الصراع على الديموقراطية في المفهوم وتحولاته
محمد حلمي عبد الوهاب()
لا شك أنّ الديموقراطية، كمفهوم وواقع في آن معا، تعد من أشد الأمور مجلبة للصراع والتنازع عليها. ومن ثم فقد يقول قائل: لماذا الديموقراطية من بين كافة أشكال الحكم وطبائع الدولة وصور المجتمع المرغوب هي الجديرة بالتمني وحلم التحول والانتقال إليها؟!، وكيف ولماذا تنبثق الديموقراطية هذه، أو لا تنبثق، لدى أمة من الأمم دون غيرها، أو في منطقة ثقافية معينة أو تشكيلة اجتماعية ما؟!، وأخيرا وليس آخِرا كيف نعمل من أجل لحظة ديموقراطية تاريخية جديدة ومواتية، لا تكون مجرد تقليد للآخرين، ولا يكون تحقيقها مُعلقا بالثقة في الدولة، ثم لا تكون معرضة كذلك للضياع إنْ بالخديعة تارة، أو بالقمع تارات أخرى؟!
والواقع أنّ التساؤلات السابقة تفتح بدورها بوابات الجحيم السبع أمام تساؤلات كبرى لا تنتهي؛ خاصة في ظل إعادة أغلب النظم العربية المعاصرة إنتاج أنموذج “الانفتاح السياسي من دون دمقرطة (Liberalization without Democratization). وفي كل الأحوال، ربما لم يكتسب أي مفهوم زخما معرفيا كذلك الذي لحق بمفهوم الديمقراطية حيث نلاحظ ابتداء من نهاية السبعينات وبداية الثمانينات في القرن الماضي تعاظما وانتشارا واسعا في الكتابة والبحث والنقاش والحديث عن الديموقراطية على مستوى الساحتين الثقافيتين: العالمية والعربية.
غير أنّ الديمقراطية ديمقراطيات من حيث التعاريف!! تلك هي الملاحظة الأولى التي تبدو لنا في سياق متابعة هذا الكم الهائل من الأبحاث. فالديموقراطية، ككلمة أو مفهوم متداول، لا تحمل معنى واحدا ثابتا مُتفقا عليه، وإنما على العكس تماما لا نزال حتى الساعة نفتقد ذلك التعريف الجامع المانع لمعنى الديموقراطية. وإذا كانت الأشياء تُعرف بنقيضها، فهل تعني الديمقراطية نقيضا للمَلكية (حكم الفرد)، أم للأوليغاركية (حكم القلة)، أو للأرستقراطية (حكم الفئة المميزة)؟!، أم أنها تتجاوز كل هذه المعاني لتصبح بالتالي نقيضا لكافة أشكال الحكم التي تسودها أنماط: القهر، والتسلط، والاستبداد؟!
أضف إلى ذلك، أنّ مدلول الكلمة الوصفيّ (أي ما تعنيه من وجهة نظر مستخدميها) ليس منفصلا عن تعريفها المعياري أو ما يسمى (Normative Definition)، والذي يعني ما ينبغي أن يكون عليه معنى الكلمة. ويترتب على ذلك أنّ استخدام المفهوم في اللغة الدارجة وعدم الاتفاق الحاصل في معناها إنما يعكس بالضرورة اختلافا قيميا حول ما ينبغي أن يكون عليه مدلول الكلمة الوصفي.
فعلى الرُغم من أنّ الديموقراطية تعني (بحسب الجذور اللغوية للكلمة: حكم الشعب)، إلا أنّ تغير الظروف السياسية من خلال التطور الحضاريّ أضاف لها معاني ودلالات متعددة، مثلما أضاف لها بالتبعية مستلزمات أساسية أخرى تُستنبط اعتياديا من الظروف الاجتماعية المستجدة والنهج السياسيّ المُعقد للحكم.
وأبلغ دليل على ذلك أنه في حين يعرفها بعضهم بأنها عبارة عن: “عقيدة سياسية تستوجب سيادة الشعب في نظام يقوم على احترام حرية المواطن وتحقيق المساواة بين المواطنين دون تمييز بسبب الأصل أو الجنس أو الدين أو اللغة”، ينزع آخرون نحو تعريفها بأنها: “نظام اجتماعي يؤكد قيمة الفرد وكرامة الشخصية الإنسانية ويقوم على أساس المشاركة الجماعية في الحكم أو في إدارة شؤون المجتمع”.
وإلى جانب ما سبق ثمة من ينظر إليها على أنها: “مبدأ إنسانيّ ينادي بإلغاء الامتيازات الطبقية الموروثة، ويطالب بأن يكون الشعب مصدر السلطة السياسية”، أو باعتبارها: “نظاما سياسيا يمارس الشعب من خلاله حقه في الحكم عن طريق عقد انتخابات دورية”. ويبدو واضحا من خلال التعريفات السابقة أنها ترتكز جميعا على مجمل العناصر الكلاسيكية في التعريفات القديمة للديموقراطية والتي قدّم أبراهام لنكولن وصفا لها في خطابه الشهير في غيتزبرغ، إبان الحرب الأهلية الأميركية، حين اعتبر أنّ الديموقراطية تعني: “حكومة الشعب، من الشعب، ومن أجل الشعب”، مما يثير بدوره العديد من التساؤلات الكبرى حول هكذا توصيف.
بيد أن الصعوبة الأخطر والأهم إنما تبدو بنظرنا عندما يتم تحديد الديمقراطية من حيث مصدر السلطة، أو الأغراض التي تنهض بها الحكومة. ففي سائر أنظمة الحكم المعروفة يتحول الناس إلى زعماء عادة إما بحكم المولد، أو القدرة، أو الثراء، أو عن طريق العنف، أو الاختيار، أو التعليم، أو التعيين، أو الاختبار. وبديهي أنّ الإجراء المحوريّ في الديموقراطية إنما يتمثل في اختيار القادة والزعماء عن طريق “الانتخاب التنافسي” من قبل الشعب.
يتحصل مما سبق، أنه ينبغي النظر إلى الديموقراطية كمفهوم (أو بالأحرى كمنظومة مفاهيم) بصورة تاريخية، وكتعريفات مرتبطة أولا وأخيرا بآمال وطموحات ومصالح ورغبات الأمم والأفراد والأحزاب والجماعات والطبقات والحكومات المختلفة. خاصة إذا أخذنا في الاعتبار حقيقة أنه في خضم الصراع على ماهية الديمقراطية، والذي شكل امتدادا للحرب الباردة بين دول الكتلة الشرقية ودول الكتلة الغربية قبيل انهيار الاتحاد السوفياتي، تمترس العديدُ من أتباع كلا المعسكرين وراء مجموعة معتقدات وآراء حول ماهية النظام الديموقراطي “الحقيقي”.
كما أسهمت الحركات الفكرية والصراعات السياسية عبر التاريخ في تأجيج النزاع والصراع حول ماهية الديموقراطية، كل حسب قناعاته ومعتقداته وأيديولوجياته الخاصة. فنتج عن ذلك صيغٌ متباينة لأسلوب الحكم، تستند في الوقت نفسه إلى المبدأ الإغريقي القديم للديموقراطية!! فكانت الديموقراطيات الاشتراكية الشعبية، والديموقراطيات الليبرالية، وديمقراطية البرجوازية، وديمقراطياتُ البروليتارية،… وتلك قضية أخرى!
() كاتب وباحث مصري
المستقبل