ثلاثة مخاوف سورية حيال الوضع في لبنان … لماذا فقدت دمشق ثقتها بالعماد ميشال سليمان؟
باتريك سيل
يبدو أن الضّباب لن ينقشع قريبا عن أفق حلّ الأزمة اللّبنانية المستمرّة. والسّبب الرئيسي يكمن في أن مسألة انتخاب الرئيس اللّبناني لا تنحصر في الدّاخل اللّبناني، بل تتعدّاه إلى الخارج.
تسعى قوى خارجية عديدة للكلمة الفصل في المسألة. وبالتالي فان التّوصل إلى توافقٍ بين هذه القوى المختلفة مهمّة صعبة تتطلّب المزيد من الوقت.
ولقد سعى الأمين العام لجامعة الدّول العربية عمرو موسى، جاهداً من خلال وساطة شجاعة لجمع الأطراف اللبنانيين المتخاصمين والقوى الخارجية الداعمة لهم، إلا أن وساطته لم تحقّق النجاح المنشود حتى الآن. وتضمّ القوى الخارجية جهات إقليمية متخاصمة مثل المملكة العربية السّعودية وإيران، إلى جانب مصر وفرنسا والولايات المتّحدة الأميركيّة وحتّى إسرائيل (الناشطة من خلال الولايات المتحدة).
إلا أن القوة الفاعلة الأهمّ من بين هذه المجموعة، وانطلاقا من الإطار اللّبناني الدّاخلي، هي سورية، لا سيّما أنها تعتبر التطوّرات الحاصلة في لبنان مسألة حياةٍ أو موت بالنسبة اليها. وسواء كان الأمر صحيحاً أم خطأ، فسورية تشعر بالحاجة لممارسة حقّ الاعتراض على اختيار رئيس الجمهورية اللّبناني.
وتسري إشاعة في دمشق مفادها أن الرئيس السّوري بشار الأسد طلب من عمرو موسى الذّهاب إلى الرّياض لنقل رسالة مصالحة إلى الملك عبدالله بن عبدالعزيز. كما نقلت بعض المصادر عن الرئيس السّوري قوله إنه لن يقدم على اتّخاذ أي خطوة قبل الحصول على دعم المملكة العربية السّعوديّة.
إذا صحّت هذه الاشّاعات، فقد تكون إشارة بحدّ ذاتها إلى انفراج في العلاقات العربية الملبّدة، وبالتالي فهي إشارة أيضا إلى ظهور أمل باختراق جدار الأزمة اللّبنانية. وسبق للرّئيس بشّار الأسد أن حضر القمّة العربية التي عقدت في الرّياض في آذار (مارس) سنة 2007، واجرى محادثات مطوّّلة مع الملك عبدالله بن عبدالعزيز، وكان لبنان القضية الاساسية عندذاك كما لا يزال اليوم. ولا شكّ أن انفراج العلاقات السّورية – السّعودية هو أمرٌ ضروري، لا سيّما أن البرودة الحالية بينهما، والتي باتت تميل إلى الخصومة، تشكّل حجر عثرة أمام التّسوية اللّبنانية.
وفي رأي بعض المراقبين فمن شأن القمّة العربية المقبلة في آذار (مارس) أن تشكّل فرصةً لتخطي العوائق والسّماح بانتخاب رئيس للجمهورية في لبنان، غير أن البعض الآخر، وعلى نحوٍ أكثر تشاؤماً، يعتبر أن القرار بشأن المسألة بات عرضة للتأجيل إلى ما بعد الانتخابات النيابية المقرّرة في وقت لاحق من هذه السّنة، والتي يمكن أن تشهد تغيّراً في موازين القوى بين الأكثرية والمعارضة.
ويبدو أن إحدى المشاكل الأساسيّة تكمن في أن سورية فقدت ثقتها بقائد الجيش العماد ميشال سليمان، وذلك بعد أن عُقِدَتْ الآمال على كونه مرشّحاً مقبولاً من جميع الأطراف المعنية.
فخلال التّسعينات، طوّر العماد ميشال سليمان علاقات وثيقة مع سورية في الفترة التي أعيد فيها بناء الجيش بمساعدةٍ سورية نفسها، وذلك بعد انتهاء الحرب الأهلية. وخلال السّنة الماضية، عندما دخل لبنان في مواجهات عنيفة ضدّ إحدى الفصائل الإسلامية المتحصّنة في مخيّم نهر البارد للاّجئين الفلسطينيين، قامت سورية بتزويد الجيش اللّبناني بالذخائر اللاّزمة.
باختصار، اعتُبر ترشيح العماد ميشال سليمان تنازلاً لمصلحة سورية. إلا أن ذلك كان التّوجه السّائد خلال السنة الماضية. أما حالياً فقد فقدت سورية ثقتها بالعماد سليمان واعتبرت أنه انتقل إلى الجانب السّعودي الأميركي. كما تسري شائعة أخرى في دمشق مفادها أن العماد سليمان ذهب في زيارة سرّية إلى المملكة العربية السّعودية حيث يقال انه قدّم تعهدات بشأن تحالفاته المستقبلية.
وفي كل الحالات فإن العماد سليمان ليس ألعوبة، وخصوصاً بعد أن تعزَّزَ موقعه خلال معارك مخيّم نهر البارد الشّرسة. وفي حال تمّ انتخابه، فمن المرجّح أن يكون رئيساً مستقلاً. ويشّكل هذا الأمر مخاطرة لا يبدو أن سورية مستعدة لخوضها.
ما هو هدف سورية في لبنان؟ يُطرح هذا السؤال في كل عاصمة اقليمية أو دولية. وللإجابة على هذا التساؤل، من الأجدى لنا ان نحاول تحديد ما ترفض سورية حصوله في لبنان. فسورية ترفض إعادة إرسال جيشها إلى لبنان، حيث بقي لمدة 29 سنة منذ 1976 إلى 2005. إلا أنها لا تتساهل في المقابل مع قيام حكومة معادية واستفزازية في بيروت، والتي من شأنها أن تسمّم الحياة السّورية بشكل يومي.
وتريد سورية أن تضمن أن أيّ حكم يمكن أن يقوم في لبنان، وأيّ رئيس يتم انتخابه أو أية حكومة يجري تشكيلها، سوف يعترف ويحترم مصالح سورية الحيويّة، السّياسيّة منها أو الاقتصادية أو الاستراتيجيّة. هذا هو الاساس كي توافق سورية على تسوية للازمة اللّبنانية.
ويبدو أن ثلاثة مخاوف تشغل سورية حيال الوضع في لبنان. يتمثّل الاول بقيام المحكمة ذات الطّابع الدّولي التي انشئت لمحاكمة قتلة رئيس الوزراء اللّبناني الأسبق رفيق الحريري، في 14 شباط (فبراير) سنة 2005. ولم يتمّ إلى اليوم تحديد القتلة، ومن المحتمل فعلاً عدم التمكّن من تحديدهم مطلقاً، ويمثّل هذا الواقع مدى التعقيد في هذه القضية.
وسورية في الواقع اقل قلقاً حيال أي حكم يحتمل أن يصدر عن المحكمة مما هي قلقة بالنسبة الى مسار المحاكمة على مدى الأشهر والسنوات القادمة. فالمحكمة تملك حق استدعاء عشرات، وربما مئات الشّهود. وهذه العملية ستأخذ وقتاً طويلاً ولا مهرب من تسييسها. ومن المحتمل استخدامها من قبل اعداء سورية كوسيلة لمهاجمتها ووربما لزعزعة استقرارها.
وتظنّ سورية أن المحكمة الدّولية ستكون بمثابة «سيف ديموقليس» المسلّط على رأسها، وهو ما يشل اي تحرك يمكن ان تقوم به، خوفاً من سقوط السيف عليها.
أما ثاني المخاوف السّورية فيتمثّل في إمكانية أن يعمد أي نظام لبناني معادٍ لسورية، وبدعم دولي، إلى نزع سلاح «حزب الله»، وهو الحزب الشيعي المسلّح والمتحالف مع ايران وسورية، والذي حارب إسرائيل خلال صيف سنة 2006 مما ادى الى فرض الوضع الحالي. ومن وجهة النّظر السّورية، فإن محور طهران – دمشق- «حزب الله» هو القوة الوحيدة التي تستطيع مواجهة الضغوط والاعتداءات الاسرائيلية والأميركية.
وثالث هذه المخاوف السورية وأكبرها حيال الوضع في لبنان يتمثّل بإمكانية تحوّل جذري في موازين القوى الإقليمية. فسورية تخشى أن يميل تحالف 14 آذار المناهض لها أو أن يتم دفعه، إذا تعزّز موقعه، إلى توقيع سلام منفصل مع إسرائيل، وذلك على غرار اتفاق 17 ايار (مايو) 1983 الذي سعت الولايات المتحدة اليه بعد الغزو الإسرائيلي للبنان سنة 1982.
فلقد هدّد ذلك الاتفاق المنفصل آنذاك باستقطاب لبنان إلى المحور الإسرائيلي، واعتبرت سورية ذلك خطراً قاتلاً، وقد تمّ تلافيه عندما تمكّن الرئيس السّوري الراحل حافظ الأسد، من القضاء على هذا الاتفاق.
وبالتالي فإن الهوس السّوري الدائم يتمثّل بالخوف من دخول التأثير الإسرائيلي إلى لبنان، بطريقة أو بأخرى، في حال زال نفوذ سورية أو تراجع. وباعتبار أن دمشق على مرمى حجرٍ من الحدود اللبنانية فان هذا الاحتمال يشكل خطراً قاتلاً.
ولذلك فان ما تطلبه سورية هو أن تنضم مع جارها اللبناني في اطار جغرافي استراتيجي، ليس من الضروري أن يكون له اي طابع سياسي رسمي، على ان يكون قادراً على مواجهة التهديدات الخارجية.
ويعْتَبَرُ هذا الاتجاه من أهمّ الأسس التي تعتمدها سورية في سياستها الخارجية. إلا أن له ثمناً باهظاً، فقد حال دون اتفاقٍ مع فرنسا ورئيسها القليل الصبر نيكولا ساركوزي، الذي بذل جهودا كبيرة خلال الأشهر الماضية للتوصّل إلى تسوية في لبنان. وفي هذا الإطار، زار وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير، بيروت ما لا يقل عن ستّ مرّات. وبما أن فرنسا تعتبر نفسها عرّابة استقلال لبنان، فإن سورية تضع الجهود الفرنسيّة في خانة تهديد مصالحها الحيويّة.
ويضاف إلى الأثمان الباهظة للرغبات السورية، ثمن داخلي كبير مقابل هوس سورية بوضعها الأمني. فقد تم سحق أطياف المعارضة جميعها، ومن بينها ما يُعْرَف بـ «المعارضة الوطنية» المُؤَلَّفة من المثقفين والنّاشطين في مجال الحقوق المدنية، واليساريين والإسلاميين المعتدلين. ومن شأن هذا القمع أن يوجّه ضربة قاسية إلى صورة سورية وسمعتها في الغرب. فتحرير هؤلاء الوطنيين من أصحاب النيات الطيبة من السجن والتّحاور معهم، يجب أن يشكّلا أولويّة سوريّة.
من المفهوم خوف سورية على بقاء النظام. فقد أسقطت الولايات المتحدة الأميركية النظام السّابق في العراق، وهي تهدّد حاليّاً إيران، فيما تغمض عيونها عن المجازر التي ترتكبها إسرائيل بحقّ الفلسطينيين. ويبدو أن واشنطن أعطت الضّوء الأخضر للغارة الجوّية التي قامت بها إسرائيل في أيلول (سبتمبر) الماضي ضدّ منشأة عسكريّة غامضة الهدف في شمال شرقي سورية. ويضاف إلى ذلك استمرار واشنطن في فرض عقوبات أحاديّة الجانب على سورية ورفضها وضع قضية الجولان السّوري، الذي تحتله إسرائيل منذ سنة 1967، ضمن الاهتمامات الاميركية في المنطقة.
وفي نهاية الأمر، فان تراجع حدّة التوتّرات الاقليمية والتقدم الفعلي في مساعي السّلام العربي – الإسرائيلي سيسمحان لـ «ربيع دمشق» أن يُزْهِر من جديد، بعد أن تم الترحيب به كأحد ملامح الشهور الاولى من حكم الرئيس بشّار الأسد.
كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الاوسط
الحياة – 25/01/08