بيت بمنازل كثيرة: المثقف والوحل
مازن معروف
يقول المفكر الايطالي غرامشي، إنه يمكن اعتبار الناس جميعهم، مثقفين. كلٌّ ضمن اختصاصه، إلا أن لا أحد منهم يلعب دور المثقف، باستثناء المثقف المعرفي. وهو المثقف الذي لا ينحاز الى سلطة سياسية، ولا يلعب دور المروّج لأفكار جاهزة، خدمة لقومية ما أو هوية جغرافية، بقدر ما يكون دوره أرحب إنسانيا بحيث يتعذر على أي جهاز سلطوي استيعابه أو امتصاصه. وعلى ما يورده المفكر الراحل إدوارد سعيد في كتابه “صور المثقف”، فإن المثقف هو الشخص الذي لا ينزلق في وحل اللغة الجاهزة والمصنوعة وفقا لخدمة حكومة، أو جمعية أو جهة قومية. بل هو من يؤسس للغة مغايرة، تناور وتستفز الشعوب والحكومات على السواء، بأن تضع جهارا، اللمبات الصغيرة في جسد الواقع المعتم. المثقف ههنا يشبه عاملاً يحمل مرايا، ويقدم اليك فرصة تتيح لك رؤية وجهك، بكل تقسيماته وتشوهاته، عارفا أنك ستغضب، أو تصرخ أو تستنكر أو ترفض، لكن في الوقت ذاته، لا يكون في مقدور الذات تحطيم هذه المرايا، أو محوها.
عندما أقرأ الحرب، أرى أنها لعنة لا تزال تلاحق من اشتغلوا بها. أيا يكن هؤلاء، وعلى اختلاف جنسياتهم. فالحرب بعد انتهائها بالمعنى الفيزيولوجي الميكانيكي، أعيد فرز كل أربابها، كلٌّ بحسب موقعه. فمن كان فلسطينيا، وضع على طاولة مفاوضات واحدة مع عدوّه الاسرائيلي، ومن كان لبنانيا، أعيد إلى موقعه الأولي، أي قبل بدء الحرب تحديدا. إلا أن هذه الحرب، وعلى الرغم من غنى النماذج (بالمعنى الدلالي على اختلاف المشاريع السياسية) البشرية والخطب الإلغائية التي نشطت في جسدها، لم تقدم الى المكتبة العربية أي رؤية نقدية، من شأنها الاستدلال على الخطأ وتصويب عين القارئ، تحديداً القارئ ذا الهوية اللبنانية أو الفلسطينية. هذا الأمر مرده إلى غياب تام أو شبه تام، لدور المثقف غير المنحاز، أو المثقف الذي يتعاطى مع التاريخ على أنه معلم أكبر لا يمكن التهاون معه، وهو أشبه بحمولة ثقيلة، لا يمكن تركها في الظلمة، بحجة أن كل محسوس متوار، أو غير مضاء، يظل أكثر أمنا بالنسبة الينا، مقارنةً بوضعه تحت الشمس والتأمل في ملامحه.
نحن كلنا نحمل وزر هذه الحرب، وهذا ليس لأنه كان لنا مشاركة فيها أو موافقة على سِيَرِها، فأنا كالكثيرين من أبناء هذا الجيل، لم يكن لنا ولا لأهلنا، لا ناقة ولا جمل، وربما لو سألنا المتقاتلون يومذاك، وقد كنا أطفالا، لقلنا ربما، أعطونا كمشة كلل لنلعب في تلك البؤرة معا بدلاً من أن تستخدموها أنتم لتحصين خندق أو بناء متراس. أتمنى ألا أنزلق إلى مطرح شعري هنا، ذلك لأن الشعر لا بد أن يلعب دورا تجميليا، على الأقل بإحالة المشهد الثقيل على ذلك المطرح من الذاكرة حيث تنشط الاستعارات.
تفتقر حياتنا اليومية إلى المثقف الذي ينصرف إلى صوغ الأفكار الجديدة، بدل اشتغاله، كمندوب مبيعات لا تتغير أساليبه بالاقناع قياسا بما تبدو عليه بضاعته القابلة للتغير. في كل الاحوال، لا تبدو المهمة سهلة، في خضم التكاثر الهائل لطرق التواصل التكنولوجي، والعجقة التي تعوق فرصة انعزال فرد من أجل التشبث بخيوط قراءة موضوعية، للعمل لاحقا على رؤية معاكسة، تصطدم لا لتصدم، وإنما لتولّد حسا لدى الكثيرين بإمكان الاستقلالية عن روح الطائفة أو المذهب أو الهوية – الهوة، أو الجماعة أو الحزب أو السلطة، من دون أن يمس هذا باحترام القوانين المدنية، بل هو على العكس، يساهم في تعزيزها في المجتمعات التعددية كلبنان، أو في مجتمعات لا تزال تسعى نحو إيقاظ واقع مغاير، كما يحدث في أراضي السلطة الفلسطينية.
إن ما نعانيه جميعا، كمشتغلي معرفة، أو كساعين للوصول إلى هذا الموقع، هو وعورة الطريق التي ينبغي اتباعها، لبلوغ حالة الانحياز المطلق الى الإنسان، على اختلاف قوميته أو هويته أو إثنيته أو معتقده أو خلفيته الثقافية والتربوية أو الفكرية. الطريق وعرة لأسباب عديدة، منها أن هذا المثقف، تهيئ له خلفيته المعرفية، نوعا من تبصر مبكر تجاه محيطه، وأحيانا يكون هذا تبصرا كاذبا وغير حقيقي. إلا أنه يأتي دائمل بفعل اعتياد المثقف ربط الأسباب المحتملة بنتائج تبدو بالنسبة إليه حتمية وتشكل له أشبه بسلسلة من مخاوف لا تلبث أن تبتلعه بدل أن يقوم هو بتذليلها وتبسيطها والعمل في اتجاه مغاير لها. هذا بالاضافة إلى التأثير الناجم عن كون المجتمع قد تحوّل شبكة من علاقات مبنية من أجل غاية واحدة هي تعزيز الفردانية، باستخدام الجماعة كطريق أو كحماية.
من هنا تتشكل دائرتا خطر بالنسبة الى المثقف، الاولى هي الأضيق ويمتثل فيها ما يراه من عوامل تهدد انتماءه الطائفي أو الديني أو القومي أو المحلي. أما الدائرة الثانية، وهي الكبرى، والأبعد قليلا من الأولى، فتستلزم رؤيتها القفز فوق مستوى المصلحة الذاتية، لرصد ما يتهدد المجتمع بكل فئاته، كي لا نقول الوطن. إلا أن هذا الأمر يستلزم من المثقف إيجاد لغة مشتركة تخاطب الجميع، وهي لغة يمكن أن تكون بعيدة عن السياسية المباشرة، أو العمومية، لتدخل مثلا في حالة الإقتصاد المتردي، أو في خصوصية ما، كواقع تشابه الصعوبات التي تحيط بأفراد مختلفي الانتماء الديني أو الفكري، أو الثقافي، إلا انهم يجتمعون تحت مظلة الانتماء الجغرافي الواحد، الذي هو جزء ضئيل من مجتمع انساني عام، لا مناص من التماهي معه في مرحلة من المراحل.