رهان المعرفة
خيري منصور
هناك قصة روسية شهيرة تختصر كل ما يمكن قوله عن رهان المثقف، وهو رهان خسارته ظافرة، ولا يقبل القياس على أية رهانات أخرى. وخلاصة الحكاية أن ثرياً روسياً عقد رهاناً مع مثقف شاب على أن يبقى في حجرة تملأ جدرانها رفوف الكتب خمسة عشر عاماً بحيث لا يغادر الحجرة على الاطلاق، وإن حاول فتح الباب فإنه سيخسر الثروة الكبيرة التي عقد حولها الرهان.. وسرعان ما تحول الشاب إلى فأر قارض للورق، لكنه من طراز آخر، فأر بشري ذكي وذو ذاكرة لا حدود لها.
مرّ العام الأول، وكان قد قرأ مئات الكتب التي ما كان له أن يقرأ القليل منها لو بقي يعيش حياته اليومية خارج تلك الغرفة، وهكذا مرّ العام الثاني والثالث حتى آخر ليلة من العام الخامس عشر، وقبل أن تنتهي فترة الرهان بدقيقة واحدة فتح الباب وغادر الغرفة خاسراً الرهان المالي، مما أثار دهشة الناس، وفي مقدمتهم ذلك الرجل الذي كان طرفاً آخر في الرهان.
البعض رأوا فيه مجنوناً والآخرون تصوروا أنه مارس انتحاراً من نوع ما، فلم يكن قد تبقى أمامه سوى دقيقة واحدة ليصبح أثرى رجل في المدينة.
ولم يخطر ببال أحد من هؤلاء أن الشاب قد تغير بعد أن قرأ كل تلك الكتب وتشرب كل تلك المعارف.
لقد أراد أن يقول لمن راهنه أولاً ومن ثم للعالم كله أنه كسب رهاناً آخر، وهو الكتب التي قرأها والمعرفة التي اكتسبها بحيث غيرت رأيه في العالم، بل حتى في نفسه.
وبقيت تلك القصة لزمن طويل أمثولة عن الرهان الخاسر بمحض إرادة صاحبه، لكن التفسير الأدق وغير المطروق في مثل هذه الحالات، هو أن الثقافة تغير الانسان وتنقله من حال إلى حال، بحيث لا يعود هو الكائن القديم الذي لم يخطر بباله ذات يوم أن المعرفة انقلاب في الوعي، وكيمياء سحرية تحول الجحيم إلى فردوس.
وعلق أحد أبرز المثقفين الآسيويين عن قراءته للقصة بعد رحيل مؤلفها قائلاً “إن رهان المال والمعرفة لا يختلف كثيراً عن زواجهما الذي غالباً ما ينتهي إلى الطلاق المبكر”.
لم يكن الإنسان في ذلك الوقت قد بلغ حداً من الفقر المادي والفراغ الروحي بحيث يعرض أعضاءه للبيع في مزاد قطع الغيار البشرية، ولم يكن الملح قد فسد، بحيث لا تأمن أصابع اليد الواحدة بعضها، ولا تأمن اليد توأمها.
ولو سئل ملايين الناس في أيامنا عن ذلك الرهان الظافر رغم خسارته لسخروا من الرجل الذي استبدل ثروة طائلة بخمسة عشر عاماً من المعرفة المتواصلة، لأن المعايير انقلبت، والإنسان تحول إلى مطية لغرائزه بدلاً من أن يمتطيها وتحول ما كان فرويد يسميه التصعيد إلى تسفيل يعيد الآدمي آلاف السنين إلى الوراء، بحيث نبتت له مخالب يخفيها في قفازات من الحرير وأنياب يضطر إلى عدم الابتسام والتجهم الدائم لإخفائها.
إن المعرفة قيد بقدر ما هي حرية، لكن الجهل بمختلف أنماطه قيد يحز الدماغ والقلب قبل المعصمين. ولا ندري ما الذي يمكن للإنسان أن يربحه في هذا العالم إذا خسر نفسه، وخسارة الذات تبدأ من الارتهان لمطالب عاجلة.
لقد حملت هذه الثنائية عبر التاريخ أسماء عديدة منها الفلسفي المعقد كالأبيقوري والرواقي، أو العقلاني والحيواني، وأخيراً فإن المعرفة رهان ظافر حتى لو انتهى من حولها إلى قدر نهاية تراجيدية.
الخليج