الله والحـرية
د. حازم خيري
“لم أستطع إنهاء حرب الفانديه La Vendeeـ منطقة ريفية
ومتعصبة للكاثوليكية، جنوب غرب فرنسا، كانت مؤيدة للملكية
ومعادية للثورة الفرنسية ـ إلا بعد أن تظاهرت بأني كاثوليكي
حقيقي. ولم أستطع الاستقرار فى مصر إلا بعد أن تظاهرت بأني
مسلم تقي. وعندما تظاهرت بأني بابوي مُتطرف استطعت أن
أكسب ثقة الكهنة فى إيطاليا. ولو أنه أُتيح لي أن أحكم شعباً
من اليهود لأعدت من جديد هيكل سليمان..!”
نابليون
يُقيم السرد الديني (التوراتي/الإنجيلي/القرآني)، ومن قبله السرد الأسطوري البدائي(1)، لحادثة طرد الإنسان من الفردوس، توحيداً بين بداية التاريخ الإنساني وفعل الاختيار، أما القراءة البشرية لهذا السرد، خاصة السرد الديني، فتضع كل التأكيد على خطيئة فعل الاختيار، الفعل الأول للحرية، والمعاناة المترتبة عليه!
عاش آدم وحواء فى جنة عدن فى تناغم تام مع بعضهما ومع الطبيعة..كان هناك سلام، ولم تكن هناك ضرورة للعمل، لم يكن هناك اختيار، لم تكن هناك حرية، لم يكن هناك تفكير بالتالي! حُرم على الإنسان أن يأكل من شجرة معرفة الخير والشر، إلا أنه تصرف ضد أمر الرب، فحطم حالة التناغم مع الطبيعة..
وبحسب القراءة البشرية للسرد الديني لحادثة السقوط، لم تلبث المعاناة الناجمة عن الفعل الأول للحرية أن جاءت! وجد الإنسان نفسه عارياً خجلاناً..انه وحيد وحر، ومع هذا عاجز وخائف! حريته المكتسبة الجديدة تبدو كلعنة، انه حر من القيد الحلو للفردوس، لكنه ليس حراً لكي يتحكم فى نفسه ويحقق فرديته..
على هذا النحو، تكتفى القراءة البشرية الرائجة بالتأكيد على خطيئة إرتكاب آدم وحواء لفعل الاختيار والمعاناة المترتبة عليه، وتتجاهل مسألة أخرى، أراها من الأهمية بمكان، وهى أن إرتكاب آدم وحواء لفعل الاختيار، إنما يُؤرخ للحظة فاصلة فى الوجود الإنسانى، وهى لحظة استخدام الانسان العقل لأول مرة!..
ولمن يتساءل: كيف يستقيم الحديث عن المعاناة التى لم يلبث أن جلبها ارتكاب آدم وحواء لفعل الاختيار، الفعل الأول للحرية، مع الحديث عن تأريخ الفعل نفسه، للحظة فاصلة فى الوجود الإنسانى، وهى لحظة استخدام الإنسان لعقله لأول مرة؟! أجيب ببساطة: إن عملية نمو الحرية الإنسانية لها طابع جدلي(2)!
فمن جهة، إنها عملية نمو القوة والتكامل، السيادة على الطبيعة، نمو قوة العقل الإنساني وتطوير قدراته النقدية، نمو التضامن مع البشر الآخرين. ولكن من جهة أخرى نجد أن هذا الوعي المتنامي بالنفس كذاتية منفصلة، يعنى تهديد الإنسان بأشكال جديدة من القلق، يعني تنمية العزلة ومن ثم نمو الشك فيما يتعلق بدور الإنسان فى الكون ومعنى حياته والشعور النامي بعجزه ولا معناه كفرد!
قارئي الكريم، لسوف أحاول، فى السطور التالية، أن أفسر دواعي تجاهل القراءة البشرية الرائجة بيننا لحقيقة أن إرتكاب فعل الاختيار، الفعل الاول للحرية، ليس مرتبطاً فقط بجلب المعاناة، وإنما أيضاً يُؤرخ لاستخدام العقل لأول مرة!
الحاصل هو أن تُجار الآلام، فى كل زمان ومكان، يسيئون استغلال الطابع الجدلى لعملية نمو الحرية الانسانية، فنراهم يؤكدون دائماً على المعاناة التى جلبها ارتكاب آدم وحواء لفعل الاختيار، ويتجاهلون تأريخ الفعل نفسه لبداية استخدام الانسان للعقل! يفعلون ذلك لصرف الجماهير عن الانتصار لحرية الفكر، لتظل خاضعة للوصاية الفكرية المُهينة، على نحو ما يحدث فى مجتمعاتنا المتخلفة!
فأشد ما يخشاه تجار الآلام، فى كل زمان ومكان، هو أن تتحرر الجماهير المُغتربة ثقافياً من نير الأوهام والأكاذيب والخرافات، التى يعمل هؤلاء التجار فى صبر ودأب مُدهشين على إلقاءها فى روع الجماهير، لعلمهم أن فى قهر الجماهير لاغترابها الثقافي، وانتصارها لحرية الفكر الانساني، هلاك لتجارتهم القذرة!..
ولتعضيد محاجتى المذكورة تواً، أسوق لقارئي الكريم ما أراه تأكيداً لجبن تجارة الآلام وأصحابها، الذين يُروجون، بدم بارد، لخرافة التأثيم الإلهى لحرية الفكر الانساني، والذين يُحلون “الآخر” ـ وأقصد به فى هذا المقال كل من يحرص على إبقاء الجماهير مغتربة ثقافياً، أى يحرص على إبقاء “الذات” مُستهلكة لثقافة، أى لطريقة حياة شاملة، لا تملك الحق فى نقدها أو تطويرها(3) ـ محل الله:
أولاً: هناك، عند الحيوان، سلسلة لا تنقطع من ردود الأفعال، تبدأ بباعث قبل الجوع، وتنتهي بسير للفعل مُحدد بصرامة بشكل أو بآخر، وهو فعل يُطيح بالتوتر الذى يخلقه الباعث! أما عند الانسان فان تلك السلسلة تنقطع، إن الباعث موجود هناك، ولكن نوع الاشباع “مفتوح”، أى أنه على الانسان أن يختار بين سيرورات مختلفة للفعل. فبدلاً من فعل غريزي محدد من قبل، كما عند الحيوان، على الانسان أن يزن السيرورات الممكنة للفعل فى عقله، انه يبدأ فى التفكير، انه ينتج، يخترع الأدوات! ولكون الانسان، وعلى خلاف الحيوان، يُولد بدون تجهيز للفعل الملائم، فإنه يظل معتمداً على والديه فترة أطول، وتأتى ردود أفعاله على محيطه أقل سرعة وأقل تأثيراً عن الأفعال الغريزية المنتظمة على نحو آلي!
ثانياً: الحياة على الأرض تختلف عن الحياة فى الفردوس، فحين عاش آدم وحواء فى جنة عدن، كانا فى تناغم تام مع بعضهما ومع الطبيعة..كان هناك سلام، ولم تكن هناك ضرورة للعمل، لم يكن هناك اختيار، لم تكن هناك حرية، لم يكن هناك تفكير بالتالي! أما الحياة على الأرض، فتفرض على الانسان ممارسة حرية الفكر، على خلاف ما يُروج له تجار الآلام، فهم يُوهمون ضحاياهم أن حرية الفكر خطيئة، ويعضدون زعمهم الزائف بالمعاناة التى جلبها ارتكاب آدم وحواء لفعل الاختيار! فات تجار الآلام أن النهر للمنبع لا يعود، فاتهم كذلك أنه إذا فُقد الفردوس مرة فإن الانسان لا يستطيع أن يسترده! وأنه ليس له إلا أن يقبل بقانون الحياة، الذى يجعل من حرية الفكر الانسانى فريضة، يُعاقب بالتخلف من يُحجم عن آداءها، لأنه لا يُعقل أن يتعاطى الانسان مع الأرض ببراءة الفردوس! ولا يُعقل أيضاً أن يتخلى العقل الانسانى عن مكاسبه، فالنهر لا يعود لمنبعه..
قارئي الكريم، أما وقد دحضت لك الزعم الزائف بالتأثيم الإلهى لحرية الفكر الانساني، أرانى راغباً فى تبرئة ساحة الجماهير، التى دوماً ما تُتهم من قبل تجار الالآم بعدم الرشادة وعدم الأحقية فى ممارسة حرية الفكر! ولكن، لتسمح لى قارئي الكريم أن أبدأ بدراسة رائدة لجوستاف لوبون عن سيكولوجية الجماهير، أُمهد بعرضها الطريق، قبل أن أدلف لمُحاجتى بأحقية الجماهير فى حرية الفكر!
تصور جوستاف لوبون لسيكولوجية الجماهير:
بعد أن درس وحلل استعدادات الفرد وميوله وغرائزه ودوافعه ومقاصده، حتى فى أعماله وعلاقاته مع أقرانه ونظرائه، وجد علم النفس نفسه أمام مهمة ثقيلة ومُلحة! وجد نفسه مدعواً إلى أن يُقدم تفسيراً للواقعة المُدهشة المتمثلة فى أن الفرد، الذى كان خُيل إلى علم النفس أنه جعله مفهوماً، يطفق فى بعض الشروط بالاحساس والتفكير والعمل على نحو مغاير تماماً لذاك الذى كان يمكن توقعه، وأن هذه الشروط تنشأ عن اندماجه بجمع بشرى اكتسب صفة “جمهور نفسي”!
وزاد من إلحاح الحاجة لإيجاد تفسير علمي، يُعتد به، لظاهرة الجماهير، ظهور الجماهير على سطح المسرح الأوروبي كحقيقة واقعة وضخمة، وتهديدها النظام الاجتماعي فى فترة بعينها! الباحثون والمفكرون، قبل جوستاف لوبون، حاولوا دراسة ظاهرة الجماهير، وتمخضت جهودهم عن ثلاثة أجوبة أساسية:
أولا: الجماهير هى عبارة عن تراكم من الأفراد المتجمعين بشكل مؤقت على هامش المؤسسات وضد المؤسسات القائمة. بمعنى آخر فإن الجماهير مؤلفة من اشخاص هامشيين وشاذين عن المجتمع. وهكذا نجد أن الجمهور يتطابق، بحسب هذه النظرة، مع “الرعاع” و”السوقة” و”الأوباش”. إنهم رجال ونساء بدون عمل محدد ومُستبعدون من ساحة المجتمع الفعلية..
ثانياً: الجماهير مجنونة بطبيعتها! فالجماهير التى تصفق بحماسة شديدة لمطربها المفضل أو لفريق كرة القدم الذى تؤيده تعيش لحظة هلوسة وجنون. والجماهير التى تصطف على جانبي الطريق ساعات وساعات لكي تشهد من بعيد مرور شخصية مشهورة أو زعيم كبير للحظات خاطفة هى مجنونة. والجماهير المهتاجة التى تهجم على شخص لكي تذبحه دون أن تتأكد من أنه هو المذنب هى مجنونة أيضاً، فإذا ما أحبت الجماهير ديناً ما أو رجلاً ما تبعته حتى الموت! وهذه الأعمال المتطرفة التى تقوم بها الجماهير ما هى إلا ضرب من أعمال الجنون التى تغذي المشاعر الغامضة وتكشف عن الجانب المظلم من الطبيعة البشرية..
ثالثاً: يزايد الجواب الثالث على الجوابين السابقين ويمشي خطوة أخرى فى اتجاه التهجم على الجماهير ويقول بأنها مجرمة. فهي بما أنها مؤلفة من “الرعاع والأوغاد”، أى من الرجال الغاضبين والحاقدين فإنها تهجم وتقتل وتسلب كل شيء. إنها تجسد العنف الهائج دون أى سبب أو مبرر واضح. وهى تعصي السلطات القائمة وتخرج على القانون. وفي نهاية القرن التاسع عشر تزايد عدد الجماهير فى أوروبا وراحت أعمالها المباغتة تخيف السلطات. وعندئذ راح المفكرون الفرنسيون والايطاليون يتحدثون عن ظاهرة “الجماهير المجرمة”، أى أولئك المجرمين الجماعيين الذين يهددون أمن الدولة وطمأنينة المواطنين وسلامتهم. وهكذا أصبحت الدراسة العلمية للجماهير تمر من خلال “علم القانون الجرائمي”. وكان الايطالي سيجهيل أول من بلور هذه النظرية، وأول من خلع معنى اصطلاحياً على مفهوم “الجماهير المجرمة”. فهى تضم بحسب رأيه كل الحركات الاجتماعية والمجموعات السياسية من الفوضويين إلى الاشتراكيين. كما تضم العمال وهم فى حالة الاضراب عن العمل، أو التجمعات فى الشوارع..
وبمجيء جوستاف لوبون (1841ـ1931)، رُفضت هذه الأجوبة كلها، واقتُرح خطاً جديداً لتفسير ظاهرة الجماهير، وللرد على سؤال: ما هو الجمهور؟
الميزة الأساسية للجمهور، بحسب لوبون، هى انصهار أفراده فى روح واحدة وعاطفة مشتركة تقضي على التمايزات الشخصية وتخفض من مستوى الملكات العقلية. ولوبون يشبه ذلك بالمُركب الكيماوى الناتج عن صهر عدة عناصر مختلفة. فهى تذوب وتفقد خصائصها الأولى نتيجة التفاعل ومن أجل تركيب المُركب الجديد! وهذا التشبيه دليل على مدى علمية لوبون، فقد كان غاطساً فى مناخ القرن التاسع عشر. وهذا القرن الوضعي المؤمن إيماناً مطلقاً بالعلم كان يُخضع العلوم الانسانية للعلوم الدقيقة. ففي الجمهور يتبع كل شخص شبيهه المجاور له. والحشد الكبير يجرف الفرد معه مثلما يجرف السيل الحجارة المفردة التى تعترض طريقه. وذلك أياً تكن الطبقة الاجتماعية التى ينتمي إليها، عالية أم منخفضة، وأياً تكن ثقافته! فهذا لا يغير فى حقيقة الأمر شيئاً..
نهض لوبون بشدة ضد آراء الباحثين القائلين بأن الجماهير مجرمة بطبيعتها. وقال بأنها ليست مجرمة وليست فاضلة سلفاً. وإنما هى قد تكون مجرمة ومدمرة أحياناً، وقد تكون أحياناً اخرى كريمة وبطلة تضحى بدون مصلحة. وأحياناً تكون هذا وذاك فى نفس الوقت. وبالتالي فالفكرة الشائعة عن الجماهير بأنها فقط مدمرة وتحب السلب والشغب من أجل الشغب هى فكرة خاطئة..
اعتبر لوبون أن المتغيرات التى تطرأ على الفرد المنخرط فى الجمهور مشابهة تماماً لتلك التى يتعرض لها الانسان أثناء التنويم المغناطيسي. وقد استعار لوبون هذا التشبيه من علم الطب، والطب النفسي على وجه الخصوص. وكان التنويم المغناطيسي قد دخل ساحة العلاج بكل قوة على يد الطبيب شاركو وآخرين. ومارس التنويم المغناطيسي آنذاك سحراً كبيراً على النفوس، ولم نعد نستطيع، نحن المعاصرين، فهم مثل هذا التأثير الكبير بعد أن دالت دولته..!
نظرية لوبون حول نفسية الجماهير، وكما نرى، تحاول أن تنقل إلى علم نفس الجماهير وسائل العلوم التجريبية الدقيقة وأدواتها. وهذا الافتتان بالعلوم الدقيقة كان الصفة المشتركة للمرحلة الوضعية بأسرها كما أسلفنا. ويمكن أن نلاحظ ذلك على مدار كتاب لوبون “سيكولوجية الجماهير”، ومن خلال الأمثلة التى يضربها. فهو يرى أنه كلما اجتمع عدد متفاوت الكبر من الكائنات الحية، سواء أكانوا قطيعاً من الحيوان أم جمعاً بشرياً، بادروا من فورهم وبصورة غريزية إلى وضع أنفسهم تحت سلطة قائد! فالجمهور قطيع طيع، لايستطيع حياة بلا سيد! وظمؤه إلى الطاعة شديد، حتى إنه ليخصع غريزياً لمن ينصب نفسه زعيماً عليه!
وبحسب الأستاذ هاشم صالح، مُترجم كتاب “سيكولوجية الجماهير”، يترتب على اكتشافات نظرية لوبون الرائدة حول نفسية الجماهير، المباديء التالية(4):
1ـ إن “الجمهور النفسي” يختلف عن التجمع العادي أو العفوي للبشر فى ساحة عامة مثلاً، أو على موقف باص. فالجمهور النفسي يمتلك وحدة ذهنية على عكس هذه التجمعات غير المقصودة.
2ـ الفرد يتحرك بشكل واع ومقصود، أما الجمهور فيتحرك بشكل لاواع. ذلك أن الوعي فردي تحديداً، أما اللاوعي فهو جماعي.
3ـ الجماهير محافظة بطبيعتها على الرغم من تظاهراتها الثورية. فهى تُعيد فى نهاية المطاف ما كانت قد قلبته أو دمرته. ذلك أن الماضي أقوى لديها من الحاضر بكثير، تماماً كأي شخص مُنوم مغناطيسياً.
4ـ إن الجماهير، أياً تكن ثقافتها أو عقيدتها أو مكانتها الإجتماعية، بحاجة لأن تخضع لقيادة مُحرك. وهو لا يقنعها بالمحاجات العقلانية والمنطقية، وإنما يفرض نفسه عليها بواسطة القوة. كما أنه يجذبها ويسحرها بواسطة هيبته الشخصية تماماً كما يفعل الطبيب الذى يُنوم المريض مغناطيسياً.
5ـ إن الدعاية ذات أساس لاعقلاني يتمثل بالعقائد الايمانية الجماعية. ولها أداة للعمل تتمثل بالتحريض من قريب أو بعيد (أى بالعدوى). ومعظم أعمالنا ناتجة عن العقائد الإيمانية. أما التفكير النقدي وانعدام المشاعر اللاهبة فيشكلان عقبتين فى وجه الإنخراط والممارسة. ويمكن تجاوزهما عن طريق التحريض والدعاية. ولهذا السبب ينبغي أن تستخدم الدعاية لغة الصور الموحية والمجازية، أو لغة الشعارات البسيطة والقاطعة التى تفرض نفسها فرضاً دون مناقشة.
مباديء علم نفس الجماهير هذه هى لجوستاف لوبون بنفس حتمية قوانين علم الاقتصاد أو الفيزياء! يعرف من يستوعبها كيف يحكم الجماهير ويقود مخيلتها! فعلى هذه المخيلة، بحسب لوبون، تم تأثير رجالات التاريخ الكبار، وعن طريق هذا التأثير أنجزت الأديان الكبرى والأعمال التاريخية العظيمة كالبوذية والمسيحية والاسلام وحركة لوثر للاصلاح الدينى ثم الثورة الفرنسية لاحقاً! ولم يستطع أحد فى العالم ولا فى التاريخ أن يحكم ضد مخيلة الجماهير هذه، بمن فيهم الطغاة الأكثر استبداداً! فحتى هؤلاء كانوا حريصين على إثارة مخيلة الجماهير وإلهاب حماسها عن طريق خطبهم القوية وأسطورتهم الذاتية ومعاركهم الحامية!
أحقية الجماهير فى حرية الفكر:
ما أشد ما أحُس بالعار، وأنا أجد نفسي مُضطراً للتبشير بحرية الفكر فى مطلع الألفية الثالثة! فجماهير أمتى ـ وياللحسرة ـ تهرب من الحرية، كأنها خطيئة أو جائحة! ظاهرة فى التاريخ الانساني، فريدة وشاذة، شاء تجار الآلام أن تنمو وتزدهر بين ظهرانينا! عقاب بشع، شاءت عبقرية آثمة أن تُوقعه بنا..
قارئي الكريم، حدثتك فى صدر المقال الماثل عن جبن تجارة الآلام وأصحابها، الذين يُروجون، بدم بارد، لخرافة التأثيم الإلهى لحرية الفكر الانساني، والذين يُحلون “الآخر” محل الله! وفى تعريفي لـ “الآخر”، أوضحت أنى أقصد به كل من يحرص على إبقاء الجماهير مغتربة ثقافياً، أى يحرص على إبقاء “الذات” مُستهلكة لثقافة، أى لطريقة حياة شاملة، لا تملك الحق فى نقدها أو تطويرها..
خدعة ساذجة، ولكنها خطيرة ومدمرة! إقناع الجماهير بخرافة التأثيم الإلهى لحرية الفكر الانساني، وإقناعها فى الوقت نفسه بوجوب إحلال “الآخر” محل الله! النتيجة المؤلمة هى إرهاب الجماهير بإستخدام خرافة التأثيم الالهى لحرية الفكر!
أكاد أسمع ضحكات قاريء، وتعجبه من حديثي! إنه يتعجب من تعريفي لـ “الآخر”، ويسخر من حديثي عن ترويج تجار الآلام لخرافة التأثيم الإلهى لحرية الفكر الانساني، ويسخر كذلك من حديثي عن سعي تجار الآلام لاحلال “الآخر” محل الله! ويتخذ من سخريته دليلاً على يقظة وعيه وصعوبة أن يكون ضحية ساذجة على نحو ما ذكرت! ولسوف لا أُبادل قارئي الفطن سخرية بسخرية..!
قلت سلفاً إن عبقرية آثمة شاءت أن تُوقع بنا هذا العقاب البشع! وأرانى قانعاُ أن الآخر العالمي هو من أعد الشرك، وتولى الآخر المحلى دفعنا نحوه!..
بخروج الآخر الغربي/العالمي من عالمنا العربي، بعد استعمار دام لعقود طويلة، بدا منطقياً أن تأخذ ربوعنا الطيبة طريقها الطبيعى نحو التطور! لكن، يبدو أن ثأراً قديماً ظلت نيرانه تتأجج فى قلب الآخر الغربي/العالمي، ويبدو كذلك أن مخاوفاً قديمة ظلت تؤرق الآخر نفسه! أما الثأر فدافعه الغزو العربي للغرب، ذلك الذى أجج الآخر العربي يوماً نيرانه وسماه فتحاً مبيناً! فى حين أنه لم يكن سوى توسع مألوف من دولة فتية ناهضة! خطيئة الآخر العربي أن غلفه برقائق دينية!
أما المخاوف المستعرة فى صدر الآخر الغربي/العالمي فمصدرها الخشية من نهوض دولة فتية فى ربوعنا العربية، تُعيد إخراج بلاده من التاريخ..
مزاعم غربية لا تخلو من وجاهة! يجيد الآخر الغربي/العالمي توظيفها لتبرير سياسته اللاإنسانية تجاه عالمنا العربي، ويحظى بفضلها بدعم واضح من الذات الغربية، رغم صيحات الادانة التى تُطلقها تلك الذات بين الحين والآخر على استحياء، احتجاجاً على نهج الآخر الغربي/العالمى تجاه ربوعنا الطيبة..
الآخر الغربي/العالمي أعد الشرك، وهو إبقاء الجماهير العربية فى إغتراب ثقافي، تُحرم بموجبه من الحق فى نقد ثقافتها وتطويرها! الآخر الغربي/العالمي إذن فى مأزق، لأن إضطلاعه المباشر بدفع الذات العربية نحو الشرك، غير مأمون العواقب، فالذات العربية، على سذاجتها، لابد وأن تتنبه إلى ما يُراد بها!
لم تلبث العبقرية الغربية الآثمة أن وجدت الحل السحري(5)! آخر عربي/محلى، ينتمى لنفس ثقافة الذات العربية، يتولى مهمة دفعها نحو الشرك، دون أن تتنبه له الذات، وكيف تفعل؟! وهو يشاركها الملامح الجسدية، ويشاركها عاداتها وتقاليدها، وأفراحها وأتراحها، والأهم من ذلك يشاركها عقيدتها الدينية!
بالفعل نجحت الخدعة، على سذاجتها، وساعد على نجاحها أمور عديدة، منها أن الآخر العربي كان موجوداً إبان قوة الدولة العربية، إذ كانت الدولة قوية بينما كان الانسان العربي مغترباً، وهو ما ساعد بالتأكيد على التعجيل بإنهيارها!
المهم، لم تجد الذات العربية غضاضة فى احتكار الآخر العربي/المحلى لحق نقد الثقافة العربية الإسلامية وتطويرها! وفى رأيي المتواضع أنه كان للخدعة أن تنكشف لو أن الآخر العربي/المحلى مارس نقداً أنسنياً للثقافة العربية الإسلامية! لكن الذى حصل، ولا يزال يحصل، هو أن هذا الآخر وظف إمكانياته الفكرية، وبعضها عبقري، فى تكريس تواطؤه المشين مع الآخر الغربي/العالمي!
ولمن يسأل: كيف لخدعة كهذه أن تنطلى بهذه السهولة على الجماهير العربية؟! أقول إننى ما أوردت تصور جوستاف لوبون لسيكولوجية الجماهير، فى الجزئية السابقة، رغم عدم إتفاقى مع بعض ما ورد به، إلا تحسباً لسؤال كهذا!
إن ثقة الجماهير العربية فى الآخر العربي/المحلى، وقبولها باحتكاره لحق نقد الثقافة العربية الإسلامية وتطويرها، إنما تجد فى تصور جوستاف لوبون لسيكولوجية الجماهير تفسيراً لها! فنسخ الآخر العربي/المحلى لم يكن لها أن تستمر فى احتكارها لحق نقد الثقافة العربية الاسلامية وتطويرها، لولا أنها تُحسن توظيف مقولات لوبون! الآخر العربي/المحلى يعي جيداً قول لوبون إن الجمهور قطيع طيع، لايستطيع حياة بلا سيد! وظمؤه إلى الطاعة شديد، حتى إنه ليخصع غريزياً لمن يُنصب نفسه زعيماً عليه! ويعي أيضاً قول لوبون إن الجمهور ليس مجرماً وليس فاضلاً سلفاً، وإن انصهار أفراده فى روح واحدة وعاطفة مشتركة، إنما يقضي على التمايزات الشخصية ويخفض من مستوى الملكات العقلية..
يعي الآخر العربي/المحلى المقولات اللوبونية جيداً، ويسعى جاهداً للإفادة منها، على نحو بشع وغير إنسانى! الزعامات المحلية (سياسية كانت أم دينية أم فنية أم كروية أم إعلامية..إلخ) والتى يسميها لوبون محركى الجماهير، تلعب دوراُ بارزاً، فى إحكام السيطرة على الجماهير العربية ودفعها فى سلاسة وهدوء نحو الشرك الذى أعده لها الآخر الغربي/العالمي! فلا يكاد يخلو قطر عربي من زعامة محلية أو أكثر، تُحاط بسياج مخيف من الهيبة والجلال، وتتمترس خلفها كل قوى القهر والرجعية! ولهذه الزعامات أن تناوش الآخرين الغربي والإقليمي بين الحين والآخر، سعياً منها لتكريس هيبتها الوطنية، وإيهام الجماهير بعدم تواطؤها معهما!
فى الإطار نفسه، عمد الآخر العربي/المحلى لبناء آليات شرسة تفرض الاغتراب الثقافي أحيانا على الجماهير وتحببه أحيانا أخرى لهم، فتصوره على أنه إكليل غار فوق رؤوسهم! حتى أنه أصبح مألوفاً فى بلادنا أن يُباهى المغترب باغترابه الثقافي، ويرى فى زواله زوالاً لهويته الثقافية! أذكر من هذه الآليات(6):
[1] مؤسسات العنف.
[2] مؤسسات التلقين الإعلامي.
[3] المؤسسات التعليمية.
[4] محترفو التبرير الديني.
قارئي الكريم، أرجو ألا تفهم من حديثي أني أدين تصور جوستاف لوبون لسيكولوجية الجماهير، لكونه يقترح علينا ما نستطيع به أن نحكم الجماهير وأن نقود مخيلتها! فحسب دراسة لوبون الرائدة والمهمة أن نبهتنا لأمور عديدة، ترتبط بظاهرة الجماهير، وتدُلنا إن أحسنا فهمها على موطن الداء فى مجتمعاتنا!..
خُذ مثلاً حديثه عن مرونة الجمهور، خاصة خضوعه وانقياده للزعماء أو محركى الجماهير كما يسميهم، تجد أن لوبون يُعرى لنا الآخر المحلى ويبين لنا أن الجمهور (الذات) ليس مجرماً وليس فاضلاً سلفاً، وأنه إذا قُهرت آليات تكريس إغترابه الثقافي، وإذا خُلع نير الآخرية عن عنقه، وإذا توافرت له زعامات أنسنية، لتعاطى بكفاءة مع معطيات العصر، ولآمن بالله وبحرية الفكر لكل البشر..
إن تغريب الجماهير ثقافياً ليس قدراً محتوماً، وإنما هو حرفة مُحرمة يُجيدها “الآخر”، فى كل زمان ومكان! تساعده فى ذلك، خصائص الجماهير، التى نجح لوبون فى تصوير بعضها بدقة بالغة! لذا، فليس أمامنا، معشر العرب، إلا أن نفعل كما تفعل الأمم المتحضرة، والتى دفعها فهمها العميق لطبيعة ظاهرة الجماهير، إلى إبقاء الاتهام بـ”الآخرية” سيفاً مُسلطاً على رقبة كل من يضطلع بمسئولية تمس الجماهير، لا كما نفعل نحن فى مجتمعاتنا المتخلفة، حين نُسلم مصيرنا لآخر محلى لا يتورع عن التواطؤ مع الآخر العالمي، قابلين بترويج تجار الآلام لمسألتى التأثيم الإلهى لحرية الفكر، وإحلال “الآخر المحلى” محل الله!..
من هنا، لك قارئي الكريم أن تجد تفسيراً لحفاوة الآخر العربي/المحلى بنهج الرئيس الأمريكي الجديد أوباما! فقد جاء الرجل، وهو أحد أهم رموز الآخر الغربي/العالمي ليُطمئن الآخر العربي/المحلى على مستقبله، الذى كاد سلفه بوش أن يعصف به فى غمرة غضبه لأحداث 11 سبتمبر! جاء أوباما ليُطمئن النخب العربية الحاكمة، باعتبارها حجر الزاوية فى هيكل الآخر العربي/المحلى! جاء ليُجدد الثقة فيها، وليُطلق يدها فى الذات العربية، دون أن تخشى لومة لائم..!
جاء أوباما ليعتذر عن وعد سلفه بوش لشعوبنا بتخليصها من زوار الفجر، وإعادة دمجها فى الحضارة الإنسانية! جاء أوباما ليُسعد الآخر العربي ويُشقينا!
الهوامش:
ـــــــــــ
(1) جيمس فريزر، ترجمة نبيلة إبراهيم، الفولكلور فى العهد القديم، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1972)، الجزء الأول، ص 47-72.
(2) للمزيد راجع: إريك فروم، ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد، الخوف من الحرية، (القاهرة: مكتبة دار الكلمة، 2003).
(3) راجع: حازم خيري، محنة شعوبنا إدراكها الساذج للآخر، مقال منشور على شبكة الانترنت.
(4) للمزيد راجع: غوستاف لوبون، ترجمة هاشم صالح، سيكولوجية الجماهير، (بيروت: دار الساقي، 1997).
(5) للتعرف على مدى بروميثية الحضارة الغربية راجع: حازم خيري، الحضارة الغربية والبروميثية الغائبة، مقال منشور على شبكة الانترنت.
(6) للمزيد راجع: حازم خيري، الاغتراب الثقافي للذات العربية، (القاهرة: دار العالم الثالث، 2006).
خاص – صفحات سورية –