ماذا يعني الاعتراف بإسرائيل « دولة يهودية»؟
توفيق المديني
ليس من قبيل المصادفة أن وجّه زعيم اليمين الإسرائيلي المتطرف بنيامين نتنياهو خطابه بشأن رؤيته للتسوية، انطلاقا من جامعة «بارإيلان» المعروفة بيمينيتها وبمعاداتها للسلام، متحديا بذلك رسالة الرئيس أوباما، الداعية للسلام من جامعة القاهرة.
وكما كان متوقعا، حدد رئيس الوزراء الإسرائيلي رؤيته الخاصة للدولة الفسطينية، والتي تتلخص في اللاءات الأربع: لا لدولة فلسطينية ذات سيادة، ولا عودة للفلسطينيين إلى أرضهم وديارهم، ولا انسحاب من القدس، ولا لوقف النمو الاستيطاني.
في مقابل موافقة نتنياهو على هذه الدولة الفلسطينية المنزوعة السلاح، والتي ستكون بمنزلة «كيان فلسطيني مستقل ذاتيا اقتصاديا»، اشترط على الفلسطينيين أن يعترفوا بإسرائيل كدولة يهودية. وقال نتنياهو: «إن دولة إسرائيل هي دولة الشعب اليهودي، غير أن الجانب الفلسطيني يرفض الاعتراف بذلك..».
هذا الموقف ليس جديدا على فكر اليمين الإسرائيلي المتطرف، بل هو يعكس بدقة الموقف الحقيقي الذي يتسم به الآن المجتمع الصهيوني المنعطف أكثر فأكثر نحو التطرف والتشدد. وحكومة نتنياهو الحالية هي الحكومة الأكثر تعبيرا عن مواقف ومزاج المجتمع الصهيوني منذ قيام إسرائيل.
فما يميز هذا المجتمع الصهيوني العنصري، هو أنه أوصل هذه القوى والأحزاب اليمينية المتطرفة إلى السلطة، والمتمثلة في حكومة نتنياهو التي تجمع في ثناياها تلاقي اليمين الفاشي الصهيوني بشقيه العلماني والديني، حيث يرسم هذا اليمين الصهيوني المتشدد ملامح إسرائيل الراهنة والمستقبلية.
ونعود إلى الشرط الأساس لنتنياهو الذي يطلبه من الرئيس الأميركي أوباما لدفع السلطة الفلسطينية إلى الاعتراف بإسرائيل كدولة أساسية قبل أي اتفاقية يتناولها الطرفان في المستقبل، فنقول، إن اعتراف الطرف الفلسطيني المفاوض بإسرائيل «دولة يهودية»، يعني الاعتراف بالأطروحات الصهيونية المدافعة عن حقها المزعوم باستعادة أرض فلسطين التاريخية التي أقامت عليها الحركة الصهيونية العالمية، بالتعاون مع القوى الاستعمارية الأوروبية والأميركية مشروعها الاستيطاني، المتمثل في قيام دولة إسرائيل سنة 1948.
إسرائيل لا تريد حلا لقضية القدس، ولا تريد إلا سلامها الخاص، الذي يقوم على اعتراف العرب بها كدولة يهودية خالصة، أي أنها تسعى إلى الحصول على اعتراف بأرض الميعاد، وهي فكرة تستند إلى دعوى توراتية ونهاية رمزية للاضطهاد الذي عانى منه اليهود على مر العصور، والذي بلغ ذروته مع الاضطهاد النازي، وفق وجهة نظرهم.. ومن وجهة النظر العربية بعامة، والفلسطينية بخاصة، يمثل هذا الاعتراف استسلاماً شاملاً لمطالب الحركة الصهيونية العالمية وتجسيدها المادي: إسرائيل، ونفياً مطلقاً لحق الشعب الفلسطيني في أن يكون سيداً على أرضه التاريخية المعترف بها من قبل الشرائع والأديان السماوية، إضافة إلى القانون الدولي الحديث.
كما أن الاعتراف بإسرائيل «دولة يهودية»، يعني في أساسه الجوهري دفع الشعب الفلسطيني، الذي تعيش فصائله المناضلة في المرحلة الراهنة انقساما حادا بسبب الموقف من مسارالتسوية، الذي لم يقد إلى إنشاء دولة فلسطينية مستقلة، نحو التنكر بشكل غير مسبوق لحقة التاريخي في أرضه السليبة، ولهويته العربية-الإسلامية، ولتاريخه الكفاحي المستمر منذ ما يزيد عن قرن، في سبيل تحرير أرضه عبر المقاومة المسلحة التي تخبو أحيانا، لكنها سرعان ما تنطلق بعد فترة من الزمن. ولاتزال هذه المقاومة مستمرة على رغم مسلسل الانحدار العربي نحو قاع البئر.
وعلى الرغم من أن منظمة التحرير الفلسطينية وقعت اتفاقيات أوسلو في العام 1993، واعترفت بوجدود دولة إسرائيل، وخاضت معها أكثر من 15 سنة جولات من المفاوضات العقيمة.. وعلى الرغم من أن أقوى حركات المقاومة الفلسطينية «حماس» لمحت إلى استعدادها للقبول بالتعايش السلمي مع إسرائيل، إذا ما اعترفت هذه الأخيرة بحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة ضمن الحدود العام 1967، فإنه لايوجد فلسطيني واحد من السلطة، أو من فصائل المقاومة الأخرى، علماني أو إسلامي ، يقبل الاعتراف بإسرائيل «دولة يهودية»، لأن مثل هذا الاعتراف يعني التسليم بالكامل بانتصار المشروع الصهيوني في أرض فلسطين، وما يترتب على هذا الانتصار من إضفاء الشرعية التاريخية والسياسية من قبل الفلسطينيين على أرضهم التاريخية، التي استولت عليها إسرائيل بالقوة، ومن خلال التطهير العرقي العام 1948، وبالتالي عدم المطالبة بحق العودة إلى أرضهم واسترداد ممتلكاتهم التي فقدوها كما ينص على ذلك صراحة القرار 194.
في الحقيقة، إن الاعتراف بإسرائيل دولة يهودية، سيقود عاجلا أم آجلا إلى قيامها بترانسفير كبير لسكان الـ48 ، ولاسيما مع ازدياد سيطرة الأحزاب اليمينية الفاشية على مقاليد السلطة في إسرائيل، وبالتالي سيقود إلى التأسيس للخيار الأردني البديل بشكل واقعي.
لقد أعادت هذه الاستراتيجية الإسرائيلية الحاسمة في طرح نتنياهو الصراع العربي-الصهيوني إلى مربعه الأول كصراع وجود لا صراع حدود.
إن الرؤية الصهيونية للتاريخ تنبع من العودة إلى جذورالديانة اليهودية، والتراث اليهودي، اللذين يفيضان بالتنبوءات والوعود التي تبعث الأمل في صدور الصهاينة، وتبشرهم بالعودة. وقد أرست الحركة الصهيونية العالمية الكيان الصهيوني على أرض فلسطين إيماناً منها بتنبوءات الديانة اليهودية والتراث اليهودي القديم.
هكذا، أصبح الكيان الصهيوني الغاصب لأرض فلسطين تجسيداً للرؤى التوراتية والنبوءات الدينية، التي حضنها اليهود طيلة آلاف السنين من التشتت. وأطلق الفكر الصهيوني على أتباع الديانة اليهودية اسم «الشعب اليهودي»، الذي وعده إلهه بأرض فلسطين، واتخذ من فكرة العودة إلى «أرض الميعاد» وسيلة لإثارة حماسة اليهود الدينية والعاطفية في شتى أنحاء المعمورة بهدف تنظيمهم في صفوف الحركة الصهيونية، بوصفها حركة سياسية عملت بجهد هائل، وقوة جبارة على اقتطاع اليهود من الأوطان التي كانوا يعيشون فيها، والسير بهم إلى فلسطين.
كاتب من تونس