العرب: بين التحدي الإسرائيلي (المهماز)، والتحدي الإيراني (الكابح)
عبد الرزاق عيد
قبل تناولنا لموضوع عنوان مقالنا هذا، لابد من الإشارة إلى أن مفردتي (المهماز والنكوص)، إنما تحيلان إلى حقل مفردات علم النفس، بل بالأحرى الطب النفسي العيادي، حيث مؤدى (المهماز) هنا يشير إلى الصدمة النفسية التي تشكل عنصر تحدي يقود ويحفز إلى النهوض لتخطي الأزمة، ومثالها : صدمة العرب بالاستعمار الغربي بدءا من حملة نابليون التي قادت إلى طرح سؤال لماذا تأخر المسلمون وتقدم الآخر الأوربي…!، فكانت كل الإجابات تحيل إلى سبب (حداثة الآخر وقدامتنا) العربية والإسلامية، فقضينا حوالي القرن ونصف ونحن نحاول أن نبني حداثتنا تحت الشعار النهضوي القائل: لا بد من العلاج بميكروب الغرب لمقاومة حمياته، أي التلقيح بمصل لقاحه للبراء من حمى تفوقه وسيطرته ومن ثم استعماره، وهذا الميكروب هو الذي يمثل (المهماز) المحفز للنهوض فيما سمي بـ(عصر النهضة العربية الحديثة)، وقد تجسد بسؤال(امتلاك حداثة الغرب على طريق التحرر من سيطرته)، والمدخل إلى ذلك تمثل بالتجربة التحديثية (التقنية الصناعية) لمحمد علي الذي شكل له التحدي الغربي مهماز النهوض إلى مواجهة التحدي (العثماني) الذي كان قد غدا مريضا (كابحا)، وقد فتحت تجربة محمد على الأبواب أمام التجربة التحديثية (العقلية) التي عنوانها مسألة (الحرية) بدءا من الطهطاوي ونموذج (الدستور) الفرنسي، وصولا إلى الحريات السياسية عبر النموذج الإنكليزي (ستيورات ميل- سبنسر) وبناء (بناء الدولة الدستورية) مع الإمام محمد عبده وتلميذه الليبرالي المسمى بأستاذ الجيل أحمد لطفي السيد، والمعبر عنه شاميا بصوت الكواكبي المعلن أولوية مناهضة الاستبداد، وإلا فإن العقاب الإلهي سيأتي بالاستعمار الغربي(الأوربي) لتعليم الناس قيمة الحرية ما داموا لم يبرهنوا أنهم يستحقونها أمام استسلامهم للمستبد الإنكشاري، ليؤسس الكواكبي لفلسفة “الاستبداد الداخلي بوصفه بوابة الاستعباد الخارجي (الاستعماري)”، دون أن يدري أن الأبناء والأحفاد لن يقرأوا الخبر ومغازي العبر خلال قرن ليعودوا من جديد لعقاب التاريخ بانهيار عواصمهم (بغداد-صدام) أمام حداثة تفوق الغرب بأسرع من الاحتلال الانكليزي لمصر الذي كان أسهل من مما يدخل به دامر (الداخل بلا أذن) على قوم، على حد تعبير الإمام محمد عبده،وذلك حينما كان أحمد عرابي يقرأ بعضا من الذكر الحكيم ليعمي عيون الجيش الانكليزي عن احتلال مصر “فأغشيناهم فهم لا يبصرون”…
صاغ الكوكبي مزاميره البركانية ضد الاستبداد بالتناغم والتوافق والتوازي مع تجربة أستاذه وصديقه محمد عبده الذي خلص إلى أن انقلاب العسكر (أحمد عرابي) على الشرعية الدستورية مجلبة للاحتلال الانكليزي، وكان ذلك- باسم الشعارات الشعبوية ذات الرطانة العالية المزدهية بالوطنية اللفظية الغريزية الدهماوية التي هي سر أسرار تكوين منظومة تحديات (آلية الكبح) الشعبوية الدينية العثمانية في ذلك الزمن، والشعبوية الدينية الشعارية الشعائرية الإيرانية في هذا الزمن، كخط استمرارية للدولة الدينية العثمانية (السنية) التي لم تختلف بعد حوالي قرن عن إيران سوى بالتحول إلى (دينية شيعية)، في مواجهة تحدي الحداثة العالمية باسم منظومات فقهية قروسطية عن (الولي الفقيه)، وذلك بعد أن انتقلت تركيا غبّ سقوط امبراطوريتها إلى نسق التحدي الأوربي (المهماز)، فكانت نتائجه تقدما تركيا سباقا في العالم الإسلامي تنمويا: اقتصاديا واجتماعيا، وسياسيا برسوخ التجربة المدنية أوالعلمانية الديموقراطية والشرعية الدستورية بدون التفريط بالهوية (الأصالوية) لكنها أصالة اسلامية حداثية مميزة إسلاميا أيضا مما عجز عنه الإسلاميون السوريون (الأخوان المسلمون) الذين طالما راهنا على ممكنهم المدني في تمثل التجربة الإسلامية المدنية التركية، لكنهم انتقلوا-مع الأسف- من التحدي الحداثي الأوربي (المهماز) المحرض على النهوض والتقدم الذي اختاره حزب العدالة والتنمية التركي لتجاوز الذات، إلى التحدي الركودي (الكابح) بالالتحاق بالمشروع الإيراني الذي لا يحمل لنا العرب من تحديات سوى التحدي (المذهبي الطائفي) الذي عاد بالعقل العربي إلى ما قبل الوعي القومي والوطني الذي أنجزته حركة التحرر العربية بكل فصائلها القومية واليسارية خلال خمسين سنة، سيما بعد أن وجد النظام الطائفي في سوريا في الحليف الإيراني ليس حليفا سياسيا شعبويا وشعاريا وبلاغيا ممالئا للغريزية الدهماوية فحسب بل وغطاء لمشروعية طائفية تغطي النظام الأقلوي بمشروعية شيعية معترف عليها بالفقه السني الكلاسيكي بوصفها فرعا من الإسلام الرسمي.
من إحدى الالتماعات السوسيولوجية المبكرة الباهرة لابن خلدون أنه -وفي صدد حديثه عن علوم العرب المسلمين وهم يجمعون الحديث والقرآن وعلوم التفسير وأسباب النزول وقصص الأنبياء- أنه ذكر بأن العرب البداة كانوا يعتمدون في التأسيس لعلومهم هذه على اليهود، والتساؤل اللامع لابن خلدون هو كيف لابن عباس أن يأخذ العلم عن كعب الأحبار والاثنان في طور واحد من العمران، أي كلاهما ينتمي إلى ثقافة الصحراء البدوية، فماذا سيضيف علم البدوي الأول(كعب اليهودي) للبدوي الثاني(ابن عباس العربي)…
لقد أوردنا هذه الالتماعة الخلدونية عبر صياغتنا، لكي نطرح ذات السؤال وفي ذات الإيقاع على عروبيينا القوميين الظفرويين –المنتصرين أبدا- وفي طليعتهم شيخهم الأستاذ هيكل المتخصص بتلطيف الهزائم وتذويبها إلى (نكسات : نكسة حزيران مثلا)… ماذا تحمل إيران –زيادة عن العرب- من عوامل القوة والتفوق حتى يراهن على دورها في مواجهة المشروع الإسرائيلي الصهيوني؟ بحيث يمكن لها أن تنتصر حيث انهزمنا، وتحقق ما عجزنا عنه: اقتصاديا (ريعيا / نفطيا) فلدينا العرب ما هو أكثر منهم، أما بشريا فنحن أكثر عددا وعتادا و(بأسا)، وهذا لم نثبته في (قادسيتنا) الأولى مع سعد بن أبي وقاص فحسب، بل وحتى في (قادسية) صدام الخائبة، فقد سقيناهم (كأس المنون)، وذلك باعتراف نبيهم الأول الذي علمهم السحر (خميني : ربما الاسم يأتي من علم الخيمياء السحري في البحث عن الذهب))،الذي اعترف بشرب كأس السم (المنون) عندما وقع على وثيقة هزيمته ووقفه لإطلاق النار مع عراق صدام…أما سياسيا فهم لا يختلفون عن العرب في نموذج الدولة الشمولية (الديكتاتورية) – سيما عن حلفائهم الأسديين الطائفيين- إلا بالنكهة الإلهية الحرّيفة لمذاق استبدادهم الذي يمنحهم تفويضا إلهيا (مقدسا) لممارساتهم الأرضية النفعية (المدنسة) المدججة بالميليشيات والمخابرات التي تأتمر بالأمر المطلق لمرشد الثورة…. حيث التكالب الدموي على التمسك بالسلطة ولو بسفح دم الصبايا (ندى)…. فنجاد يعتبر انتصاره الانتخابي–كانتصارات حزب الله- هي استجابة لإرادة الله…أي في المآل استجابة لإرادة وليه الفقيه خامنئي…. وعلى هذا فإن الشمولية العربية تتقدم درجة مدنية عن الشمولية الإيرانية، من حيث أنه لا توجد دولة عربية تحكم قطعانها البشرية (ثيولوجيا) باسم (المقدس) الله في خدمة (المدنس) الشيطان، سوى النظام الأسدي الذي استنسخ إلها وضعيا في صورة طاغيته الأب المؤسس (حافظ أسد)، وعلى هذا من أين لمتأخري (إيران) أن يقدموا علما وتقدما وسؤددا وقدوة نضالية لمتخلفين من أمثالنا العرب ما دمنا في طور حضاري واحدد حسب وعي التاريخ المقارن لابن خلدون..!
هل لدى الإيرانيين ما يختلفون عنا سوى الخلاف الطائفي ذي الجذر القبلي العربي في كل الأحوال، الذي شق قبيلة قريش منذ ألف وأربعمئة سنة بين(البيت الهاشمي :الشيعي) و(البيت المرواني الأموي: السني)، فيما يمكن أن يعتبر أطول وأعمق بل وأغبى (خلاف قبلي /مذهبي) بين بيتين من (قبيلة واحدة: قريش) في تاريخ البشرية، حيث يدوم هذا الخلاف القبلي العائلي –بتغطية لاهوتية- أكثر من أربعة عشر قرنا، والأغرب من ذلك والأكثر تهافتا أن ينخرط العقل الفقهي الإيراني في الصراع القبلي العربي، بل وتتحول الأهواء القبلية لـ(بني هاشم) إلى ايديولوجيا رسمية لإيران التي يبايعها العرب قائدة لنضالهم القومي والأرجح القبلي، حيث ضاعت الفواصل بين القومي والقبلي بعد أن آل إلى البعث الصدامي-الأسدي الفاشي؟
أي تحد ركودي استنقاعي (كابح) للتطور والتقدم يقدمه لنا ملالي قم وسياسي طهران إذ هم يقدمون أنفسهم كطليعة تحررية وطنية لنا…!؟ وهم لا يملكون ما يميزهم عنا سوى هويتهم الطائفية (الشيعية)، وعلى هذا فالدرس الوحيد الذي علينا استخلاصه في هذه المواجهة المزعومة مع إسرائيل -ذروة الحداثة العالمية- أن الإيرانيين سينتصرون بفضل دعم (أهل البيت) لهم…؟
هل هذا ما يراهن عليه القوميون العرب الذين يذكرونا بالدور الفارسي المميز في إنتاج التراث الفكري والثقافي العربي والإسلامي، وهذا ما تنوه به الأيديولوجيا الطائفية الأمنية في سوريا، وهي تسعى لعملية فك ارتباط مع العروبة (السنية) بوصفها ثقافة (الأعاريب البداة)، عبر الإيحاء وكأن الطائفة العلوية ليست جزءا من نسيج الشعب العربي (الأعرابي)، بل من النسيج الفارسي المتفوق، وذلك لأنهم يعتقدون أن موروثهم الثقافي الطائفي (الميثي) السحري (علي بن أبي طالب يسكن القمر الهيا) يجعلهم أقرب للمدنية والعلمانية من (الأعاريب :السنة)… وهو وهم كان من الممكن المراهنة عليه من خلال دور (أتاتوركي) للأسد الأب، الذي كان يفترض وفق منطق الضرورة التاريخية أن ينحى –بسبب جذوره كأقلية-باتجاه نموذج الدمج (المواطني) العلماني الأتاتوركي، لكن يبدو أن الفرق المدني والسياسي والثقافي والمواهب الفردية كان شاسعا بين الجنرالين : بين قائد قاد جيوش بلاده لبناء الوطنية التركية، وبين قائد انقلابي يستند إلى هزيمته الفضائحية في (5حزيران) ليقفز إلى قمة السلطة في بلده المهزوم على يده كوزير دفاع لبناء سلطته الطائفية، إذ لم يكن أفقه ليرتفع عن مستوى البحث عن (عصبية طائفية :عسكرية أمنية) يستند إليها لحماية نظامه وليس لبناء وطنه…
أليس الأولى بنا نحن العرب أن نواصل معركتنا مع عدو متفوق (اسرائيل) يتحدانا حضاريا في كل الساحات والحيزات : التقنية والاقتصادية والسياسية والثقافية وتتويجا العسكرية، بدل المراهنة على مهابيل طهران..! أليس الأولى أن نخوض معركة المستقبل مع عدو يمكن التعلم منه صناعة المستقبل ؟ فيكون لنا هذا الصراع(مهمازا) على النهوض والتحدي من قبل عدو هو الابن العضوي للحداثة العالمية … حتى نتعلم منه سر تفوقه : سر انتصاراته وسر هزائمنا إذ نصارعه ونجادله وندافعه ليكون لنا ممكن أن نقاتله إذا لم نجد بدا… من أن نراهن على صديق (إيران)، يثأر لجرحنا النرجسي الذي لم يندمل لأكثر من نصف قرن من الهزائم، هذا طبعا إذا صح له أنه قادر على الثأر… أي إن صح لنجاد أن يكون أكثر من صورة كاريكاتورية لصدام حسين…!!
أي نكوص حتى في الوعي الثأري (القومي-القبلي)، أن ننتظر أن يثأر لنا من هو ليس بأحسن منا –لا كما ولا نوعا- حتى يكون لديه إمكانية أن يستثير تحديات نوعية (مهمازية) من النوع التحدي الإسرائيلي، من النوع الذي يتيح له أن يطرح على مستقبل حركة التوتر الحضاري بيننا وبينه…! فالتحدي الإيراني لا يمكن أن يستثير حتى اليوم أكثر من تحديات ماضوية مذهبية كابحة وراكدة ومتأسنة لا تتخطى مراهنته على تمايزه الطائفي عن العرب الذين عليهم أن يقتنعوا وفق هذه المعادلة أنهم ما انهزموا –والأمر كذلك- إلا لأنهم (سنة)، وأن الإيرانيين سينتصرون ليس إلا لأنهم (شيعة)…! وفق المعادلة التي تطرحها إيران نفسها على العالم العربي والإسلامي والدولي، وهذا ما يسعى الخطاب الشيعي أن يشيعه ويعممه، إذ أن حزب الله في لبنان يقدم نفسه بوصفه ممثل الوطنية والفداء، بينما طائفة (السنة) هم ممثلو اللاوطنية والاستسلام بل والخيانة…هذا كل ما قدمته لنا المنظومة الثورية الإيرانية والحزب اللاتية –الأسدية الطائفية…
أما اللذين يتحدثون عن الدور الفارسي الحضاري والثقافي المميز للفرس في الثقافة العربية الإسلامية فلهؤلاء نقول : إن الفرس اليوم لا يتقدمون إلينا إلا بـصورة (حضارة الفقه) الذي نحن العرب أصحابه الأصليون وأصحاب رسالته الأولى، ولو أن المرشد العام لإيران –من خميني إلى خامنئي- يستند في مرجعيته على الإرث الحضاري الفلسفي : للفارابي وابن سينا وعمر الخيام والشيرازي ومولانا جلال الدين الرومي، لكان لهم الحق في الإمامة ليس على العرب فحسب بل وعلى العالم من أجل ضخه بماء الروح والمعنى…وهذا هو المراهن عليه بانتفاضة الشباب والنساء والمثقفين على حضارة فقه ولي الفقيه اليوم…
إن التحدي الإسرائيلي هو الذي يمكن أن يحفزنا للنهوض بوصفه مهمازا لامتلاك العقل الذي لا يحول الهزائم إلى انتصارات كما كنا نفعل-وفق مدرسة هيكل- حتى اليوم وكما يفعل الإيرانيون الذين يتباهون بعظمة جيشهم في صموده أمام طاغوت صدام… و التحدي الإسرائيلي يتيح التعلم من العدو – كما يفعل حتى اليوم- من تحويل انتصاراته إلى هزائم إعلامية، انطلاقا من امتلاكه للأس المعرفي للبنية التكوينية لعقل عصرنا الحديث الذي يتمثل بالعقل النقدي الذي لا يراكم إلا ليقوض، أي الذي يعتبر أن التراكم المعرفي هو تراكم أخطاء المعرفة وليس انجازاتها كما يفعل العقل العربي والإيراني (الظفروي الإسلاموي) وهو ينتج الهزائم على شكل انتصارات كاريكاتورية من جهة، وليبرر لإسرائيل حروبها (الدفاعية) الدائمة لهزيمتنا الدائمة، ومن جديد دائما كما يفعلون دائما…
ليس لدى إيران ما نتعلمه منها سوى المراهنة البدوية (الثأرية) العروبية القبلية على الثيوقراطية الخمينية لتنتقم لهزيمة المشروع القومي الناصري (هيكل ومدرسته الناصرية المجروحة نرجسيا) من جهة، والبعثي الصدامي-الأسدي الطائفي(المتبجح قومويا) من جهة أخرى، تعويضا عن الجرح النرجسي لأكاذيب الخطاب القومي وأوهامه وأضغاث أحلامه الناصرية أو البعثية، الذي يقودنا للإقتداء بنموذج التحدي الإيراني القروسطي في تقادميته الصفراء وماضويته الغبراء، محل التحدي الإسرائيلي الذي يضعنا –في تحديه الوجودي الكينوني -أمام مسؤولية (أن نكون أو لا نكون)، من خلال نموذج التقدم الكوني الذي تمثله إسرائيل –بوصفها جزءا من عالم الغرب بل ولاية أمريكية عضوية- كحالة تحدي تبدأ من تحدي وجودنا العضوي إن كان قابلا للبقاء في ذاته، أو يحمل قابلية التحاقه واستعماره، بل واحتمالات قابلية انقراضه…