صفحات الحوار

أحمد المُلاَّ: أنتمي لشعراء هرّبنا دواوينهم وتبادلناها منسوخة فيما بيننا

null
بيروت – حسين بن حمزة: يكتب الشاعر السعودي أحمد المُلا قصيدة تكشف عن ممارسات لغوية وتخييلية مختلفة. جملة قوية وواثقة الفصاحة، ولكنها محمولة على نبرة شعرية خافتة تحاول الانصات إلى المعجم والخيال الشخصيين أكثر من المبالغة في ادعاء أدوار فضفاضة.
لم تحصره قصيدته في الإطار المحلي السعودي، إذ احتكَّت هذه القصيدة منذ البداية بمشهد عربي أوسع، فكان قريباً من تجارب وأسماء عربية وأجنبية بسبب نوعية الشعر وليس بسبب الجغرافيا المسبقة.
نشر المُلا ثلاث مجموعات شعرية حتى الآن: “ظل يتقصَّف” عام 1995، و”خفيف ومائل كنسيان” عام 1997، و”سهم يهمس باسمي” عام 2005.
“الرأي” التقت أحمد الملا، وكان هذا الحوار حول تجربته الشعرية، وحول حال الشعر السعودي عموماً:

* بعد ثلاث مجموعات شعرية، وارتيادات مختلفة لأرض القصيدة. كيف تصف علاقتك بالشعر؟ ماذا حلّ بالجملة أو الحساسية التي بدأت بها. عن ماذا تخليت وماذا اكتسبت؟
– كأني يوم خرجت من ريف الأحساء إلى مدينة في قلب الصحراء، والتفتُّ للمرة الأخيرة، كانت علامات الشعر بسيطة وجلية، نضوج الثمرة وهي تقوّس الغصن وتشده إلى الأرض. كان الشعر طازجا ليس في صوت انفلات الوتر، ولا ارتجاج الثمرة في الطين، بل ترنح الثمرة في الهواء الطويل، تلك المقدرة الغضة على تأملها بطيئا، والإرتواء بها.
قبل مجموعاتي الثلاث أسقطت مجموعة معدة وجاهزة (نشرمن نصوصها في مجلة مواقف 1996)، كانت الكلمات طرية الطعم والعبير، لم تجهدها المعرفة ولا استمرأتها حمولات الآخرين، وما ضيقت عليها بعد؛ ليس انطلاقا من نوستالجيا القدم أو الحنين لزمن القرية “التطهري” أبدا، بل لبراءة الدهشة الأولى في حديقة اللغة.
كلما زادت المعرفة ثقلت إشاراتها واحتجبت عني.
أمست الجملة متنبهة لفعلها، تتحاشى الأخطاء، وثقل القلب من دفع اليأس، ولم أعد مؤمنا بجدوى ما أرى. ولدت في حضن الأمل وقطعت من العمر أكثره في علاجه. صار بيني وبين الطفل الذي كنته رمال ورمضاء لا تنتهي.
لم تكن رغبة في التخلي؛ لأفعل. بل هجرتني دهشة لم أحافظ عليها كما ينبغي. الآن أعبر في تيه شاسع ومتشابه أؤثثه بخيالات وأستدل بها. بالتأكيد أنني خسرت أكثر مما بقي لي، لهذا فاني أحاول القبض على الحياة بكلتا يدي ولا أنوي التفريط بها مرة أخرى.
* ثمة أوصاف عديدة لوظيفة أو دور الشعر. البعض يعتبره تعويضاً عن فقدان أو عزلة، أو حلاً لسوء فهمٍ مع العالم، أو طريقة لتذوق الحياة. ما هو دور الشعر بالنسبة إليك؟
– هو أقربنا للخطأ، هو النافر والمتفرد عن القطيع وهو غيره. وربما العكس أي ذلك الهش في الصخرة الحرة أو عرق اللهب في سواد الفحم . كل ما هناك أني أكتب في الحيرة ولا أطمئن، وأقرأ شعر الآخرين لأطفئ ظمئي.

* كشاعر سعودي، ومدير إداري في “نادي المنطقة الشرقية الأدبي”، كيف ترى حال الشعر السعودي الراهن؟ وأين تكمن خصوصية هذا الشعر ضمن المشهد العام للشعر العربي اليوم؟
– الشعر في السعودية مثال صريح على حال الثقافة فيها، جزر متناثرة وربما متنافرة أيضا ( القديم بكل طبقاته والجديد بمختلف اتجاهاته مرورا بألسنة قديمة وتعريفات متناقضة ). كأنما متحف طبيعي للشعر، أشكال تعبيرية متعددة ومتجاورة، كل منها يمارس جهلاً بأي وجود شعري سواه. عديدة هي مسببات هذا الخلط والفوضى، ومن أهم المسببات، قصدية المؤسسة وسلوكها المنتمي للماضي من جهة والخشية الدينية من أسئلة الحياة المعاصرة ( مثال عدم توفر الكتاب الحديث في السعودية حتى عام 2003 إلا بالتهريب عبر الحدود ).
إن كان القصد في السؤال يشير إلى القصيدة الفصحى الجديدة، فيمكن الإشارة إلى طلائع التحديث الشعري منذ السبعينات وتشكل انعطافاتها في الثمانينيات وزخمه المتدفق منذ التسعينيات وحتى اليوم.
ليس ثمة من خصوصية للشعر في السعودية، صريحة وعازلة عن بقية الشعر العربي المعاصر، بما في ذلك تحولاته الزمنية في الشكل أو القضايا التي يثيرها في المشهد الثقافي.
يبقى ملمح تأثير الهجمة السلفية على فكرة “الحداثة” – المقترنة في ذهنية السلفيين بالحداثة الشعرية – وبالذات شعراء التفعيلة في الثمانينيات والتسعينيات، وهي هجمة تسلحت بتكفير وتفسيق أغلب الشعراء إلى جانب الكتاب المجددين والتضييق عليهم حياتيا ( المفارقة أن الحجة كانت خطورة الحداثة على المجتمع، ليعاني مجتمعنا بعد عقدين من دعواهم أن الإرهاب المسلح انطلق من معاقل السلفيين وليس من الحداثيين )، مما أدى إلى حالات استجابة متفاوتة غلب عليها الارتهان لحالة الدفاع والتبرير. في ظل هذه المنازعات البعيدة تماما عن الشعر، تشكلت حساسية جديدة غلب عليها اللجوء إلى مكمن الشعر متجاوزة الشكل المتنازع عليه بين الحرس القديم وبين “الحداثيين” من شعراء التفعيلة الذين استقروا في حالة توفيقية. وعلى مقربة من هذه الصدامات تعزز حضور قصيدة النثر واشتغال شعرائها بعيدا عن الضجيج، وانفتاح شعرائها على المشهد الشعري العربي.
* هل يمكن الحديث عن جيل شعري تنتمي إليه، سواء بالمعنى الزمني أو النصي أو التجريبي، وهل هناك صراعات مع آباء أو نصوص وثقافة شعرية تقليدية سائدة؟
– لست مطمئنا إلى حصر تجارب شعرية حسب الجيل، وبالمقابل يصعب علي توصيف تجربة شعرية بحالة سكونية، فالتجارب الشعرية المستمرة مثلما تقترب سماتها في نصوص معينة، من بعضها البعض، فهي تبتعد في تجارب أخرى. دائما ما أنتمي للنصوص أكثر من الشاعر، أرى أن التعامل مع الشاعر بمجمله، لا يستهويني إلا في إحدى حالتين؛ التناول الإجرائي النقدي، أو عندما يكتمل الشاعر بموته.
أنتمي إلى بلاد واسعة حيث أجد قربي الشعري عند شعراء في مدن بعيدة مقارنة بشعراء في جوار المدينة، انتميت للنص بالقراءة والمتابعة رغم عدم الالتقاء شخصيا بكاتبه. نبهني ذلك مبكرا لقربي وانتمائي لشعراء في أقصى العالم، وقوفا عند شعراء عرب. لهذا انتميت مبكرا لعباس بيضون، بسام حجار، وديع سعاده، قاسم حداد، علاء خالد، أمجد ناصر، زاهر الغافري وآخرين هربنا كتبهم منسوخة على آلة التصوير بيننا.
تخففي من الآباء القريبين، حرر مزاجي الشعري، وعبر القراءة خلقت آباء فرضتهم محبتي لنصوصهم، ودخلت في صراع مستمر لأتصالح مع سلطة نصوصهم ولا أزال.
أما بشأن سلطة الثقافة الشعرية السائدة فهي ما كرسته – ولا تزال – المؤسسة الرسمية في حياتنا اليومية عبر التعليم، الميديا، القيم الاجتماعية والمؤسسات الثقافية ( التي استمرت لعقدين في إعادة انتاج ثقافة تقليدية مكرورة حتى 2006م)، كل هذا تسبب في تمرد مشهدنا الشعري الجديد وإن عبر نوافذ ضيقة، إلا أن دافعها العميق هو حق الاختيار الفردي، ربما لمثل هذا نجد لدينا شعراء ذوي تجارب شعرية مغايرة، ذات جلد وإصرار وتنوع حسب الإطلالة التي انفتحت أمامها.
* هل ترى أن الشعر في السعودية، وفي الخليج العربي عموماً، لا يزال يلقى معاملة “الأطراف” من قبل ما يُسمّى “المراكز” الشعرية في بيروت والقاهرة ودمشق…. أم أن الحداثة باتت شأناً عالمياً توحَّدت فيه جغرافيات الشعر؟
– لم يعد للشعر جغرافيا، صار هوية. فمثلما تحدثنا، ينتمي الشعراء لشعرهم، هو الملاذ والمكان. الذهنية العربية التقليدية، لا تزال تعمل بما سُمِّي يوما بالمراكز والأطراف. وفي رأيي مردُّه لذهنية الاستسهال، والتعميم. ومن الطرافة أن هناك وجه شبه كبير بين الثقافة الدينية السلفية لدينا وبين وجهة النظر تلك، حيث تجزم الثقافة السلفية بأنها مركز العالم وما حولها أطراف في أحسن تقدير، لا يجمع بين هاتين النظرتين، إلا الذهنية التقليدية المغلقة المكتفية بذاتها عن الآخر وإن كانت تستهلك منتجه الإبداعي بذرائع مختلفة.
* تكتبُ قصيدة ذات لغة متينة وفصاحة بادية. رغم ذلك تراهن على نبرة خافتة تتجنب الضجيج والصوت العالي. هل بات الخفوت والكتمان خياراً شعرياً شبه شامل للنصوص والتجارب الجديدة، أم للأمر علاقة بسقوط الأيديولوجيات الكبرى والأحلام الكبرى؟
– تنبهت مبكرا على أن اللغة ليست مفتاحا فقط، بل الباب مفتوحا أيضا.
أما الانزياح عن الصوت العالي والانشغال بالخافت والابتعاد عن الشعارات وضجيجها، فهو لم يكن نتاجا أيديولوجيا ( مقابل سقوط الأيديولوجيات )، بل استرداد أحلامي وكوابيسي الصغير والكبير منها، استعدت نفسي ورأيت في تأمل التفاصيل الصغيرة ما يلتقي مع العالم في كل لحظة.
مرت الشعرية العربية بفترة من إقصاء الكائن كونه فردا وصيرته نكرة في عداد الجمهور، علّينا أوهاما وادعينا أن الحقيقة واحدة، أن الجمال بيّن وأهملنا الأخطاء.هكذا هُزمنا، وعلى الشعرإعادة الاعتبار لذاتي، دونما عداوة بل بفائض الحب علني أشفى.
* تقول في قصيدة لك بعنوان “الطير”: “أغوتْهُ نافذتُها/ فهبَّ جناحاه/ شقَّا الهواء/ ولم يدرِ/ ريشٌ تهاوى/ دمٌ يخطُّ/ شظايا تطيش/ وتلمع/ الطيرُ لم يدرِ/ أنها لم تفتح الزجاج”. هل يصلح هذا تعريفاً للشعر؟ هل على الشاعر أن يطرق باب “الكمال” الشعري الذي لن يُفتح يوماً؟
– ربما في سبيل النقصان أكثر، و تخففاً من ناجز القول والكلام المكتمل بنفسه، خاصة عندما أقارنه بنص كتبته عام 1993:
” إن قدما لا تنتقي خطوها
لا يحق لها
أن تفاخر بالطريق”.
جريدة الراي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى