قضية فلسطينميشيل كيلو

وضع فلسطين يبعث على اليأس

ميشيل كيلو
من الصعب جدا تحديد وحصر مشكلة – بل مشكلات – فلسطين في عامل واحد. ذلك سيكون تبسيطا لا يتفق مع ما في راهن فلسطين من تعقيد.
ليس هناك في فلسطين مشكلة واحدة، نعينها ونتعامل معها فنضع يدنا على سبل الخروج منها. لو كان الأمر بهذه البساطة، لكنا بألف خير من الله، ولهانت الصعوبات هناك، وكان التخلص منها أمرا يسيرا.
ثمة، في فلسطين، مشكلات لا حصر لها، تدخل اليأس إلى قلوب أمثالنا ممن اعتبروا أنفسهم فلسطينيين، وناضلوا مع الحركة الوطنية الفلسطينية، وخاصة تنظيمها الأم، حركة ‘فتح ‘، لاعتقادهم أن حريتها هي المقدمة الضرورية لحرية العرب، بعد فشل المسعى الوحدوي العربي وتعذر تحديث المجتمعات العربية، وأن نضالها مدرسة يتعلم الشعب العربي فيها سبل بلوغ حريته، بما أنه رافعة تاريخ العرب الحديث، وبما أن شعبها هو القدوة والمثل، ليس لأنه سبق دوما قياداته وقيادات العرب إلى ميادين الكفاح والفداء، بل لأنه حمل كذلك، بجدارة فريدة في التاريخ، عبء أمة كان عليها هي أن تحمل أعباءه، لو أنها لم ترزح تحت أثقال داخلية وخارجية عطلت دورها وهمشتها، وجعلتها تتفرج بسلبية على واقعها ومصيرها. لقد حمل ‘شعب الجبارين’ الذي لطالما حارب قوى أكبر منه، وواجه عالما أوله على سواحل المتوسط وآخره في أعماق أوروبا وأمريكا، والذي طرد من وطنه وشرد وعذب ومزق ونثر في أربع جهات الأرض، هموم أمته المغيبة، وحول نفسه إلى قوة صد ردت عنها الكثير من التحديات والمخاطر، لإدراكه أن خروجها من غيبوبتها وقيامها بدورها سيسهلان عودته إلى وطنه وسيسهمان في تحريره من الصهاينة.
لذلك، خاض شعب فلسطين، في الداخل كما في الشتات، معركة متشعبة معقدة ومديدة، اعتقد كثيرون أنها تتحدى قدراته، لكنه أذهلهم بالبلاء الحسن، الذي أبلاه فيها، وبقي على هذه الحال، إلى أن وقعت الواقعة وانقسمت منظماته وقياداته، وانتقلت المعركة شيئا فشيئا من معركة بينه وبين أعدائه الصهاينة إلى معركة داخل صفوفه، شقته إلى قسمين متعادلين تقريبا، وضع كل منهما نفسه في مواجهة الآخر، فتقوض ما كان مشتركا بين قواه، وتحول سلاحه من سلاح للتحرير إلى سلاح للانتحار، استهدف أبناءه فضاع معظم منجزاته الوطنية، وفوت الاحتراب عليه فرص الإفادة من مظاهر ضعف بدت جلية على عدوه. بهذا التطور المأساوي، تلاشت قدرتنا جميعا على فهم ما يحدث أو على إيجاد مسوغات له، وأحسسنا باليأس من رفض الأطرف الفلسطينية المتصارعة فعل ما يعيد شعبها إلى موقعه الحقيقي كرافعة للحرية، بعد أن حوله الانقسام إلى ضحية إضافية للخراب العربي السائد.
هذا الانقسام هو مشكلة فلسطين، التي أصابت منها مقتلا، فهو انقسام مرضي لن يفضي إلى نتائج إيجابية، ولن يخدم الشعب أو أي طرف من الأطراف الإسلامية والوطنية. إنه انقسام عبثي قاتل، نتيجته الوحيدة المؤكدة ضياع القضية وخسارة ما قدم على مذبحها من تضحيات غالية، طيلة عقود بدا خلالها أن فلسطين تخطت الأخطار والتحديات التي تحول بينها وبين مقاصدها الوطنية الشرعية. وهو الانقسام الذي يعبر عن مشكلات كثيرة، كاستحالة تعايش استراتيجيتين متناقضتين في حركة تحرر وطني واحدة، وكحتمية أن تقود خلافات الاستراتيجيات إلى اقتتال سياسي وأهلي. كما يعبر عن مآزق الأطراف والمنظمات المنخرطة فيه، وعن حجم الهوة التي تفصلها عن شعب ما انفك يطالبها بالوحدة، لأن العدو هو الجهة الوحيدة المستفيدة من صراعاتها. وليس من المبالغة القول أن تفاقم الانقسام المتزايد جعله أكثر فأكثر معضلة لا حل لها، وجعل كلا من طرفيه – ‘فتح’ و’حماس’- يتمسك بوجهات نظره وآرائه الانقسامية، وجعله يصر على أنه يجسد وحده الوطنية الصافية، بينما الآخر عدو يخدم الصهاينة. زد على ذلك إن الممارسات اليومية التي يتبناها الطرفان تنتمي إلى عالم الحرب أكثر مما تنتمي إلى عالم السياسة، وتستهدف القضاء على الآخر أكثر مما تسعى إلى التفاهم معه أو مصالحته، والمخيف أن التنكيل بالآخر يتم باسم الحفاظ على القضية المقدسة والمصلحة الوطنية، حتى ليمكن الظن بأن الخلاف والانقسام هما بحد ذاتهما هدف الطرفين الحقيقي، وأن ما عداهما مجرد ديكور يبرر مواقفهما أو يسوقها.
تجسد هذه العقلية الانقسامية رؤية قديمة لطالما وجهت السياسات العربية؛ ترى العصمة في الذات والخيانة في الآخر، وترفض إمكانية وجود أكثر من قراءة للواقع، وتأبى التعامل مع الحقيقة بوصفها حمالة أوجه، يمكن أن تتنوع قراءاتها بتنوع قرائها، بما أن لها جوانب وأوجها مختلفة، تجعل كل واحد منهم على صواب فيما يراه، دون أن يكون غيره على خطأ بالضرورة. والحق، إن ادعاء العصمة للذات يدفع بأصحابه إلى نمط أيديولوجي من الصراع السياسي يغتال العقل الوطني، أو يفقره ويشحنه بنزعة عصبوية عدوانية تحول إلى الآخر من شريك إلى عدو، ومن طرف تجب محاورته واللقاء معه في منتصف الطريق إلى جهة من المحتم التخلص منها. لو كانت القيادات الفلسطينية المختلفة تعتقد أن الحقيقة حمالة أوجه وليست حكرا على الذات، لسارعت إلى البحث عن قواسم مشتركة، ولاعتبرت الحوار – لا العنف – سبيلها إلى كسب الآخر، ولرأت في تحييده أو القضاء عليها ضررا جسيما يصيب المصالح الوطنية الفلسطينية العليا، التي يمكن أن ترتبط به أيضا، فلا مفر إذن من التفاهم معه، للوصول إلى رؤى وطرائق متقاربة أو موحدة في العمل الوطني، على أن يبقى لكل طرف حق العمل من أجل القضايا التي ينفرد بها، دون أن يجعل منها قضايا خلاف، بل باعتبارها مواقف خاصة به، يحرص أن لا يؤثر انفراده بها على العمل العام.
لو اعتمدت هذه الطريقة، لكان التنوع التنظيمي عاملا يغني النضال الوطني الفلسطيني، ولما لحق هذا القدر من الأذى الجسيم بالقضية الوطنية، ولتعايش المختلفون بسلام، ولوجدوا أن ما يجمع أكثر مما يفرق، ولكان العدو في مأزق خطير، والشعب الفلسطيني في موقف نضالي ملائم.
متى يدرك الإخوة في الضفة وغزة هذه الحقائق، ويقلعون عن نهج الإقصاء والاستبعاد بالعنف، ويأخذون بنهج المشتركات والتوافق، الذي ليس نهجا عادلا وناجعا فقط، بل هو قبل كل شيء نهج إنقاذي، ليس فقط لهم، بل كذلك لغيرهم من العرب؟

‘ كاتب من سورية
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى