الديني والسياسي ومابينهما
مصطفى السراج
غالباً ما تميزت العلاقه بين علماء الدين والسلاطين في تاريخ الدول الاسلاميه حتى العصر الحديث، بتقديم رجال الدين الطاعه للسلاطين، وسعي السلاطين لاظهار مايوطد سلطانهم من المفاهيم الدينيه، وتقريب رجال الدين الساعين لطاعة السلطان، وابعاد المخالفين منهم. ورجال الدين اكتفوا بالاستنكار القلبي لأعمال بعض السلاطين، وفي أقصى الحالات استعمال اللسان كجارحه من قبل بعض العلماء في خطبهم أمام الناس على طريقة النصح العلني للسلاطين، وأكثر هذه الحالات كانت مقتصره على انتقاد بعض القائمين على أعمال السلطان وولاته وليس على الذات السلطانيه، ولم تصل العداوه بين رجال الدين والسلاطين الى حد استخدام السلاح لمحاربة السلطان والاستيلاء على ملكه. وبقي ذلك سائداً حتى العصر الحديث حيث لم تفلح محاولات المزج بين التأثير الديني والسياسي على شعوب الدول ذات الاغلبيه الاسلاميه السنيه.
لعل أوضح حادثة في التاريخ الاسلامي، تداخل فيها الديني والسلطاني، ما حواه الاقتباس التالي من سيرة الامام الشيخ العز بن عبد السلام مع المماليك
وُلد الإمام الشيخ العز بن عبد السلام في دمشق عام 578 هـ، وتوفي سنة 660 هـ في مصر.
انتقل العز إلى مصر، فوصلها سنة 639هـ. فرحب به الملك الصالح نجم الدين، فولاّه الخطابة والقضاء، وكان أول ما لاحظه بعد توليه القضاء قيام الأمراء المماليك المملوكين للدولة الإسلامية بالبيع والشراء وقبض الأثمان، وهو ما يتعارض مع الشرع إذ أنهم في الأصل مملوكين لا يحق لهم البيع والشراء و الزواج من حرائر نساء مصر، فكان لا يمضي لهم بيعاً ولا شراء، حتى تكالبوا عليه واشتكوه إلى الملك الصالح الذي لم تعجبه فتوى الشيخ العز، فذهب الي الشيخ يسأله أن يعدل من فتواه، “فطلب منه الشيخ ألا يتدخل في القضاء فليس هذا للسلطان، فإن شاء أن يتدخل فالشيخ يقيل نفسه”(عبد الرحمن الشرقاوي، أئمة الفقه التسعة، 359). فاجتمع أمراء الدولة من الأتراك و أرسلوا اليه، فقال الشيخ: “نعقد لكم مجلساً و ننادي عليكم (بالبيع) لبيت مال المسلمين . فاستشاط نائب السلطنة غضباً، و كان من المماليك، وأن السلطان لم يذعن لحكم الشيخ، فأرسل اليه من يتلطف اليه، و بعد اصرار الشيخ أخبره الرسول أن السلطان لن يسمح ببيع الأمراء، و أمر السلطان واجب، و هو فوق قضاء الشيخ عز الدين! و علي أية حال فليس للشيخ أن يدخل في أمور الدولة وشئون الأمراء لا تتعلق به. بل بالسلطان وحده!
فأنكر الشيخ تدخل السلطان في القضاء و قام فجمع أمتعته ووضعها علي حمار. ووضع أهله علي حمير أخرى، و ساق الحمير ماشياً!.. الي أين يا شيخ!؟.. قال: ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها؟!.. فيم المقام بأرض يُستضعف فيها أهل الشريعة، و يُعتدي فيها على القضاء؟!” (عبد الرحمن الشرقاوي، أئمة الفقه التسعة، 360-361).
تجمع الناس وراءه و تبعه العلماء والصلحاء والتجار والنساء والصبيان، خرج الملك الصالح مسرعاً ولحق بالعز وأدركه في الطريق وترضّاه، وطلب منه أن يعود وينفذ حكم الله، فتم له ذلك. و اشتهر العز بعدها بأنه بائع الملوك.
هذه الحادثه تبين أن الشيخ العز بن عبد السلام لم يخرج عن سلطة الحاكم! ولم يأمر الناس بخلع البيعه! ولم يطلب لنفسه زعامة السلطنه! ولم يحاول تبديل السلطان. أقصى مافعله الشيخ هو تصريحه بالحكم الفقهي النابع من مفهومه الديني الذي وافق تذمر اكثر الناس أنذاك من أفعال المماليك في مصر. وعن غير قصد قد يكون الشيخ بفتواه هذه قد فتح الباب واسعاً للمماليك للوصول الى منصب الولايه العامه بعد الأيوبيين. المهم والواضح في هذه الحادثه أن فهم السلطان وأغلب الناس في ذلك العصر هو أن رجل الدين وحتى القاضي ليس له التدخل بالأحكام السلطانيه، وعندما لاتوافق الاحكام السلطانيه فقه القاضي أوعالم الدين ليس له الا الاستقاله أو البعد عن ساحة السلطان.
في المقابل نجد نموذجاً واضحاً على تدخل السلطان في المفاهيم الدينيه لدى العلماء في خبر محنة خلق القرآن كما ذكرها ابن جرير الطبري في تاريخه الجزء الثامن طبعة دار المعارف الصفحات 631-645 وفيها تفاصيل كثيره. أقتبس منها بعض ما يفيد في فهم العلاقه بين رجال الدين والسلطان في رسائل أمير المؤمنين المأمون بن هارون الرشيد الى ولاته لتنفيذ أمره في امتحان العلماء بخلق القرآن جاء في صفحه 637 (… أن أمير المؤمنين لايستعين على شيء من أمور المسلمين الا بمن وثق في اخلاصه وتوحيده، وأنه لاتوحيد لمن لم يقر بان القرآن مخلوق..) ثم ذكر الطبري صفحه 644 (.. فأجاب القوم كلهم حين أعاد القول عليهم الى أن القرآن مخلوق، الا أربعة نفر منهم أحمد بن حنبل وسجّاده والقواريري ومحمد بن نوح. فأمر بهم اسحق بن ابراهيم(عامل أمير المؤمنين) فشُدّوا في الحديد ثم أعاد المحنة.. وأطلق البعض وبقي أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح الى وفاة المأمون…) ومع العنت الذي لاقاه العلماء في هذه المحنه لم يخرج أحد منهم عن طاعة السلطان، ولم يطالبوا باستبداله بله الحلول مكانه. وفي الوقت نفسه كان للمأمون ثلة من العلماء الموالين لرأيه، وعلى رأسهم أحمد بن أبي دوؤاد أعظم فلاسفة المعتزله. ليس القصد من ايراد الاقتباسات مقارنةً بين المفاهيم العقيديه عند العلماء، بل لفهم العلاقه بين رجال الدين والسلطان. طاعة تامه للحاكم من قبل علماء الدين، وتدخلاً من السلطان في فرض مفهومه الديني على رجال الدين. وهذا يستدعي سؤالاً: هل هناك تمايز واضح بين أهل الدين وأهل سلطان الدولة والسياسه.
لعل الآقرب الى مسمى رجال الدين الاسلامي هم: القضاة الشرعيون والفقهاء ومدرسي المذاهب الفقهيه، ورواة الاحاديث، وأصحاب الاختصاص في الحديث الشريف وعلومه، وعلماء التفسير وخطباء وأئمة المساجد الراتبون، وشيوخ الطرق الصوفيه، والقريبون من هذه الأوصاف. والأقرب الى مسمى رجال السياسه والدوله: السلاطين والامراء والولاة ومساعديهم في أعمال السلطه، ورؤساء الدواوين المدنيه وقواد الجيوش. ولاينفي الصفه الأميز البراعة بالصفة الاخرى. وفي العقود الآولى للاسلام ابتدأ مبكراً نوعاً من التمايز بين رجال الدوله ورجال الدين. ولايصعب على قاريء الحوادث التاريخية التمييز بين مشاهير التاريخ الاسلامي وقرب كل منهم لآحدى الصفتين.
استمر ابتعاد رجال الدين عن منافسة أهل السلطان الى قرون قريبة. حتى أن الامام محمد بن عبد الوهاب عندما أُجلي من العيينه في نجد لم يطلب الامارة لنفسه ولم يخرج على آل معمر أمراء العيينه بل هاجر الى الدرعيه عام 1740 م. ونشر دعوته تحت ظل أمير الدرعيه محمد بن سعود بن مقرن، وكان الشيخ عوناً للأمير على بسط نفوذه، وكان مقرباً عنده، وما زال أحفاده ذوي حظوة عند آل سعود في جزيرة العرب الى اليوم.
أغلب حوادث التاريخ تدل على أن رجال الدين الاسلامي الموالون لأصحاب السلطان ينعمون بقربه ورغد العيش، أما مخالفي السلاطين فقد يصيبهم العنت من السلطان وخدمه ولاينازعونه على السلطه. الى أن حاولت بعض الحركات الدينيه وقادتها الأقرب الى صفة رجال الدين في القرن العشرين الميلادي محاولات الدخول الى ميدان السياسه ومقارعة أصحاب السلطه السياسيه في بعض الدول العربيه، وحيث أن هذا العمل غير مسبوق في التاريخ الاسلامي السني، وكأنه بدعة في السياق التاريخي للعلاقه بين أهل الدين وأهل السياسه وتمايز الاختصاص بينهم. لهذا السبب الرئيسي المذكور وعوامل أخرى ثانويه كان الفشل نهاية كل محاولةٍ للوصول الى السلطه والاستمرار فيها خلال مايقارب القرن من الزمان، والمثال الواضح لذلك فيما حصل في مصر وسوريا. ولم تتمكن الحركات الاسلاميه من الاستمرار في نشاطها السياسي الا بقدر موالاتهم للزعامه السياسيه في البلاد وعدم منازعتهم على السلطه. وخير مثال على التلائم بين الحركات الدينيه والسلطه السياسيه ماحصل في الأردن والكويت، و في الكويت مؤخراً عندما فترت حرارة موالاة الاسلاميين لولاة أمورهم انعكس ذلك سريعاً خفوتاً في نشاطهم ونفوذهم.
الخلاصه لما ذكر أن منافسة أهل الدين لأهل السياسه والسلطه، ومحاولة الجمع بين التأثير الديني على المسلمين والوصول الى الزعامه السياسيه على دولهم لم يرافقها النجاح حتى يومنا هذا، وكان الخاسر في أغلب الأحوال الجامعين بين الدين والسياسه، بينما أصحاب السلطه لم ينقطع الموالون لهم من رجال الدين ونسائه من المبررين لافعال أصحاب السلطه مهما شذت. ولعل السياق التاريخي والفطنه تستدعي ابتعاد رجال الدين عن المزج بين الدين والسياسه، وتركيز اهتمام رجال الدين على استنباط ماينفع الناس من المفاهيم الدينيه والاحكام الفقهيه، ومساعدة عموم الشعب في استحسان مايستحسنه العقل والعلم والمنطق وما تعارف عليه أغلب البشر من الاخلاق الكريمه.
خاص – صفحات سورية –
لم أستطع فهم قصد الكاتب الذي يبدو أنه سوري هل يريد من الاخوان المسلمين حل أنفسهم ويبطلو سياسه وهل يضمن أن يوافق بشار الاسد ويسمح لهم بدخول سوريا. اذا باسوا التوبه على الجهات الاربعه لن يسمح لهم بشار بالرجعه لسوريا فلماذا هذا الجلد للاخوان المسلمين، والمشكله كلها عند بشار