صفحات مختارة

عندما يفْتَتن “الديموقراطيون” والمثقفون بالدكتاتوريات التوتاليتارية!

بول شاوول
تتساءل أحياناً بكثير من الدهشة كيف أمكن لكتاب وشعراء ومفكرين وفنانين ومناضلين وذوي وعي ورؤى توعز بالحرية (المطلقة) وبالديموقراطية (الخالصة) افتتانهم ببعض الظواهر الدكتاتورية والتوتاليتارية والاستبدادية من جنرالات وقيادات وصُناع حروب وممارسي قمع ومُصادري الارادات الجَماعية. كأنها “غرابة” القرن الماضي، قرن النظريات والشموليات من أفكار عنصرية (النازية، الصهيونية..) وإيديولوجية أحادية (الستالينية، الفاشية والماوية الفرانكوية…) والأنظمة المغلقة، ان يلتحق بهذه “التجليات” من يسير عكسها في سلوكه، وفي كتاباته ويمجدّها وهو يمّج كل حدود او سقوف جاهزة. نتذكر الكبار أمثال برشت واراغون وايلويار وسيلين وسارتر ومايا كوفسكي وغوركي ومايرخولد (في بدايات الانبهار)… كيف أن بعضهم اعجب جداً إما بستالين (قاتل أكثر نحو 23 مليون روسي)، أو بماو (حتى الآن في فرنسا العزيزة)، أو حتى بروتسكي.. او بكاسترو، أو كيم ايل سونغ.. أو عندنا ببعض الدكتاتوريين وأهل الشعارات والاستبداديين والقتلة!
تتساءل اليوم لا لأنك تريد ان تعاود قضايا كان لها، ربما، تبريرها في ظروفها، بل لأنّ “الظاهرة” ما زالت مستمرة، مع تغير المصطلحات والمضامين.
وإذا أعدنا صَوغ السؤال: كيف يمكن مثقفاً “غارقاً” في أحلام الحرية والديموقراطية، أن ينبهر بشخصية دكتاتور. وكيف يمكن أياً كان أن يعبّر عن تعطشه للتفلت المطلق من كل أفكار أو معطيات جاهزة.. وأن يمشي في ركاب زعماء طائفية أو عنصرية أو توتاليتارية. كأنها، في عمقها مسألة مَرَضِية أو معضلة ازدواج الشخصيات والأمزجة وتمزقها. هذا ما خبرناه على امتداد الحروب التي عصفت بنا في عقود، حيث اختلط كل شيء بكل شيء، وحيث ان كثيراً من النُخب والمثقفين والسياسيين العلمانيين والمدنيين واليساريين والليبراليين.. “شلحوا” جلودهم وانضموا الى بعض “دكتاتوريي” الميليشيات، أو الى طائفية طوائفهم، أو الى منطق مناطقهم.. وكأن شيئاً لم يكن. وكأن لا أفكار واحلام بالتغيير قد هزتهم ذات زمن او دغدغت مخيلاتهم أو نفذت الى مشاعرهم وأبدانهم وحواسهم.
مثقف “حُر” وراء دكتاتورّ يا للمتعة.
مثقف ديموقراطي يلحق بقائد او بجنرال أو بزعيم “فاشي”.. شيء غريبّ وعندما تناقش بعض هؤلاء السائرين في ركاب هؤلاء… تصاب بالعجب العجيب من مستوى التبرير، والشرح و”مناهج” الاقناع! شيء لا يُصدق.
ففي الصراع القائم عندنا، ومنذ اربع سنوات (ولحظة استشهاد الرئيس رفيق الحريري) وقيام انتقاضة الاستقلال وتحرير الشارع الذي كان محرماً على اللبنانيين ان يتظاهروا او يعبروا عن أفكارهم فيه وإضعاف الرقابة، ورفع القمع وهزم العقل البوليسي المجرم.. تراءى لنا “كالحلم” و”كالرؤى” كم ان مثقفين وكتاباً وناساً “تعبدوا” للحرية وجازفوا في بعض الظروف بانفسهم في النضال من أجلها، وقفوا بعناد ضد الاستقلال وضد الحرية نفسها والديموقراطية وحتى المجتمع المدني!
شيء غير قابل للتفسير ان تمارس وتحب ان تمارس ارادتك اليومية من دون أي رقيب أو قيد وفي الوقت نفسه تنحاز الى أهل القمع والمنع. شيء رهيب ان تبشر بالاستقلال والسيادة وتصطّف في الوقت نفسه وراء المرتهنين وعملاء الوصايات المتعاقبين وتوافيهم تواطؤاً بكل ارتباطاتهم بهذا الخارج: انه الشخص ذاته احياناً يتغنى بالاستقلال ويحارب أهله وشهداءه ومناضليه. اكثر: كيف يمكن أهل التحرير مثلاً ان “يُخوّنوا” اهل الاستقلال: وما الفارق بين التحرير والاستقلال؛ بل اكثر: كيف يمكن ان يلتزم ناس تحرير الأرض من هذا المحتل أو العدو.. ويرتبطون في الوقت نفسه بالخارج: شيء أغرب من الخيال! كيف يقاوم المرء مغتصباً للارادة والأرض وللوطن لمصلحة مغتصب آخر. أهذه هي الحال أو الضرورة أم الحاجة او المنطق! لا ندري! ولكن ما نريد قوله ان ثمة انفصاماً (ربما) أو شروخاً في الروح، أو في التكاوين، (أو الجينات) أو الشخصيات فكأن الشخصَ أشخاصٌ لا يلتقون وشخصيات منفصمة ومنقسمة على ذواتها: امراض بعض المثقفين انتقلت الى بعض الناس: أو امراض بعض الناس انتقلت الى بعض المثقفين. أمراض الأحزاب الوبائية اصابت من اصابت، أم الجبلاّت “الانسانية” مفطورة على التناقض؟
عندما كنّا نتابع الانتخابات الأخيرة، تأكد لنا ما سبق ان تأكد لنا من هذه الظواهر: المجموعات والأفراد والمثقفون والسياسيون الذين تعرضوا للظلم وللقمع وللنفي وللاهانة والسجن والتعذيب والخطف والتهجير والمنع والمصادرة، وكانوا في حينها في المقالب المقابلة للنظام الأمني المتنوع (المتوالي منذ 1969 مع تغير الأقنعة والشعارات)، ويرفعون يافطات محاربته.. وها هم اليوم: يصوتون لحلفائه، الذين تواطؤا معه على مصادرة الحرية والديموقراطية والاستقلال والخيرات والحريات!
أف! كيف يقبل الضحية تقبيل يد جلاّده! رائع! (وهذا الكلام لا ينطبق على اليوم فقط بل على كل الفترة الممتدة منذ أربعة عقود!). والأغرب في هذا المجال، ان العديد من ذوي العقول النيرة، والنقدية و”العملية” و”الاحصائية” من فلول اليسار القديم أو سواه، ومن “النخب” التغييرية الجذرية او الاصلاحية أو اليمينية، إما وقعت في منطق التبرير لتغطي مصالحها، وانانياتها وإما خضعت لغسل “الأدمغة” وفقدت كل حس بالتمييز، أو بالتمايز عن “المجموعات” المحكومة بغرائزها، أو بلاوعيها، أو بشروطها التاريخية. غريب ان تتساوى النخب المثقفة أو التي تدعي المطارحات التحليلية، ان تفقد كل حس نقدي واع! شيء مرعب ان يتحول المثقف او ذو التجارب السياسية والفكرية الطويلة الى ما يُشبه المدموغ في القطيع: يتلقف ويقبل من دون أي إعمال نقدي، او مراجعة! تماماً كما هي الحال في ظواهر الاستقطابات والجماهيرية الواسعة في بعض اللحظات التاريخية العارمة! فلو اخذنا مثلاُ ظاهرة الجنرال عون (أو أي جنرال آخر مثله وهم كثر في عالمنا العربي المظفر باذنه تعالى) وكيف استمر من جهة بعض الناس في السير في ركابه عندما اعلن حرب التحرير المزعومة على السوريين من جهة، وحرب الالغاء على القوات اللبنانية من جهة أخرى، وعندما شكل اول حكومة تقسيمية طائفية في لبنان.. وخاض قبلها حروب الميليشيات وكان وجهاً من الوجوه التي تعاملت مع اسرائيل.. ليسجل في كل ذلك هزائم بالجملة ويسبب خراباً عميماً في لبنان. هذا الجنرال قد تُبرر ظاهرته عند بعض المسيحيين في لحظة خلت فيها الساحة من كبار الرموز المارونية كريمون اده وبيار الجميل وكميل شمعون.. وفي لحظة ظنوا فيها انه المخلص من الوصاية السورية! عال! انهزم الجنرال كعادته امام السوريين وهرب كالغزال من ساحة القتال تاركاً ضباطه وجنوده وعائلته لمصيرهم! هرب ونُفي الى فرنسا! وأعادته الى بيروت بعد 15 عاماً انتفاضة الأرز وكذلك صفقة مع الوصايتين! عال! ليست هنا المشكلة فقط! بل عند الذين صفقوا له عندما كان يدعي تحرير لبنان من السوريين (والسبب الحقيقي رفض الرئيس الراحل حافظ الأسد تأييده للرئاسة وخيراً فعل!) ثم صفقوا له عندما انقلب على نفسه، وصار أحد أعمدتهم في لبنان. أكثر: صوّتوا له في الانتخابات الماضية على أساس أنه ضحية الحلف الرباعي، وأنه يطالب بنزع سلاح حزب الله التقسيمي وتحويل الصراع مع إسرائيل الى مسألة مفاوضات وديبلوماسية! ثم صوّت بعضهم له بعدما صار مع سلاح حزب الله الى “الأبد”، وحليفاً لإيران وسوريا… ولا أتكلم هنا على المجموعات فقط بل على النخب أيضاً: وتسأل كيف يمكن أن ينجرّ مثقفون وطلاب جامعات وصحافيون وإعلاميون ومحللون الى هذه الظاهرة المَرَضِية، وهذا الجنرال الذي لا يحمل فكرة واحدة، ولا هماً واحداً سوى هوسه بالسلطة! شيء أغرب من الخيال: نتذكر ستالين وهتلر وفرانكو… وبينوشي هنا، وكيف أن جماهير كثيرة ونخباً كثيرة كانت تؤيدهم “حتى التعبّد”! هل هو شغف الناس والمثقفين بالقوة.. وبالبطش. وبالدكتاتورية. وبالرجولة، مقابل “أنثوية” الديموقراطية؟ نذهب الى إسرائيل لنرى كم يعشق اليهود القوة والجنرالات والعسكر، باعتبار أن معظم قياداتهم السياسية التاريخية تنتمي الى جيش العدوان الإسرائيلي، انتماءها الى إيديولوجية العدوان! كأنه مجتمع عسكري (اسبارطي) بمسحة “ديموقراطية”! إنه الجوار المريض بانتمائه الى جنون القوة والطغيان، وهنا تسأل: إذاً كيف تنمو ديموقراطية هناك في ظل هيمنة الجنرالات والعسكر وتالياً: كيف تنمو ديموقراطية وإن شكلية في كيان يطالب العالم والعرب والفلسطينيين بالاعتراف بـ”يهودية” دولته. فكأنه مشروع توطين سافر، ومشروع تهجير لعرب 1948 في إسرائيل مبطن، في ظل دولة فلسطينية منزوعة السلاح والحدود والإرادة والحرية: إنه منطق نتنياهو، هذا الوحش “الحليق” الذي يرمي بهذه “المفرقعات” لتغطية مخطط تهويد كل فلسطين؛ واستمرار العدوان على أهلها: أفكار نتنياهو (وهي ليست جديدة!) فَتنتْ ثلاثة أرباع الشعب اليهودي في إسرائيل وخارجها: فَتَن منطق القتل (ولو جاء هذه المرة من مدني لينتعل قبعة جنرال)، الناسَ، وسحرَ سحقُ شعب كامل، شعباً (يهودياً) شبه كامل، ودغدغ منطقُ العدوان سرائر وعيوناً وغرائز وشعب الله غير المختار”! إنها القوة! وإذا عرفنا أن مجموعات عديدة من المثقفين الإسرائيليين واليهود في العالم تؤيد منطق القوة هذا، عرفنا أن الانفصام التاريخي بين ما يزعم المثقف من أفكار وما يمارس يزداد عمقاً لا سيما عند أناس يدعون اللاعنصرية وهم عنصريون بلا حساب!
صحيح أنه تصعب مقارنة المثقف العربي والمثقف الإسرائيلي (ولو أن بين بعض المثقفين اليهود اليساريين حركات احتجاج واهنة ضد تصرف حكوماتهم). لكن لو عدنا بالذاكرة الى علاقة المثقف العربي بالسلطة في القرن العشرين ولا سيما في النصف الثاني من القرن الماضي (لا نريد أن نعود بالذاكرة الى العصور العربية القديمة ابتداء بالجاهلية وحتى نهاية عصر الانحطاط) لوجدنا أن كثيرين من الشعراء والكتّاب والمفكّرين والمحللين والمناضلين انجذبوا أيضاً بـ”كاريزمات” القوة والبطش عند بعض قادة العرب الانقلابيين والجنرالات والحكام. أكثر: ومن لم ينجذب منهم “عضوياً” أو غريزياً… جذبته “الامتيازات” والمكافآت والحظوة والسلطة والمال… فجمع بين شعارات النضال والديموقراطية (عند الطغاة) وبين الارتزاق وكان لكل واحد من هؤلاء وفي معظم الأقطار العربية أن يدجن حاضره، ويتنكر لأفكاره… ويصطف على أبواب البلاطات العسكرية والفاشية وسواها! وهنا يتسع منطق الانحسار من كاريزما القائد المظفر والقاتل الموصوف الى الانبهار بقوة المال والتمتع بالسلطة: مشاركة الدكتاتوريات “هموم” القمع والنفي والاغتيال والسرقة والنهب وتحويل البلدان سجوناً كبيرة!
والطريف أن بعض المثقفين كانوا “يهربون” من دكتاتورية “القائد” المفدى في بلادهم… ويلجأون الى دكتاتورية قائد آخر مفدى في بلاد أخرى. وهذا حصل أيضاً عند بعض المثقفين الغربيين عندما كان بعضهم يهرب من دكتاتورية هتلر… ليحتمي بدكتاتورية ستالين. أو يستنكر ويدين توجهات كاسترو… ويعتنق “أفكار ماو تسي تونغ” (قُتل بسببه أكثر من 20 مليون صيني اغتيالاً أو بسبب سياساته الاقتصادية الحمقاء أو ثورته الثقافية التافهة التي صفّت المعارضين والمثقفين والكتّاب وملايين من “الجماهير” “العزيزة” و”العظيمة”!
وإذا عدنا الى اليوم، وإلى ما يجري في إيران، نجد أن كثيراً من أهل الفكر المفترض أنهم ديموقراطيون أو مدنيون، لا يؤيدون أحمدي نجاد فقط… بل ويهاجمون مئات الألوف من الإيرانيين الذين يحتجون على نتائج الانتخابات، ويتهمون “النظام” بتزوير النتائج وقلبها، وسرق إرادة الناس وأصواتهم وخياراتهم. أكثر: بعض القيادات عندنا في لبنان، لم تكتف بالتصفيق لعملية “التزوير” وقمع الناس، وقتل عدد من المتظاهرين بأيدي “الباسيج”، بل اتهمت “الضحايا” بالعمالة للخارج، تيمناً بادعاءات رسمية (مخابراتية) بأن الرموز الاحتجاجية الكبيرة (وهي من صلب النظام ومن أسسه ولبناته الأول ومن مقاماته العالية..). باتت بسحر “الفقهاء” والميليشيات المقنعة وأرباب السلطة مجرد عملاء… يخدمون الخارج (إنه المنطق ذاته الذي تستخدمه بعض الأنظمة العربية لتوصيف المعارضة. وهو المنطق ذاته الذي استخدمه بعض 8 آذار في توصيف بعض رموز 14 آذار! فيا للقاء الأهل، والمنسجمين والخلاّن بين هنا عندنا وبين “الباسيجيين” الذين يقنصون الشباب المتظاهرين من السطوح والنوافذ (هل تتذكرون ما حصل في الأحياء عندنا وفي 7 أيار! تذكروا وقارنوا ولا تنسوا الدراجات هنا وهناك عند بتوع الباسيج). لا نريد هنا أن نتوغل في المسألة الإيرانية، لا تيمناً بقول بعضهم من “العارفين” بكل شيء، بأن لا يحق لمن لا يعرف إيران جيداً أن يخوض فيها. برافوا. ونحن نؤيد الرأي الذي يقول إن الإيرانيين أدرى بشعابهم من بعض اللبنانيين أو سواهم والذين يدّعون غيرة على إيران أكثر من الإيرانيين، ومعرفة بها أعمق من أهلها! وهذا ما عبّر عنه بعض الأصوات الإيرانية رداً على بعضهم هنا وهناك!
مسألة الانبهار بالقوة (والمال جزء منها)، والادعاء في الوقت ذاته بالديموقراطية، ومسألة الانبهار بالدكتاتوريات المجنونة، وفي الوقت نفسه الإيمان بإرادة الناس، ومسألة انفصام بعض المثقفين بين “جنون” بالحرية، والتزام “واقعي” حتى “الثمالة” بالطغاة، ومسألة تغني بعضهم من “أرباب” الكلام، ومن “الصفوة” بالسيادة والاستقلال… والانحياز الى المرتهنين بالخارج مالاً وعقيدة وارتزاقاً وسلاحاً وإرادة وتعبيراً… كل ذلك، قد يكون من “جوهر” الأزمات العضوية التي تعانيها المجتمعات والمثقفون والقادة والأحزاب والطوائف والنخبة!
إنه الفصام التاريخي، فهل نجد له علاجاً أو دواء؟
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى