عروبةُ القوميّين العرب في مرآة بيان «مقاوم» ثائر وهادر
بدرخان علي
ليس من غير دلالة أن يلتئم شملُ القومييّن العرب، المنتَظَمين في «المؤتمر القوميّ العربيّ»، في مدينة الخرطوم عاصمة السودان(16ـ 19 نيسان ـ أبريل2009) تحت شعارٍ كبير ونضاليّ «المقاومة كخيار استراتيجي للأمة». فالمؤتمِرون وإنْ عزوا سبب اختيار مكان الانعقاد إلى «التوافق والانسجام بين اختياره المقاومة خياراً استراتيجياً للأمة
عنواناً لدورته الحالية وبين انعقاد مدينة الخرطوم عاصمة اللاءات العربية الشهيرة: لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض مع العدو الصهيوني ولا تفريط في حقوق الشعب الفلسطيني….»؛ إلاّ أنّ البيان يفصح على الفور عن غايته في توفير غطاءٍ «قوميّ» لممارسات النظام الحاكم في السودان في حقّ شعب إقليم دارفور بعد انكشاف أمره أمام الأنظار و الأبصار بالقول» ..دعمه ـ أي المؤتمر ـ لنضال السودان وصموده ضد العدوان الجائر الذي لم يستهدف زعامته وحدها بل استهداف أيضاً وحدة السودان واستقراره وعروبته واستهداف معه كل الأمة العربية..». ويحضر صدى الدعم القوميّ السّخيّ هذا في مجمل الخطاب حتّى وهو يحاول إبداء بعض النصح والإرشاد للقيادة الحكيمة هناك من داخل المنظومة «الفكريّة» المتحكّمة بذهنيّة أصحاب المؤتمر، ومن منطلق الحرص القوميّ البليغ على الدوام.
نبرةٌ حربيّة و«أمّة» مائِعة:
بيد أنه ليس عسيراً على أيٍّ كان تفكيكَ «استراتيجيّة» هذا الخطاب بقليل من الإنصات لنبرته الحربيّة والكيفيّة التي يقارب وفقها الوضعيّة العربيّة الرّاهنة(أو «حال الأمّة» كما تفضل لغة القومييّن).
ومن وجه آخر لا يعطي البيان لقارئه فرصة لالتقاط الأنفاس من جرّاء الأجواء الحربيّة المشحونة التي يكوّنها في فضاء القراءة؛ إذ يُرهِق واضعو البيان نصّهم بالكلمات الكبيرة والثقيلة على الآذان السويّة والعقول الباردة. وهذا ليس بالجديد على المذهب القومي العروبيّ في صيغته الشعبويّة الرائجة التي يمثّلها خطاب المؤتمر على أفضل صورة وخير تمثيل. لا بل يدعو المؤتمر إلى تأطير الشعبويّة ذاتها في شكل «نظام»؛ فهو، على سبيل المثال، لا يخفي سعيه في «التفكير» بتأسيس «نظام شعبيّ عربيّ»(؟!) يكون مسؤولاً عن مشروع المقاومة ونهج المقاومة وبديلاً نضالياً لـ«معظم» النظام الرسمي العربي الحالي الذي تواطأ مع الأعداء. اللاّفت هو الإصرار دون هوادة على المقولات والمفردات والصياغات و«التحليلات» عينها كأنّ الزّمن لم يتغيّر بقدرٍ زهيدٍ بدءاً من لاءات الخرطوم الشهيرة وحتى لحظة تعيين المحكمة الدوليّة حاكمَ الخرطوم، حيث يلتئم أصحابنا، مجرماً ضدّ الإنسانيّة. ولا يلحظ السّادة الأفاضل مدى ارتباط ثيمتهم المقدّسة (العروبة المقاومة والاستبدادية وفق تمثيلهم) بما يتنافى مع الدعوة القوميّة التقدميّة الإنسانيّة، كما لن يتنّبه المؤتمر وأصحابه إلى المفارقة التي تظلّ علامة مخجلة على ضمور الحسّ الإنسانيّ لدى المحتفلين بالاستبداد «القوميّ» على أنقاض الجماعات غير العربيّة في العالم العربيّ؛ وبالعذر من المؤتمِرين الأفاضل على إيراد تعبير غير مناسب لمنطقهم ومنطوقهم؛ فمن الضلال القوميّ تماماً التلفّظ بـ«المنطقة العربية» في الحديث عن الوطن العربي والأمّة العربيّة كما يتوعّد البيان. لكنّه ليس يعني لهم شيئاً أن ينعقد محفلهم الهاذي على مقربة من أرض الجريمة «القوميّة» حيث قضى مئات الألوف من الدارفورييّن، غير العرب، قتلاً وتقتيلاً وتشريداً واغتصاباً على يد ميليشيات الجنجويد «القوميّة» المدعومة من الحكومة المركزية. هل يرضى القوميّون أن يعايروا في مساندتهم للقتل والإرهاب؛ قتلُ غير العرب على يد أنظمةٍ عربيّة يطمح القائمون على المؤتمر العتيد إلى أن يكونوا «مركز تفكيري think tank لديها،كما ورد في البيان؟ وهل يحتاج الحاكم العربيّ حقّاً إلى «مركز تفكيري»،أم إلى جوقة مصفّقة ومطبّلة وراقصة على إيقاع سياساته الحكيمة والرّشيدة؟
لكن ماذا عن بعض العرب غير المقتنعين بالمقاومة كخيار استراتيجيّ(أو تكتيكيّ حتّى إن شئتم)؟ وكيف يتم تعريبهم على نحو قوميّ سليم بحيث يصيرون قومييّن أُصلاء وأصحاء يستحقّون الانتماء إلى نادي المقاومين و إلى أمّة القومييّن؟ لا ريب أنّ المؤتمرين يحتفظون بحلولٍ ناجعة لهذه المعضلة.
إلاّ أنّ الميّزة الكُبرى لخطاب البيان هي في تلك الخفّة اللافتة التي يرد فيها مفهوم الأمّة(بـ ال ولام التعريف دوماً ودون إحالة إلى مضاف غالباً)، فيحاول القوميّون المعنيّون بشؤون «الأمّة» رسم مفهوم ناجز ونهائيّ لكيان يسمونه الأمّة العربيّة تحضر كالثيمة المقدسة بلا تحّسب ولا تدبير. وإذا ساءلهم أحدٌ عن تجليّات هذه الأمّة، أهي في السياسة أم في المجتمع أم في الثقافة أم في الاقتصاد، جاءه جواب قاطع بأن الحلّ هو تطبيق القوميّة على معناها «الصحيح»( أي السير على خطى صدام حسين وعمر البشير في « المقاومة» والتصدّي للغزو الخارجيّ والمؤامرات التي لا تنتهي)، ودعم المقاومة العربيّة، في فلسطين ولبنان والعراق. والمؤتمر يساوي بين تلك المقاومات الثلاث بشكل تامّ ويجمع بعضها إلى بعضٍ في نسق واحد من غير تفصيل أو انتباه لتباين شروط اندلاعها وبيئاتها الحاضنة ومساراتها وجدواها. وفي عرف المؤتمر وصحبه تكون المقاومات العربية «قوميّة» حكماً ولو كانت مذهبيّة وطائفيّة خالصة وتخوض حروباً صريحة ومباشرة ضدّ جماعات عربيّة أخرى، مثل «المقاومة العراقيّة» التي يؤكّد المؤتمر اعتزازه وافتخاره بكلّ رموزها وقادتها ويطالبها بالتوحّد. إنّها فتنة المقاومة السّاحرة.
ولا يدري المرء حقّاً أيّ برنامج وطنيّ تحمله تلك المقاومات المناضلة العفيفة لمستقبل «الأمّة» التي يتباحث المؤتمرون في شؤونها وشجونها غير العنف والاحتراب الشامل ونسف بقايا الانسجام الأهليّ، كي لا نقول التماسك الوطنيّ والمجتمعيّ. كما لا نعرف كيف يمكن للمقاومات العراقيّة أن تتوحّد والواحدة منها نشأت وبرزت لمكافحة الأخرى تماماً واستَدْعت واحدتها الأخرى بحكم العصبيّات الطائفيّة والمذهبيّة(اللاقومية واللاوطنية) التي تنهض عليها تلك المقاومات أساساً والتي يمكن إدراج محاربتها للقوات الأمريكيّة كتأثير جانبيّ لسياستها الرّامية إلى تفجير الوضع العراقيّ برمّته وضلوعاً عميقاً في سياساتٍ محليّة و إقليميّة مرسومة بعناية؛ ليس من بين غاياتها قطّ بناء وطنٍ للعراقييّن ودولة مستقرّة وإعادة وصل ما تهتّك من الجسم الاجتماعيّ العراقيّ العليل.
قبل عدّة سنوات أصدر قوميّ عربيّ معروف، يشغل منصباً رفيعاً في المؤتمر العتيد، «دراسة» قسّم فيها الإرهاب في العراق إلى خمسة أنواع، و زعمَ ، غير مازحٍ، أنّ ليس لـ«المقاومة الوطنيّة»(؟) علاقة بأيّ شكلٍ منه لأنّ….. الأمن مسؤولية قوات الاحتلال لا المقاومة! هل يعني هذا التحليل أنّ انتهاك أمْن العراقييّن من مسؤولية المقاومة؟ وهل ينبغي احتساب قتلى الحروب الأهليّة والخطط الإقليميّة شهداء ضدّ الاحتلال الأمريكيّ حتّى تستقيم نظرية «المقاومة كخيار استراتيجي للأمة»؟
ويحسبُ المؤتمر القوميّ أنّه التقط حلولاً مدروسة ودقيقة لكلّ معضلة عربيّة وكلّ شاردة وواردة. والحلّ يكمن دوماً في ……المقاومة التي ينصّبها القوميّون عَلَماً على نضوج قوميّ و وطنيّ يكون على يديها، وحدها، خلاص»الأمّة» وعزّتها. وهي بحسب المؤتمر على أصناف كثيرة ضمن مشروعٍ سياسيّ استراتيجيّ للمقاومة العربيّة:1ـ المقاومة القانونية(ومنها عدم شرعية قرار مجلس الأمن وقرار المحكمة الجنائية الدولية بـ القبض على الرئيس السوداني عمر حسن البشير) و2ـ المقاومة الاقتصادية(«حاجة الأمة إلى اقتصاد عربي مقاوم»! في لغة البيان) و3ـ المقاومة الثقافية والإعلامية(«ثقافة» المقاومة وإعلام عربيّ مقاوم؛ (تحريم) كتابة أسماء الشوارع بغير اللغة الفصحى، (تحريم) استخدام اللهجات العاميّة على حساب الفصحى في الفضائيات…). و على هدي هذه المنطلقات «الفكرية» يصوغ المؤتمر رأياً في القضية الفلسطينية والوضع اللبناني والشأن العراقيّ والسودانيّ والصوماليّ واليمنيّ. وبعد أن تكون قد ارتسمت أمّة القوميين العرب على المواصفات التي يشتهيها سَدَنة «الأمة» وقبل اختتام البيان لا ينسى المؤتمِرون التفّوه، تأتأةً من شفاههم وطرف لسانهم، بكلمات قليلة وعائمة عن حقوق الإنسان العربيّ، المُقاوِم و القوميّ وحَسْب على ما يفهم المرء بداهة.
قراءة البيان مُرهقة ومتعبة حقّاً للأنفاس، وهي إلى العقوبة البدنيّة والنفسيّة والذهنيّة أقرب.
والخلاصة التي قد تبقى في الأذهان من رسالة «المؤتمر القوميّ العربيّ» إلى «الأمّة» :العروبة القوميّة والاستبداد العربيّ هما الحلّ؛ ومن جهة ثانية تستثير الرسالة سؤالاً فضوليّاً: إنْ لم تصلح عروبة القومييّن العرب في تبرير السياسات الفاشيّة للأنظمة والمقاومات «القوميّة» العربيّة فلمَ تصلح ولأيّ شيءٍ آخر تنفع في هذا الكون؟
خاص – صفحات سورية –