بصفة كونية في باب تقرير شكل الحكومة، تأتي في مقدمها قاعدة تقييد الحكومة بقانون “موافق لرغائب الأمة”، يضعه “جمع منتخب من الأمة”، ويتيح لها فرصة “التصرّف في مراتب العظمة ورواتب المال”، ويجعلها مسؤولة “عن تقرير النفقات العامة”، والإشراف على “إعداد المنعة”، ويعطيها حق “السيطرة على الحكومة ومساءلتها”. كما أشار إلى ضرورة انحصار السلطة في القانون “إلا في ظروف مخصوصة مؤقتة”، ومساواة الجميع أمام القانون، الذي هو أحكام ” تتساوى لديها كل طبقات الناس وله سلطان نافذ قاهر”، وإناطة مسؤولية إقامة العدل بالقضاة ” المصون وجدانهم من كل مؤثر، والذين يتمتعون باستقلالية تامة”، وعدم تدخل الحكومة في أمر الدين ” ما لم تنتهك حرمته”، وعدم جواز الجمع بين وظائف السياسة والدين والتعليم ” منعاً لاستفحال السلطة”. فالأمة، في نظر الكواكبي، ليست ” ركام مخلوقات نامية، أو جمعية عبيد لمالك متغلّب”، بل هي “جمع بينهم روابط جنس ولغة ووطن وحقوق مشتركة”؛ أما الحكومة، فهي ليست أكثر من ” وكالة سياسية تقام من قبل الأمة لأجل إدارة شؤونها المشتركة العامة”، بحيث تضمن الأملاك العامة وتكفل الحقوق العمومية للجميع “على التساوي والشيوع “.
تعزيز الرابطة الوطنية والابتعاد عن التعصب المذهبي:
كان للصدامات الطائفية التي وقعت في جبل لبنان بين الموارنة والدروز في عام 1860، ثم امتدت إلى مناطق أخرى من بلاد الشام، دور كبير في تحفيز رواد النهضة على تبنّي الدعوة الوطنية. فقد صدرت ” وطنيات” بطرس البستاني في عام 1860 في أعقاب تلك الصدامات، موقّعة باسم ” محب للوطن “. وفي “وطنياته ” تلك، التي نشرها في “نفير سورية”، حذّر البستاني من سمّاهم بأبناء الوطن من مخاطر التعصب المذهبي على الهيئة الاجتماعية، ومن أبرزها خطر الحروب الأهلية التي كانت، في نظره، من ” أشرّ الحروب وأقبحها وأشنعها”، تنتج في الغالب “عن أسباب زهيدة ولأجل غايات دنيّة”، تنافي ” أكرم وأشرف الحقوق كحقوق الجيرة والأخوة الوطنية”.
وعرّف البستاني الوطن بأنه ” أحب شيء إلى سمع من كان محباً لوطنه، وألذ ما زُيّن به جيد العربية من الكلمات المولدة “، وهو، على حد قوله، ” أشبه بسلسلة متصلة كثرت حلقاتها، طرفها الأول منزلنا أو مسقط رأسنا بمن حواه، وطرفها الآخر بلادنا بمن فيها، ومركز طرفيها ومغناطيسهما قلبنا أو هما مركز قلبنا ومغناطيسه”. و تميّز “المعلم”، عن غيره من معاصريه، بتأكيده على أن الوطن المنشود هو سورية في إطار الدولة العثمانية، حيث كتب: ” فسورية المشهورة ببر الشام وعربستان هي وطننا على اختلاف سهولها ووعورها وسواحلها وجبالها “. أما أبناء الوطن، فهم ” سكان سورية على اختلاف مذاهبهم وهيئاتهم وأجناسهم وتشعباتهم “.
وعلى الرغم من أن البستاني لم يستخدم مصطلح المواطن والمواطَنة، بل كان يتحدث دوماً عن ” أبناء الوطن” و ” أهل الوطن”، إلا أنه توقف مطوّلاً عند الحقوق التي يجب أن يضمنها الوطن لمواطنيه، والواجبات الملقاة على عاتقهم إزاءه، معتبراً أنه ” بمقدار ما تكون تلك الحقوق مستوفية حقها يزيد التعلق بالوطن والرغبة واللذة في تأدية تلك الواجبات”. فالحقوق التي يجب على الوطن أن يضمنها لأبنائه هي، في نظره، حماية حياتهم وأموالهم، وضمان حرياتهم المدنية والأدبية والدينية، ولا سيما حرية الضمير والاعتقاد. أما الواجبات التي على أبناء الوطن لوطنهم، فمن أهمها حب الوطن وتغليب هذا الحب على الولاء المذهبي، والاستعداد لبذل المال والحياة في سبيله.
وعلى خطى بطرس البستاني، عرّف أديب اسحق الوطن ب “المسكن يقيم به الإنسان”، و “البلاد يتوطنها سواد الأمة الأعظم ويتوالدون فيها “، وأقام علاقة وثيقة بين الوطن واستقلاله، من جهة، وبين ضمان حرية أبنائه، من جهة أخرى، معتبراً أن “لا وطن إلا مع الحرية”، وأن “لا وطن في حالة الاستبداد “. بينما رأى فرنسيس المراش في الوطنية، التي تستند إلى ” وحدة الجنس ومقوّماتها ” وإلى ” وحدة السياسة ومقوّماتها”، الرابطة الوحيدة القادرة على توحيد المقيمين في سوريا وجعلهم ” أمة واحدة وطايفة واحدة “، بحيث “لا يعود المسلم منا – كما كتب – ينفر عن النصراني ويحتسبه غريباً، ولا يعود النصراني يبادل المسلم أماراته هذه ويوجّه نظيرها نحو اليهودي “.
الوطنية تتأسس على قاعدة الفصل بين الدين والدولة:
وقد أجمع رواد النهضة الشوام على أن الانتقال من المجتمع التقليدي إلى المجتمع الحديث لا يمكن أن يتم إلا على قاعدة الفصل بين الدين والدولة.
فبعد أن أكد بطرس البستاني على حرية الضمير في أمر المذهب، وحذّر من التعصب الديني والمذهبي لأجل غايات شخصية، دعا إلى الفصل الواضح بين الأديان والمدنيات، حيث كتب: ” وما دام قومنا لا يميّزون بين الأديان، التي يجب أن تكون بين العبد وخالقه، والمدنيات التي هي بين الإنسان وابن وطنه أو بينه وبين حكومته، والتي عليها تبنى حالات الهيئة الاجتماعية والنسابة السياسية، ولا يضعون حداً فاصلاً بين هذين المبدأين الممتازين طبعاً وديانةً، لا يؤمل نجاحهم في أحدهما ولا فيهما جميعاً “. وأشار إلى أن من بين العبر، التي ينبغي استخلاصها من الصدامات الطائفية التي وقعت في عام 1860، وجوب ” وضع حاجز بين الرئاسة، أي السلطة الروحية، والسياسة، أي السلطة المدنية، وذلك لأن الرئاسة تتعلق، ذاتاً وطبعاً، بأمور داخلية ثابتة لا تتغيّر بتغيّر الأزمان والأحوال، بخلاف السياسة فإنها تتعلق بأمور خارجية غير ثابتة وقابلة للتغيّر والإصلاح حسب المكان والزمان والأحوال”.
كما حذر ابنه سليم من عواقب الخلط بين السياسة والدين، وعارض تدخل رجال الدين في ما ليس من اختصاصهم من شؤون زمنية ومدنية، وذلك من منطلق أن الرضوخ للرابطة السياسية في المجتمع هو أمر ” إلزامي”، بينما الرضوخ للدين هو أمر “اختياري”، ومن منطلق أن مزج الدين بالسياسة يفضي إلى أضرار جسيمة، ويؤدي إلى تفشي التعصب، وهو “من أكبر الأسباب التي تؤخر تقدم العيلة البشرية”.
أما الشيخ عبد الرحمن الكواكبي، الذي رأى أن السلطة الدينية والسلطة السياسية لم تتحدا في الإسلام إلا في عهود الخلفاء الراشدين، فقد نبّه من مخاطر “الاتجار” بالدين واستغلاله في إذكاء النزاعات الطائفية والتفرقة الدينية، واستشهد، في هذا الصدد، بالأمم الغربية التي “هداها العلم لطرائق شتى وأصول راسخة للاتحاد الوطني دون الديني، والوفاق الجنسي دون المذهبي، والارتباط السياسي دون الإداري”، داعياً قومه من المسلمين والمسيحيين إلى الاقتداء بهذه الأمم والتصدّي ” لمثيري الشحناء من الأعجام والأجانب”، وجعل الأديان “تحكم في الأخرى فقط”، والاجتماع في الدنيا على قاعدة “كلمات سواء، ألا وهي: فلتحيا الأمة، فليحيا الوطن، فلنحيا طلقاء أعزاء”.
بينما اعتبر فرح أنطون، الذي رأى في الدولة ” شكلاً عقلياً- مادياً نابعاً من حاجات البشر العملية لا الدينية “، أن الوحدة الاجتماعية تتأسس “على قاعدة الوطن والعدل السياسي- الاقتصادي وليس على قاعدة الدين “. وعرض بالتفصيل، في مناظرته مع الشيخ محمد عبده حول ابن رشد وفلسفته، الأسباب التي تفرض ضرورة الفصل بين الدين والدولة، ومن أهمها ” إطلاق الفكر الإنساني من كل قيد”، و ” الرغبة في المساواة بين أبناء الأمة مساواةً مطلقة بقطع النظر عن مذاهبهم ومعتقداتهم “، والحفاظ على دور الأديان التي ” شُرّعت لتدبير الآخرة لا لتدبير الدنيا “.
نشر الوعي الوطني وتربية أهل الوطن على حبه
أدرك رواد النهضة الشوام أن نشر الوعي الوطني، بما يمكّن المواطنين من معرفة حقوقهم في وطنهم وواجباتهم إزاءه، يتطلب تشجيعهم على الاهتمام بالشأن العام، والانخراط في النشاط السياسي. وكان أديب اسحق من أكثر الذين اهتموا بمسألة تربية الجمهور على السياسة وإعداده لخوض معتركها، رافضاً أن تكون السياسة وقفاً خاصاً أو احتكاراً، حيث كتب: “من حقوق الإنسان الطبيعية، بل من واجباته، أن ينظر فيما يمسه وما يحيط به من الأمور الدنيوية والأحوال الاجتماعية “. وقدّر اسحق بأن الإنسان الذي يتملك الأدب السياسي هو ” الإنسان المدني الكامل الحقوق والواجبات “، و” العليم بالمصلحة العمومية والحدود الشخصية “. كما أكد ، من جهة أخرى، ضرورة تلازم السياسة بالأخلاق، معتبراً أن اختصاص ” أهل الحكمة والتربية” بعلم الأخلاق ، واختصاص ” أهل الإدارة والتدبير” بعلم السياسة، لا يمنع من تلازم العلمين، وذلك لأن السياسة ” تتناول حتى التربية والتهذيب والتأديب لغة واصطلاحاً “.
وكان هناك ما يشبه الإجماع بين رواد النهضة الشوام على أهمية التعليم في نشر الوعي الوطني. فبينما شدّد سليم البستاني على ضرورة توحيد برامج التعليم في المدارس الخاصة والعامة على أسس وطنية، بحيث تقوم هذه المدارس بتعليم تلامذتها ضرورة “تمكين رابطة الألفة والمحبة بين أبناء البلاد”، و” قطع دابر التعصب”، و” توطيد أسس نظام الهيئة الاجتماعية” ، دعا فرح أنطون إلى إصلاح مناهج التعليم وزيادة عدد المدارس الوطنية لتتمكن من الاضطلاع بدورها، إلى جانب الحكام، في بث الروح الوطنية، ورأى في ” التربية الخلقية الصحيحة المفضية إلى توطيد أسس الإخاء بين أبناء الوطن ” مخرجاً من الشقاق والتنافر بين طوائف الشرق الدينية والعرقية، بل بين أبناء الطائفة الواحدة، حيث تساعد هذه التربية على ” غسل القلوب وجمع الكلمة والتعاون على الخير، وإدراك معنى الوطنية وتعليم النفوس فضيلة الإيثار، أي إيثار المجموع على الفرد والمصلحة العمومية على المصلحة الخصوصية “.
استخلاصات:
اكتشف رواد النهضة في بلاد الشام مفاهيم الأمة والوطن والوطنية من خلال تعرّفهم إلى الفكر الأوروبي الحديث الذي انتقل إلى بلاد الشام عن طريق قنوات عديدة، فتبنّوا هذه المفاهيم الحديثة، على قاعدة التفاعل الحضاري الإيجابي، وحاولوا أن يعطوها مضامين تتلاءم مع خصوصية واقعهم. وكانت تكمن في خلفية انفتاحهم على هذه المفاهيم قناعة بأن الحداثة، التي ولدت في الغرب وساهمت “الرشدية اللاتينية”، مساهمة فعّالة، على مدى ما يقرب من ثلاثة قرون في تمهيد الطريق أمام ولادتها، قد تحوّلت مع الزمن إلى مكتسب إنساني، بات منفتحاً، من الناحية الموضوعية، على إضافات غير أوروبية. وخلافاً للنظرة التي سادت في الفكر العربي فيما بعد، والتي بقيت تؤكد الطابع الغربي للحداثة وتُماهي بينها وبين النزعة الاستعمارية التي طبعت سياسات بعض الدول الغربية، أكد أولئك الرواد بأن أوروبا، بوجهها الاستعماري، قد تنكرت للمضمون الإنساني في حداثتها، واعتبروا بأن سعي العرب، وسكان بلاد الشام بوجه خاص، إلى تملك أسباب هذه الحداثة، لن يدفعهم إلى “التغرب” والتخلي عن هويتهم.
وفي زمن ساد فيه الشعور بضرورة الحفاظ على وحدة الدولة العثمانية، ولم تكن فيه الظروف الموضوعية قد أنضجت الشعور القومي العربي ليصل إلى حد المطالبة بقيام دولة- أمة، أو دولة قومية عربية، تبنّى أولئك الرواد موقفاً قريباً من موقف المدرسة القومية الفرنسية التي أعطت الأولوية لعامل إرادة العيش المشترك في تكوين الأمة، وذلك عندما رأوا في الأمة الجماعة التي يجمعها العيش في دولة واحدة والتعارف باسم واحد، لا وحدة العرق أو وحدة اللغة. ولكونهم عاشوا في دولة تعددت فيها الطوائف والأديان والمذاهب، التي كانت تتصادم فيما بينها، في بعض الأحيان، رأوا في الرابطة الوطنية، القائمة على الفصل بين الدين والدنيا، أحد أبرز الوسائل الكفيلة بتحويل الدولة العثمانية من دولة رعايا إلى دولة مواطنين؛ فسعوا إلى تربية مواطنيهم على التمسك الحازم بهذه الرابطة بما يجعل الولاء الوطني، المركزي، يتغلب على كل الولاءات الجزئية، الدينية والطائفية والمذهبية.
فهل نجح أولئك الرواد في إنجاز هذه المهمة الصعبة والنبيلة؟ هذا ما سيجيبنا عليه، كما آمل، الزملاء والزميلات الذين سيتحدثون في الجلسات المقبلة لهذا المؤتمر.
المصادر والمراجع:
– اسحق، أديب، الكتابات السياسية والاجتماعية، جمعها وقدّم لها ناجي علوش، بيروت، دار الطليعة، 1978؛ الدرر، عني بجمعها واختيارها جرجس ميخائيل نحاس، الإسكندرية، مطبعة جريدة المحروسة، 1886.
البستاني، المعلم بطرس، نفير سورية، بيروت، دار فكر للأبحاث والنشر، 1990.
– الحلو، كرم، الفكر الليبرالي عند فرنسيس المراش. بنيته وأصوله وموقعه في الفكر العربي الحديث، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2006.
– الخطيب، محمد كامل (إعداد وتقديم )، الشرق والغرب، القسم الأول، قضايا وحوارات النهضة العربية (6)، دمشق، وزارة الثقافة، 1991.
خوري، رئيف، الفكر العربي الحديث. أثر الثورة الفرنسية في توجيهه السياسي والاجتماعي، تحقيق وتقديم محمد كامل الخطيب، دمشق، وزارة الثقافة، قضايا وحوارات النهضة العربية (14)، الطبعة الثالثة، 1993.
– الخوري، مارون عيسى ، في اليقظة العربية. الخطاب السوسيوسياسي عند فرح أنطون، طرابلس، جروس برس، 1994.
رؤى اسبانية في الثقافة العربية، ترجمة صالح علماني، دمشق، وزارة الثقافة، 1990.
– زيتوني، لطيف، حركة الترجمة في عصر النهضة، بيروت، دار النهار، 1994.
الشريف، ماهر، رهانات النهضة في الفكر العربي، دمشق، دار المدى، 2000.
– عصر النهضة: مقدمات ليبرالية للحداثة، بيروت، المركز الثقافي العربي، 2000.
– عوض، لويس، تاريخ الفكر المصري الحديث من الحملة الفرنسية إلى عصر إسماعيل، الجزءان الأول والثاني، القاهرة، مكتبة مدبولي، 1987، الطبعة الرابعة.
– فخري، ماجد، الحركات الفكرية وروادها اللبنانيون في عصر النهضة (1800-1922)، بيروت، دار النهار للنشر، 1992.
– [الرحالة ك]، الكواكبي، عبد الرحمن، طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، القاهرة، المكتبة التجارية الكبرى لصاحبها مصطفى محمد، 1931.
– ليفين، ز. ل ، الفكر الاجتماعي والسياسي الحديث [في لبنان وسوريا ومصر]، ترجمه عن الروسية بشير السباعي، بيروت، دار ابن خلدون، 1978.
مراش، فرنسيس فتح الله، غابة الحق [1865] ، تقديم ودراسة جابر عصفور، دمشق، دار المدى للثقافة والنشر، 2001.
– المراش، فرنسيس فتح الله، رحلة باريس 1867، حررها وقدم لها قاسم وهب، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2004.
– المراش، فرنسيس، مشهد الأحوال [1870]؛ في حيدر حاج إسماعيل، فرنسيس المراش، سلسلة الأعمال المجهولة، لندن، رياض الريس للكتب والنشر، 1989.
23/4/2009
الحوار المتمدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى