صفحات الحوار

راجي بطحيش: أكتب ضد صورة الفلسطيني الجاهزة في خيال القارئ العربي

null
شاعر سابق، وقاص حالياً… ويفكر بالرواية والسينما
راجي بطحيش: أكتب ضد صورة الفلسطيني الجاهزة في خيال القارئ العربي
بيروت – حسين بن حمزة: بدأ راجي بطحيش شاعراً. نشر ديوانين، ثم هجر الشعر إلى القصة والسرد. الشعر أشعره بالاغتراب عن نفسه، فكتب القصة لأنها تمنحه المساحة واللغة المنفلتة والقادرة على تناول أي شيء بلا شروط أو معايير خانقة.
في قصصه، وخصوصاً في مجموعتيه الأخيرتين “غرفة في تل أبيب” و”ملح أكثر … أرض أقل”، يُدير الكاتب الفلسطيني المقيم في مدينة الناصرة ظهره لمعظم ما اعتدناه من كليشيهات فلسطينية جاهزة. نصوصه تنمو بقدرة المخيلة الفردية والسخرية والعنف اليومي والاجتماعي. القصص تصير متنفساً لشروط الاحتلال القاسية التي تتضمن ارتطاماً واحتكاكاً متواصلاً بين الفلسطيني والإسرائيلي . وهي عوالم شبه مجهولة بالنسبة للقارئ العربي الذي تربَّى على الأدب الفلسطيني المكتوب في الشتات.
راجي بطحيش هو أحد الأسماء التي تثبت أن نبرة جديدة تترسخ اليوم في الأدب الفلسطيني.
“الرأي” سألته عن تجربته، وعن مناخات الثقافة والكتابة الراهنة في الداخل الفلسطيني:
* بدأت شاعراً، وأصدرت مجموعتين، ثم توقفت عن الشعر وانتقلت إلى القصة. لماذا الشعر؟ ولماذا هجره لاحقاً؟
– بدأت بكتابة الشعر والنشر في صحيفة “الاتحاد” في مناخ كان كله شعراء لدرجة تثير العجب أحيانا. كان ذلك في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، ولكنني، وسط هذا الكم الهائل ممن يطلقون على أنفسهم صفة شعراء، اكتشفت أن السواد الأعظم لا يشبه ما يكتب…بمعنى أن ثمة انسلاخاً صارخاً (أحيانا فظاظة) بين النص وبين طبيعة من يكتبه. هناك شيء في لقب “شاعر” يشعرني بالضيق والحرج ويسجنني فيه، إضافة الى الكاريكاتورية التي تحيط بهذا الفن لكثرة الدخلاء عليه. أفضِّل أن أكون فناناً يبدع ما يشبهه ويعيش ما يؤمن به. أعتقد أن فن القصة وكتاباتي النقدية في العمود الصحفي الذي أكتبه تتيح لي حرية أن أكون أقرب ما يمكن الى نفسي ومشروعي وأسلوب حياتي. بصراحة: لقد ذهلت من مقدار التخلف السائد في مجتمع الشعراء لدينا في الداخل الفلسطيني وعدم قدرتهم على الربط بين التحرر الفردي والقومي. قد يختلف المشهد في بيروت أو دمشق مثلاً …لا أعرف!
اعتقد أن ما جعلني أشعر بالاغتراب الذي لا رجعة منه أيضاً، وقذفني خارج المشهد الشعري هو الاتجاه الجماعي (وغير المبرر غالبا) الى الأساطير ومحاكاة الآلهة ومغازلتها كنعانياً في فلسطين وفينيقياً في لبنان وغيره … حتى أصبح كل من هبّ ودب يكتب عن عنات وبعل اللذين لا يربطني بهما أي شيء .. وجدانيا على الأقل.
* يُقال إن الشعر عمل خانق على لغة تحتاج دوماً إلى تكثيف وضبط. هل وجدت في القصة متسعاً لسرد منفلت وقادر على احتمال أفكار وثرثرات متعددة؟ هل ساهم عملك في الصحافة في الميل إلى السرد؟
– هذا صحيح. فأنا أعشق كشف الأمور المستترة وتشريح المجتمعات وعلاقة الشخوص فيها وهذا بالطبع ليس دور الشعر(بطرحه الحالي).. مع أنني أستمتع بقراءة الشعر وأحاول دائما دمج أبيات شعرية كتبتها داخل نصوصي السردية… ولكن ما أريد قوله يحوي (كما جاء في سؤالك) ثرثرات وفضائح ومكاشفات وصدمات ومفارقات حرجة لا يتحملها الشعر، وهنا لا أفصل بين مقالاتي الصحافية وبين أعمالي السردية المنشورة في كتب، فجميعها تتحدث عن نفس الهاجس ولكن بأشكال متعددة تقتضيها طبيعة العمل (مقالة، قصة، نثر حر..) ولكن، وبصراحة، لم تعد لي القدرة على الاختباء وراء نصوص تشكيلية مبهمة (أحيانا للكاتب نفسه). أنا في مرحلة أريد أن أقول فيها كل شيء بدون خوف! فلا وقت للخوف وثمة الكثير من القضايا الجارحة التي تنتظر بالطابور.
* ما النقلة القادمة.. رواية مثلاً … أم فيلم سينمائي؟
– أبحث بعد “ملح كثير..أرض أقل” عن اتجاه ما نحو رواية. لا أعتبر نفسي قاصا أبدياً. أنا شخص ملول ومزاجي وأتنقل كثيرا ولا أجلس خلال الأسبوع في مدينة وبيت واحد، ولذلك أعاني من قصر النفس الكتابي. في حال كتابتي لرواية أريدها أن تكون طويلة وزخمة ومسترسلة ومدروسة ونتاج بحث معمق… رواية يقرأها المرء خلال أيام وليس في ساعتين، لذلك بدأت حاليا بدراسة وبحث حول موضوع رواية جديدة وهي رواية بوليسية حول تجارة النساء وبالتأكيد سوف تحمل تداعيات وإسقاطات سياسية وحضارية آنية حول الداخل الفلسطيني..أتمنى أن تسمح لي تنقلاتي وظروفي الحياتية بإنجاز العمل كما يجب وكما يسعد المتلقي.
بالنسبة للسينما، الموضوع يخضع لمنتج ومخرج ومناخ يتبنى ذلك. عرض علي مخرج إسرائيلي تنفيذ القسم الأول من كتابي “غرفة في تل ابيب”، ولكنني رفضت مع أن العمل القصصي هذا يلائم السينما بشكل كبير. حالياً هناك مفاوضات وجلسات عمل جارية مع مخرجة فلسطينية لتنفيذ العمل نفسه وسأقوم أنا بكتابة السيناريو، وسوف يكون هناك تطوير للخطوط الدرامية لإستيفاء الشروط السينمائية.
من جهة أخرى، أنا في مشغول بعمل مسرحي عنوانه “فقدان” في مسرح أنسمبل الفرينج لدينا في مدينة الناصرة، وهو تجربة ممتعة بحق تدمج بين النصوص الشعرية – الرقص المعاصر – والفيديو آرت، حيث يتغذى كل جنس فني من الجنس الآخر. وأقوم في العمل إضافة الى المشاركة بالنصوص بالصياغة الدرامية، التمثيل بالفيديو والإخراج الفني مع بقية الطاقم، العمل مع الفنانين ممتع حقا ويختلف (نحو الإيجاب) عن العمل مع الكتّاب!!
* يلاحظ القارئ في قصصك أنها تستفيد من أمزجة كتابية وفنون وأجناس إبداعية مختلفة إلى حد يمكن القول إنها تحتوي على أقل ما تحتاجه القصة التقليدية. لا توجد حبكة عادية وليس فيها اكتراث ببداية وخاتمة … هناك سينما أكثر ومونتاج أكثر ولغة أقل؟ هل هو ضجر من السائد؟ وما تأثير دراستك للسيناريو في تل أبيب على ذلك؟
– كان هذا مقصودا في عملي الأخير “ملح كثير..أرض أقل”، فهذا العمل هو مشروع واحد وليس قصص كتبتها على مدار عامين وجمعتها في النهاية في كتاب…القصد كان عرض هذا الوجود المتشظي الذي تتداخل فيه العديد من الأصوات وتقطعه الكثير من الوقفات الإعلانية ذات الدلالات. جاء ذلك نتيجة قرار فني خالص. أردت التجريب ولا أعرف إن كنت قد وُفِّقت، ولكنني كنت متخوفا جداً من ردود الفعل على الكتاب وخاصة أن التقطيع السريع في المشاهد والفقرات إضافة الى تداخل الأجناس الكتابية كان يتطلب إعدادا خاصا للنص لدى الناشر في بيروت. وبما ان الناشرين العرب لا يشغلون لديهم معديّ نصوص وبما أنني في الناصرة ولا سيطرة لي على النسخة الجاري طباعتها عبر الحدود المقفلة مع لبنان، فإن النتيجة جاءت خلافا لما كنت أرغب.
على كل حال لا أعرف ماذا أسمي نصوصي : قد لا تكون قصصا بحق! لا يهم ! المهم أن تكون ممتعة، صادمة وذات فنية عالية، أكثر ما يسعدني عندما يستوقفني قاريء عادي لا أعرفه في الشارع ويردد لي جملة أو موقفا كتبته وأعجبه.
بالنسبة لدراستي للسيناريو فقد ساعدتني على إدخال البعد البصري على ما أكتب إضافة الى الإختزال والمونتاج المكثف للجمل بحيث يكون كل سطر مفصلياً وعالما قائما بذاته.
* أنت من الناصرة، وتعيش بينها وبين تل أبيب. وفي قصصك هناك دوماً ارتطام للفلسطيني بالآخر الإسرائيلي. الكثير من قصصك يبدو مفاجئاً للقارئ العربي الذي اعتاد على صورة جاهزة للصراع في فلسطين؟ إلى حد ينتج الواقع الفعلي صوراً أكثر دقة ومرارة للوضع على الأرض؟ وإلى إلى حد يمكن أن يتسرب ذلك إلى النص الذي تكتبه؟
– بما أنني أنشر كتبي في لبنان والأردن فإنني، بقصد وأحيانا بدون قصد، أتعمد الى وضع شخصية الفلسطيني الذي يسير في شارع في مدينة إسرائيلية تحت المجهر وكأنني أعمل مراسلا لبرنامج “إسرائيل من الداخل” لإحدى القنوات الفضائية العربية. أعرف جيدا أن هنالك فضولاً عربياً قوياً لمعرفة ما يحدث في الداخل على مستوى الأفراد، كما أنني أعرف جيدا مقدار متعتي عندما أكتب لقارئ في سوريا أو لبنان عن هواجس شاب فلسطيني يبحث عن ذاته في شوراع تل أبيب أو القدس الغربية متجاوزا بذلك القصص الجاهزة عن الجدار العنصري والحواجز العسكرية ومصادرة الأراضي (على أهميتها). ثمة تواطؤ بيني وبين القارئ… هو يريدني أن أكتب عن الفلسطيني في العمق الإسرائيلي وارتطامه بالآخر، وأنا بدوري يسعدني أن أكتب عن هذا. إنه تواطؤ لذيذ.
* هناك غربة وعزلة داخلية لدى معظم شخصيات قصصك. أحلام ميتة ومصائر مؤجلة. جنس سريع قائم على سوء فهم مزمن. سخرية وفظاظة. هل هذه صورة الفلسطيني اليوم، أم أنك تتعمد إبراز الجانب الخفي وغير الملتقط في شخصيات تبدو طبيعية بالنسبة للآخرين؟
– هنالك مطب كبير اسمه “صورة الفلسطيني اليوم”. لا يوجد شيء كهذا كما لا يوجد فلسطيني واحد وله صورة. فلسطين هو مكان يعيش فيه بشر يحبون ويكرهون ويكتئبون ويفرحون ويموتون موتا طبيعيا أيضاً وليس استشهاداً فقط (كما يروق للبعض أن يعتقد)، كما أن هناك فرقاً شاسعاً بين المناطق. هل تعلم أن هناك طائفية في فلسطين. أنا أعيش في مثلث معين ومحدود، ونادراً ما تتغير شخوصه وهو بين الناصرة – تل أبيب وحيفا. ولا يشبه هذا المثلث الا نفسه، بمعنى أنه مليء بالشخصيات التي أكتب عنها. وهي شخصيات لا تمثل شيئاً مما يتواجد على الأرض بحق. وكما ذكرت فإنه مثلث شخصي مليء بالشخصيات الملونة والبوهيمية، وبالنساء على حافة العنوسة، إضافة الى الفنانين على طبائعهم المتقلبة، والمثليين والعلمانيين المتطرفين واليهود المعادين للصهيونية، وأشخاص أضاعوا أحلامهم وهم يبحثون عن الاختلاف. إنه عالم نخبوي ومتداخل الحضارات بجدارة ولا أعرف سواه. عالم يحمل قوانين جنسية خاصة ولكنه في الوقت نفسه مليء بالحزن. بينما فلسطين الحقيقية، على شقيها، هي في البلدات التقليدية والمحافظة والمتدينة بشدة في النقب والمثلث وحدود لبنان وقضاء نابلس وحتى في الناصرة نفسها. عالمي متكلف جداً وحدوده مختلفة، وبالتالي فإن شخوصي سرعان ما تتبعني إليه وتخلص لإشكاليته وتعقيداته.
* في هذا الإطار، هل يمكن الحديث عن جيل جديد أو تجارب مغايرة لكونها منجزة بمخيلة كتاب شباب يعيشون التجربة كما هي، وخارج أي غنائية ونوستالجيا مسبقة. هل هناك حركة أدبية وثقافية في الداخل؟
– هنالك تجارب خجولة أو خجل بالتجارب، يوجد الكثير من الشعراء كما ذكرت ولكن النثر يفضحهم، بمعنى أنهم لا يشكلون بغالبيتهم مشروعا ثقافيا متكاملا يسعى للتغيير والتحرر. فبغياب المركز والمدينة المستقطبة سرعان ما تتحول هذه المحاولات الى حالات منفصمة تنكفئ على نفسها وتعود الى أحضان القرية والأب والعائلة ومنظومة العلاقات العامودية. لذلك لا يمكنني أن أتحدث عن حركة أدبية وثقافية. أعتقد أنها تجارب شخصية ومشاريع خاصة قد تبدو من بعيد حركة. لدي شعور بأن بعض النشاطات الثقافية في الداخل يتم تضخيمها بشكل كبير بواسطة المراسلين، مستغلين اهتمام الصحافة اللبنانية واللندنية بما يحدث لدينا. يكفي أن أقول أن لا صحافة حقيقية في الداخل كما ينعدم النشر بشكل تام، فلا توجد مهنة اسمها ناشر أو مؤسسة تدعى دار نشر. لدينا نشاط مسرحي لا بأس به وإنتاجات سينمائية جيدة إذا ما قسناها ببعض الدول المجاورة، وذلك ناتج عن جاذبية الصراع بالنسبة للممول الأوروبي.
جريدة الراي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى