خطاب المأزق والعدوان
ميشيل كيلو
يعبر خطاب نتنياهو عن مسألتين لطالما تلازمتا في العقل الصهيوني/ “الإسرائيلي” هما: الخوف على المصير، وقد كان دوماً على لسان مسؤولي الكيان الصهيوني وأخذ شكل انعدام ثقة بالمستقبل، بقدرة “إسرائيل” على البقاء. والاندفاع المتكرر نحو حل مشكلاتها مع شعب فلسطين والبلدان العربية بالعنف، مع أنه لم ينجح في حل معضلات الصهاينة الوجودية.
ومع أن ما رآه المراقبون في خطاب نتنياهو من تحد لأوباما وتعطيل لفرص السلام صحيح في جوهره، فإنه لا يلخص وحده مضمون الخطاب، الذي قدم مطلباً يدل على مزج الخوف من المستقبل بالجنوح إلى العنف، هو الاعتراف الفلسطيني بيهودية دولة “إسرائيل”، مع ما يحمله من روح كوميدية من جهة، وخطورة على الوجود العربي في فلسطين المحتلة، وعلى حل مشكلة اللاجئين وفقاً لقرارات الأمم المتحدة، التي قالت بحقهم في العودة إلى ديارهم، من جهة أخرى. قلت إن هذا المطلب يضمر روحاً كوميدية، لأنه ندر في التاريخ أن قدمت دولة تثق بوجودها ومستقبلها مطلباً مماثلاً لأعدائها، فالدول تحدد هويتها بنفسها وترفض أن تحددها دول أخرى؛ وحتى عندما تطالب بحق تقرير المصير، فإنها تفعل ذلك كي تحول دون تدخل الآخرين فيه، وليس كي تربطه بموافقتهم. ومع أنه يصح القول: إن نتنياهو يريد الاعتراف بهوية “إسرائيل” اليهودية، لرغبته في إحباط التسوية السلمية ومنع قيام دولة حرة وسيدة ومستقلة في فلسطين، فإن مطالبته تلقي، من جانب خفي، أضواء على رؤيته لمصير المشروع الصهيوني، الذي أريد له أن يمتد من الفرات إلى النيل، وبعد ستين عاماً على قيام لبنته الأولى، “إسرائيل”، أخذ قادته يعلنون موته (أولمرت وبيريز) أو يطالبون الفلسطينيين بالاعتراف بهويته اليهودية، (نتنياهو)، كأن مصيره صار رهناً باعتراف كهذا، بعد أن كان مؤسسوه يتبجحون بأنهم لا يسعون إلى اعتراف فلسطين بهم، لسبب بسيط هو أن شعبها غير موجود أصلاً.
من غير الجائز تجاهل هذا الجانب من خطاب نتنياهو، الذي وصل إلى الحكم في ظرف أزمة جسدها فشل العسكرية “الإسرائيلية” في القضاء على حزب الله وحماس، وتسليمها بأن طريقتها التقليدية في إنزال الهزائم بالعرب لم تعد فعالة، وأنها تعمل على إعادة تعريف دورها، في زمن تنتفي فيه أكثر فأكثر قدرتها على شن حروب خاطفة وصاعقة، تفرض إرادتها على الطرف الفلسطيني، الذي يقاتلها منذ نيف وقرن، ونجح، رغم كونه الطرف الأضعف، في منعها من تغييبه والحيلولة دون حصوله على اعتراف عالمي بهويته الوطنية، وبحقه في إقامة دولة خاصة به على أرضه. الخطير في هذه الأزمة أنها تهدد – لأول مرة – موقع “إسرائيل” المميز في استراتيجية أمريكا، التي انخرطت بدورها في حال تأزم في ظل إدارة بوش وما عرفته سياساته من تعثر وفشل، الأمر الذي أجبر أمريكا على التراجع عن بعض جوانب سياستها التقليدية تجاه فلسطين، ودفعها إلى القول بحل الدولتين، وأحدث ثغرة شرعت تتسع بينها وبين “إسرائيل”، عبرت في العمق عن ضياع جزء من وظيفة تل أبيب التقليدية بالنسبة لأمريكا، التي كانت قد ترتبت على الصراع مع السوفييت والحرب الباردة. وزاد من التباعد الوجود العسكري الأمريكي المباشر في المنطقة العربية، وأزمته في العراق وأفغانستان، وما آل إليه وضع واشنطن الدولي عقب تفجر أزمتها الاقتصادية، التي تغل يديها وتسهم في تقييد نوازعها العدوانية حيال الخارج.
يقول خطاب نتنياهو إنه غارق في مأزق هو فرع من مأزق “إسرائيل”، العاجزة عن تحسين أوضاعها بما لديها من قوة متفوقة، والتي تتراجع قدرتها على التحكم بالأوضاع القائمة وبالتطورات غير الملائمة لها. ويقول إن نتنياهو سينقل “إسرائيل” من العمل داخل الإطار الأمريكي إلى العمل خارجه، بل إنه يفكر بالعمل ضده. ويقول أخيراً، إنه قد لا يجد ما يخرجه من مأزقه غير جر جميع الأطراف إلى مأزق أكبر يبدل أوضاعها، في سياسة متطرفة تعلن أنها لن تقبل دولة فلسطينية سيدة ومستقلة، ولو هدمت الهيكل على رأسه ورأسها!
هذا الاحتمال مرجح تماماً، إن بقي نتنياهو في السلطة، فهل ينهي الفلسطينيون انقساماتهم، ويتخذ العرب تدابير جدية بهدف إفشاله، ما دام إفشاله سيعني تعميق مأزق “إسرائيل” وربما دفعها خطوة أخرى نحو الهاوية؟
الخليج