صفحات ثقافية

باولو كويلو: وتنميطات الاستشراق

null
عبدالله توتي
يعد باولو كويلو من الكتاب الأكثر قراءة في العالم، وتعد روايته ‘الخيميائي’ أفضل أعماله، ترجمت إلى أكثر من اثنين وستين لغة، وتحكي قصة راعي غنم اسمه سانتياغو يتخلى عن عمله ويسافر بحثا عن حلم.
وتقع أحداث الرواية في كل من اسبانيا والمغرب ثم الصحراء فأهرامات مصر حيث يعود منها البطل إلى بلده الأصلي إسبانيا حيث الكنز في انتظاره.
رواية ‘الخيميائي’، رواية تطورت أحداثها في مسار دائري من الغرب في اتجاه الشرق، عكس عقارب الساعة، تتطابق والفلسفة الصوفية خاصة عند ابن عربي حيث العالم مبني على دورة كونية كبرى: ‘ما خلق الذي خلق من الموجودات خلقا خطيا من غير أن يكون فيه ميل إلى الاستدارة أو مستديرا في عالم الأجسام والمعاني’. هذه الدائرة كما يقول فريد الزاهي: ‘تجعل الإنسان بوصفه صورة مطالبا بمعرفة نفسه من حيث هو كذلك، ومن خلال تلك المعرفة يتمكن من معرفة الأصل كمنطلق ومآل. إنه صورة مفكرة تعيش وجودها الخيالي في نمط نشيط فعال لا منفعل فقط. بهذا الشكل تكون دائرية المعرفة تعبيرا عن دائرية الوجود وتأكيدا لها وكشفا لصيرورتها وحركيتها التي من خلالها ينشد الخلق إلى الحق.’ هذه الدائرة التي رسمها كويلو تعبيرا منه عن البحث عن الذات أو ‘أسطورة الشخصية’ كما وردت في الرواية، جعلت الكاتب يقع في شرك الاستشراق دون إدراك بخطورة المسألة وتأثيراتها على الفكرة المحورية المبنية على التحرر ومعرفة الذات والآخر خارج أي قيد ثقافي وبعيدا عن الاجترار وتكرار التجارب السابقة. فالوجود يستمد طاقته من الآخر كما يستمدها من الفكر، غير أن هذا ليس بموضوعنا، بل سنحاول رصد صورة هذا الآخر كما صورها كويلو في روايته، ومن خلالها سنعرف إلى أي حد استطاع الكاتب أن يتحرر فكريا، وأن يضع نفسه خارج المكان، لا داخله.
جواب نجزم فيه بالنفي، فباولو كويلو لم يستطع التخلص من تابوهات الفكر والأيديولوجية الغربية، رغم زيارته لأغلب البلدان العربية والإسلامية، فهو لم يستطع التخلص من رواسب الفكرة التي كتب عنها، وأغلب الظن أنه أعاد كتابتها، كما استوحاها من كتب الأسفار والرحلة والتاريخ والأدب والسينما ووسائل الإعلام. وإذا ما بحثنا عن الآخر في رواية ‘الخيميائي’ فإن أول شيء يلفت أنظارنا هو كليشيه الغجر الذي لم يتغير منذ القرن السابع عشر، حتى أن ثرفانتس في أحد رواياته النمودجية الإثنتي عشرة (Las Novelas Ejemplare ) انتقد تلك الرؤية إلى الغجر متحديا طابوهات المجتمع مدافعا عن حرية الفرد فكتب روايته الغجرية الصغيرة (La Gitanilla ) وبدأها بالمطلع الآتي: ‘يبدو أن الغجر يولدون فقط لكي يصبحوا لصوصا: ينحدرون من آباء لصوص، ويكبرون مع اللصوص، ويدرسون اللصوصية وفي النهاية يصبحون لصوصا.’
هذه الصورة هي نفسها حاليا، في المجتمع الاسباني، لم يتغير منها شيء، وقد اقتبسها كويلو كما هي وأعاد تركيبها في روايته ‘الخيميائي’ في صورة غجرية، نصابة ذكية تعرف جل أنواع الخداع في الكسب:
‘عد إلى حلمك، فلدي قدر على النار. ومن جهة أخرى، أنت لا تملك الكثير من المال، فلا تأخذ وقتي كله’ ..’لن أطلب منك أجرا الآن، لكن أريد عشر الكنز إذا ما عثرت عليه’ (ص 25 و26) .. ‘أذكياء هم الغجر! ربما لأنهم كثيرو الترحال’.(ص 215).
إن اختيار كويلو للغجرية هنا لم يكن عشوائيا، بل هنالك معرفة مسبقة عن الغجر جعلت الكاتب يقود بطل روايته إلى عجوز غجرية أسندها دور عرافة ومحتالة تماما كصورة الغجر كما هي في كتب الآداب أو السينما… أفلم يكن بمقدور الكاتب أن يجعل سانتياغو يلتقي بالمسن المرشد بدل الذهاب إلى عجوز غجرية؟
بلى، لكن لإضفاء سمة التشويق على النص، كان لا بد للكاتب أن يسلك الطريق نفسه الذي سلكه كل من سبقوه، ليحاول اللعب ‘بورق العادة’ حتى يبتعد عن دائرة الغرابة أو الغرائبي، هذا ليكون عمله كما أراده، وسيلة للإرشاد وتعليم بساطة الحياة، ونصا تقليديا مشوقا ليس فيه من جديد، ولا يغدو أن يكون إبداعا من مفهوم التعدد والاختلاف بقدر ما هو نص يفتقر إلى فكر حر. يقول ادوارد سعيد في الموضوع: ‘… ثمة إذن جدلية معقدة للتعزيز والامتداد تتحدد بموجبها تجارب القراء، في الواقع، بما كانوا قرؤوه من كتب، ثم يؤثر هذا، بدوره، على المؤلفين دافعا إياهم إلى تناول موضوعات محددة سلفا بتجارب القراء’.( سعيد، 1978: 118).
من هنا يتضح لنا أن الكاتب لم يختلق السرقة في كل من المغرب وأهرامات مصر عبثا، بل ثمة معرفة مسبقة حثته على اختلاق الفكرة في تلك الأماكن بالذات، فأصبح المغربي والمصري لصوصا. أو ليست هي الفكرة نفسها التي تروج حولنا؟
يقول السارد عن سانتياغو: ‘كان الفتى لا يفارق بعينيه صديقه الجديد. هو لا ينسى أن كل ما لديه من مال غدا بين يدي هذا الأخير. فكر مليا في أن يستعيده منه، ولكن كان يقول في داخله، أن ذلك سيجعل منه شخصا عديم اللياقة، خاصة وأنه لا يعرف عادات هذه الأراضي الغريبة والتي يطأ الآن تربتها'(ص55). هذه الفكرة تتناقض وقول السارد مسبقا: ‘…شعر الفتى بمزيد من الاطمئنان’ (ص53)، ففي الجملة السابقة تتضح من خلالها علامات عدم الارتياح، وسانتياغو كما توضح ذلك جملة السارد، كان حدسه ينبئه بوقوع شيء غير مريح، هذا الشيء غير المريح لم يكن نابعا من نفس البطل بل هو صورة عن الفكرة التي كانت تستحوذ على فكر الكاتب، فالكاتب كان لا بد له من حدث غير عادي يؤثر في مجرى الأحداث وبطريقة غير مباشرة في القارئ، وكان كويلو مسبقا يعي جيدا أن هذا الحدث وهذه الفكرة لا بد وأن تكون سرقة. لذلك، وفيما بعد يرثي الكاتب (السارد) بطل قصته قائلا: ‘مخجل أن يبكي. لم يبك أبدا أمام خرافه. لكن ساحة السوق كانت خالية، وكان هو بعيدا عن وطنه. فبكى. بكى لأن الرب لم يكن عادلا ولأنه يجازي، بهذه الطريقة، الناس الذين يؤمنون بأحلامهم الخاصة.'(ص57).
أما في الفضاء المصري فقد كان الكاتب قد وصل إلى المرحلة الأخيرة من الدورة الوجودية التي بني عليها المسار السردي للقصة، وكان الكاتب بحاجة إلى تغيير مسار السرد من جديد للعودة إلى نقطة البداية، لتكتمل بذلك الدائرة. لكن هذه المرة أضاف مسألة الضرب والتعذيب إلى السرقة، حتى يتيح لنفسه إمكانية فك العقدة، واستعمال المفتاح، الذي هو بمثابة قفل في نفس الآن، لفتح به الحلقة المفرغة من الدائرة وبه انحل اللغز: ‘ لن تموت، سوف تعيش، وتتعلم أننا لا يجب أن نكون أغبياء إلى هذا الحد. هنا، وفي هذا المكان بالتحديد، حيث أنت، مرت على ذلك الآن سنتان، كنت قد رأيت حلما تكرر… كان قد وجد الكنز’.(ص 210 و211).
أما السمات الأخرى للاستشراق في رواية هذا الكاتب البرازيلي، فتتجسد في عدة مقاطع جسد فيها تفوق الإنسان الأوروبي وذكاءه على الإنسان العربي، فنلاحظ ، راعي غنم، يتألق في التجارة، كيف لا وهو الذي رد الاعتبار والحيوية إلى متجر تاجر البلوريات! كما رأى ما تخبئه الأيام من مفاجآت وأنقذ الواحة من بطش الطغاة.
يقول ادوارد سعيد في هذا الصدد: ‘في الأفلام والتلفاز يرتبط العربي اما بالفسق أو بالغدر والخديعة المتعطشة للدم. ويظهر منحلا، ذا طاقة جنسية مفرطة، قديرا، دون شك، على المكيدة البارعة المراوغة لكنه، جوهريا، سادي، خؤون، منحط، تاجر رقيق، راكب جمال، صراف، وغد متعدد الضلال… وكثيرا ما يرى العربي القائد للصوص المغيرين، والقراصنة، والعصاة من السكان الأصليين وفي أشرطة الأخبار المصورة، يظهر العرب دائما بأعداد ضخمة. لا فردية، لا خصائص أو تجارب شخصية. وتمثل معظم الصور الهيجان والبؤس الجماعيين، أو الإشارات والحركات اللاعقلانية وإشادة حتى اليأس، بالتالي. وخلف هذه الصور جميعا يتربص خطر الجهاد المهدد والعاقبة: الخوف من المسلمين (أو العرب) سوف يحتلون العالم.’ (سعيد، 1978: 287).
كل هذه الأمور، إلى جانب الاستشراق الجنسي الذي لم يغب عن الرواية، والذي يمكن استحصاله من خلال اللاشعور، ومن خلال تطبيق منهج التحليل النفسي على النص، لنجد جملا لا تتجاوز أن تكون تعبيرا عن الحب في مفهومه الجنسي، وليس الحب في مفهومه الروحي السامي، ويتضح ذلك في علاقة سانتياغو بفاطمة:
…’ وعندما يلتقي ذانك الشخصان، وتتقاطع نظراتهما، كل الماضي وكل المستقبل يغدوان بعد ذلك بدون أدنى أهمية، اللحظة الحاضرة هذه هي وحدها الكائنة، هذا اليقين العجيب بان كل شيء تحت قبة السماء كان قد كتب بنفس اليد. اليد التي تعمل على خلق الحب، والتي أنشأت روحا توأماً لكل كائن يعمل'(ص126و127).
‘حدثني عن الملك المسن، عن الكنز. وحدثني عن الإشارات. لذا فأنا لا أهاب شيئا، لأن تلك الإشارات هي التي قادتك إلي. فأنا جزء من حلمك، من أسطورتك الشخصية، كما تقول ذلك مرارا. لهذا السبب ذاته، أريدك أن تواصل طريقك في اتجاه ما جئت تبحث عنه. وإذا كان ينبغي لك انتظار نهاية الحرب، فذاك أمر حسن’.( ص131).
في هذين المقطعين يتضح ما أشرنا إليه سابقا، ففاطمة لا تكاد تكون أكثر من نقطة عبور ليس إلا، لحظة يعيشها البطل بكل جوارحه، ثم يمضي مقفلا في اتجاه حلمه، دون أدنى إحساس بالفراق أو الحنين. هكذا الجنس؛ فلا يغدو أن يكون أكثر من لحظة عابرة يعيشها الإنسان، يشبع فيها نزوة عابرة، ثم يمضي خفيفا صافي الذهن.
هذه هي صورة فاطمة، صورة عن المرأة العربية، التي تبدي رضاءها دائما، واكتفاءها ‘بالمكتوب’.. لا ضرر ولا ضرار! العربي دائما راض وغبي وراغب والأوروبي يستفيد!.
على سبيل الختام:
من كل هذا يتضح إذن، أن ‘الخيميائي’ لم يكن أكثر من عمل جمع فيه الكاتب كل الكليشهات المعروفة عن الشرق، ولم تكن لكويلو أدنى معرفة عن الآخر، بل صور الأشياء كما وصفت له؛ حتى وإن زار الشرق فإنه لم يأخذ أدنى فكرة عن الآخر. كيف لا وهو الذي تحدث في روايته عن الأذان والسجود الفوري؛ شيء لا وجود له في الثقافة الإسلامية كما أنه تحدث عن سوق يومي تنصب فيه الخيام، في طنجة المغربية، فما عسى المغربي يقول وهو العارف بأسواق الخيام، تلك الأسواق الأسبوعية لا اليومية!
إننا إذا ما تأملنا في القصة، وجدنا الكنز في الغرب (إسبانيا) لا في الشرق (الرحلة) كما تقول القراءة السائدة، وما الرحلة إلا درس تأكد من خلاله لسانتياغو أن لا شيء في الشرق، سوى الجواري الراغبات الراضيات ، واللصوص والغباء.. ويبقى الغرب دائما المكان اللائق الطاهر والنظيف للجواهر وأنفس ما على الأرض من كنوز.
هوامش:
ـ فريد الزاهي، ابن عربي: الصورة والآخر، من خلال الرابط: http://www.jehat.com/Jehaat/ar/SeeratAlthoua/fareed.htm.
ـ باولو كويلو، ‘الخيميائي’، ترجمة عبد الحميد الغرباوي، طبعة برينتنار(برشلونة) 2005.
ـ ادوارد سعيد، الاستشراق، ترجمة كمال ابو ديب، مؤسسة الابحاث العربية، الطبعة السادسة 2003 بيروت لبنان.

‘ كاتب ومترجم من المغرب
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى