صفحات العالمقضية فلسطين

من خط بارليف إلى الجدار الفولاذي

سمير كرم
لست اظن ـ ولا اظن ان عربياً واحداً من المحيط الى الخليج يظن ـ ان الجنود المصريين حطموا خط بارليف، اشد حصون اسرائيل مناعة في تاريخها، كمقدمة لإقامة جدار فولاذي ليكون حصناً منيعاً مصرياً يستكمل الحصار الاسرائيلي على غزة.
لم تكن حرب تشرين 1973 بأي حال مقدمة لعزل غزة عن مصر والعالم..بل عن الحياة.
ان مصر التي تحتفل سنوياً بذكرى «انتصار اكتوبر» كما لا تحتفل بأي ذكرى اخرى في تاريخها الحديث والقديم كله، قصدت ان تمهد نتائج هذا الانتصار العظيم لعزلة الشعب الفلسطيني وحصاره فلا يعود شريان الحياة يمتد من مصر الى غزة.. ولا تعود مصر مرئية لأهل غزة كما كانت دائماً عوناً لهم في الحرب والسلام، في المقاومة وفي انتظار حرب مقاومة اخرى ضد اسرائيل.
لقد حاولنا جهدنا ان نفصل بين «انتصار اكتوبر» الذي بدأ بتحطيم خط بارليف واجتيازه وبين النتائج السياسية التي جاءت بعد ان سكتت اصوات مدافع اكتوبر وحلت محلها اصوات كؤوس الاحتفال في واشنطن بتوقيع اتفاقات كامب ديفيد.
حاولنا ـ قدر الجهد وقدر ما سمحت لنا قدرتنا على تطويع المنطق للواقع ـ ان نفصل بين شجاعة جيش مصر ومخططيه الأفذاذ الذين خلقوا المفاجأة الكبيرة لاسرائيل، التي احتكرت المفاجآت في الحروب السابقة، وبين جرأة ساسة مصر بقيادة انور السادات على سحب نتائج المفاجأة الكبرى من تحت اقدام الجنود، لتتحول الى سلام بإشراف الحليف الاستراتيجي الاكبر لاسرائيل: الولايات المتحدة الاميركية.
حاولنا ـ قدر ما اتاح التناقض الواضح بين نتائج حرب اكتوبر العسكرية ونتائجها السياسية ان نحتفظ لمصر بحقها في الفخر بما أنجزته على ارضها، وفي سمائها حين اكدت قدرتها على تحطيم وجود الاحتلال الاسرائيلي على ضفة ـ وبعد ذلك على ضفتي ـ قناة السويس ـ وأن تحتفظ لمصر بدورها العربي في مرحلة جديدة تبنى على مجد حرب اكتوبر وليس على نتائجها السياسية.
غير ان ثلاثين عاما من سياسات النظام المصري قلّصت شيئا فشيئا من نتائج مجد اكتوبر وضخمت في الوقت نفسه واقع النتائج السياسية التي استطاعت اسرائيل والولايات المتحدة ان تفرضها على مصر وعلى الواقع العربي.
في البداية لم يبد من كامب ديفيد الا ما يوازي الجزء الظاهر فوق الماء من جبل الجليد. وشيئاً فشيــئاً اخذ يظـهر جبل جليد كامب ديفيد كاملا او شبه كامل يؤكد ان النتائج العسكرية خلقت واقعا لحظيا، لكن النتائج الــسياسية اوجدت واقعا متعدد الجوانب فيه التطبيع الرسمي مع اسرائيل ـ وان غاب التطبيع الشعبي بفعل مقاومة الشعب المصري ومنظماته الاهلية ـ وفيه اتفاقـات بيع الــغاز الطبيعي المصري بأرخص الاسعار لاسرائيل رغم المعارضة الشعبية القوية، وفيه التحالف الاستراتيجي مع الحليف الاستراتيجي لاسرائيل، وفيه مناورات «النجم الساطع» مع القوات الاميركية، وفيه معارضة المقاومة الفلسطينية ومعارضة المقاومة اللبنانية، وفيه الامتناع عن الاعتراف بفوز حماس في الانتخابات الديموقراطية لان اسرائـيل لم تعترف به ولان اميركا رفضته، وفيه قبول ـ بل تأكيد ـ الحصار الاسرائيلي لغزة وبعده الحرب الاسرائيلية على القطاع، بكل ما ارتكب فيها من جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية… وفيه وفيه…
مع ذلك فإن الجدار الفولاذي بين مصر وغزة لم يكن ليخطر ببال احد.
إن فكرة الجدار الفولاذي تبدو اسرائيلية ولا تبدو ابدا فكرة مصرية. فإن تاريخاً يمتد لآلاف السنين من العلاقات والحدود المفتوحة بين مصر وغزة لم يشهد شيئا مماثلا.، ولكن الجدار الفولاذي يستمد فكرته من الجدار العنصري الذي اقامته اسرائيل ولا تزال تمد فيه داخل اراضي فلسطين لتمزق فلسطين جغرافياً وتاريخياً وسياسياً واجتماعياً.
جدار الفولاذ بين مصر وإسرائيل وإن لم يصل مكانياً الى اي نقطة اتصال مع الجدار العنصري الاسرائيلي في الضفة الغربية هو امتداد اساسي وسياسي له.. انما لا يكتفي بتمزيق ما بين الفلسطينيين من اتصال، فيقوم بوجه كل ما بقي من اتصال بين مصر وفلسطين.
هل يمكن ان يكون الجدار الفولاذي في وجه الفلسطينيين والمصريين ـ من اي من جانبيه ـ اقوى مما كان خط بارليف في وجه المصريين.
ان الارادة التي استطاعت ان تبني مئات الانفاق لتتغلب على اغلاق الحدود الوحيدة التي كان ينبغي ان تظل مفتوحة بين مصر وغزة لن تعجز عن تخطي الجدار الفولاذي. مزيد من الجهد للحفر في مزيد من العمق ولا يصبح الجدار الفولاذي حائلا دون العبور في الاتجاهين.
تتواصل اعمال البناء في هذا الجدار لتقترب، من الكتلة السكنية لمدينة رفح، في وقت بدأ فيه الحديث عن إزالة المنازل الواقعة بين العلامات الحدودية.. وهي المناطق التي تضم اكبر عدد من الأنفاق بسبب انهيارات ارضية متوقعة. وحسب صحيفة «الشروق» المصرية، نقلاً عن مصادر مطلعة في رفح، فإن هذه المصادر «قللت من تأثير الجدار الفولاذي على إنشاء الانفاق، مشيرة الى ان الانفاق تكون على عمق ثلاثين مترا وهو عمق لا تصل اليه الالواح الفولاذية التي تصل الى 18 مترا فقط. لكن التأثير الحقيقي هو عمليات تثبيت الالواح الحديدية، التي تشكل خطرا على الانفاق نتيجة الاهتزازات العنيفة التي تسببها معدات التثبيت العملاقة».
وقالت المصادر نفسها «ان تكتيكات جديدة تم استخدامها في الانفاق الحديثة وهو وضع كاونترات بضائع من الحديد الصلب تشكل جدران النفق الاربعة، وهو ما يستحيل معه انهيار النفق، الا ان تكلفة هذه الانفاق تصل الى ما يقرب من ثلاثمئة الف دولار للنفق الواحد».
نحن اذن بصدد حسابات صماء تؤدي فعل اقامة الجدار الفولاذي في مواجهة حسابات الارادة البشرية الفاعلة تؤدي فعل اقامة الانفاق من اجل استمرار الحياة تحت الحصار في غزة.
انها مواجهة بين حسابات الموت وحسابات الحياة. فمتى كانت حسابات الموت تنتصر على حسابات الحياة في صراع ارادة المقاومة.
لقد حاول المسؤولون المصريون لعدة اسابيع انكار حقيقة العمل في بناء جدار فولاذي على الحدود بين مصر وغزة. ولم يلبث هؤلاء ان وجدوا ان الإنكار لا يجدي، فان المصريين في المنطقة ـ قبل الفلسطينيين ـ تحدثوا صراحة عما يرون. وعندما لم ينفع الانكار لجأ المسؤولون المصريون الى حيلة بالغة الضيق. وصفوا الجدار الفولاذي بأنه «اجراءات امنية مصرية من حق مصر القيام بها في جانبها على الحدود وفي اي وقت وكيفما تشاء». ونسوا تماما طبيعة العلاقات في هذه النقطة الحساسة من الوطن العربي. نسوا تماما تاريخ العلاقات بين الشعبين المصري والفلسطيني وعلاقات السكان المصريين والفلسطينيين الذين لا يمكن التمييز بينهم في اللغة او اللهجة او العادات الاجتماعية. نسوا تماما ان تاريخ المنطقة لم يعرف ابدا صدامات ولم يعرف الحواجز او الجدران… وطبعا لم يعرف الانفاق. لكن بناء الانفاق بدأ ردا على حصار اسرائيلي حول غزة الى «اكبر معسكر اعتقال في التاريخ». وبناء الانفاق هو تعبير عن ارادة حياة لدى الطرفين اللذين يقيمان على جانبيها.
وليس من قبيل المصادفة اولا ان تجد السلطات المصرية نفسها مضطرة ـ الى جانب حراسة انشاءات الجدار الفولاذي ـ الى فرض حراسة مشددة على المحطة التي تقوم بتوصيل الغاز الطبيعي المصري الى اسرائيل.
ترى لماذا تتكبد مصر كل هذه النفقات لكي تحمي مصالح اسرائيلية ؟ ترى كم ستكون نفقات اقامة الجدار الفولاذي؟
من المؤكد ان اجابة على اي من هذين السؤالين تدخل في اطار السرية الامنية. لكن من حق الشعب المصري ـ قبل غيره ـ ان يعرف ما سيدفعه من جيبه نفقات لحماية مصالح وسياسات اسرائيلية كان بإمكان مصر ان تقف بمنأى عنها. وإلا فمعنى هذا ان لعنة كامب ديفيد تشمل تكبيد الشعب المصري كل نفقات تترتب على ضرورة توفير الامن لاسرائيل على الجانب المصري. وعندما تطلّب امن اسرائيل محاصرة غزة ثم مهاجمتها وارتكاب جرائم الحرب ضدها وهي تحت الحصار، كان من الضروري ان تشارك مصر في هذا الحصار بالقدر الذي تلزمها به اتفاقات كامب ديفيد.
عند هذا الحد لا بد ان نتساءل: اليس غض الطرف ـ مجرد غض الطرف ـ عن الحصار الاسرائيلي لغزة اسوأ في نتائجه من تطبيع العلاقات مع اسرائيل؟
ان قراءة بسيطة لمعارضة الشعب المصري القوية التي لا تلين للتطبيع مع اسرائيل تؤكد انه لن يقف غير مبال ازاء الجدار الفولاذي بينه وبين شعب غزة الا بقدر ما يتابع ويراقب بإعجاب وتقدير عبقرية الفلسطينيين في مقاومة الحصار الاسرائيلي، بما في ذلك مقاومة جدار الفولاذ.
لقد انقضت 36 سنة على تحطيم خط بارليف بإرادة الجنود المصريين وعزمهم وأسلحتهم. وستبقى هذه الذكرى في وعي المصريين ـ الذين شاركوا منهم في هذه العملية ولا يزالون على قيد الحياة، والذين سمعوا بها ويعتزون بما فعل آباؤهم وأجدادهم ـ لكن كامب دايفيد، بعد انقضاء 30 سنة على توقيعها، لا تبقى منها اي ذكرى تحمل معنى الاعتزاز او الفخار في وعي الشعب المصري حتى اليوم.
والجدار الفولاذي ليس تتمة لعملية تحطيم خط بارليف، ولن يكون اقوى ولا اكثر مناعة منه.
الجدار الفولاذي ليس الا جزءاً من تبعات كامب دايفيد، شأنه شأن اتفاقات بيع الغاز الطبيعي واتفاقات التطبيع الرسمي.. والشعب المصري يعارضها تماماً، وهو بريء منها.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى