معركة التنوير والتجهيل، إذ تنتهي نهاية أخرى
محمد الحدّاد
هل الحداثة تتراجع في العالم العربي؟ هذا سؤال جدير بالطرح، وثمة مؤشرات عديدة توحي بأن الجواب بالإيجاب هو الراجح، لكن ثمة أيضا مؤشرات قد توجه الجواب الوجهة المضادة.
إنّ الأجيال الشابة اليوم لم تعرف الأوضاع التي كانت عليها المجتمعات العربية في السابق، أو أنها لم تعرفها معرفة عيانية، ولقد أصبحت هذه الأجيال تشكّ في كلّ المعارف التي بلغتها عبر المؤسسات الرسمية، مثل الإعلام الحكومي والمدارس والجامعات، أو تلك التي بلغتها عبر الكتب والمؤلفات، ولم يعد لها من مسلك للحكم على الماضي إلا الانطباع والعاطفة. فعلى عكس الجيل السابـــق الذي كانت تغلب عليه الرغبة في تجاوز قديم قـــد عرفه معرفة عيانية، فإن الأجيال الجديدة تشعر فـــي أحيان كثيرة بالرغبة في الاحتماء العاطفي بذلك القديم الذي لم تعرفه ولم تألفه، بل تتصوره في الصورة التي ترضي لديها عاطفة الاحتماء، هروبا من وطأة حاضر يبدو لها مفزعا في الكثير من جوانبه، ويبدو أمامها التحدّي الأكبر والوحيد.
إنّ حالة من العدمية تسود اليوم وتجعل كل شيء واردا في المستقبل، نعم إن مكاسب عديدة أصبحت محلّ أخذ وردّ، والهويات أصبحت مهددة، أقصد هويات المجتمعات التي نشأت على قاعدة التحديث منذ تجاوزت فترات الاستعمار والوصاية، تلك التي أدركت أن القديم لو كان جيدا كله لما كان سببا في الوهن الذي أصاب المجتمعات وأرداها فريسة سهلة بأيدي الأقوياء، تلك التي قامت على فكرة التحديث والتمييز بين الحداثة ومصالح الدول الحديثة. ويمــــكن للفضائيات أن تتلاعب بالعقول كما تشتهي، وأن تعزف على وتر المشاعر العمياء، لأنها أصبحت المصدر الأساسي للمعرفة الاجتماعية، إن لم تكن لدى البعض المصدر الوحيد.
وإذا كـــان التنوير العربي قد نشأ مع انتشار الطباعة في العالم العربي خلال القرن التاسع عشر، فإن التجهيل العربي قد اتسع بانتشار الفضائيات في نهاية القرن العشرين، وهو اليوم يثأر لهزائم المحافظين سابقا أمام عقلانية الكتابة ببث الفوضى الكلامية القائمة على الاستعراض والفرجة بديلا عن التفكير والمعرفة. الكتابة هي التي فرضت العقلانية، والطباعة هي التي نشرت العقلانية بين العدد الأوسع من الناس، وفي عصر ما بعد الكتابة والطباعة، عصر الفضائيات والانترنات، تصبح العقلانية في موقع حرج، ولكن…
يجدر أن نأخذ بالاعتبار الجانب الآخر من الصورة. إنّ الوضع الحالي، بطابعه الفوضوي، يسهل أيضا انهيار المحددات والضوابط، ويفتح الباب لكل أنواع التعبير الفردي والجماعي، ويهدّد المحافظين بتجاوز ما وضعوه ممنوعات ورسموه محارم. فالفوضى فوضى، لا يطوّقها أحد، لا المحافظون ولا الحداثيون، ولهذا السب لا يبدو أن ثمة منتصر أو منهزم من الوهلة الأولى، بل هي معركة من صنف جديد، طرفها الأول مبادرات تحاول الاستفادة من الضبابية الحالية، في أبعادها السياسية والاقتصادية والثقافية، لتستعيد خطابات الماضي وتهزّ مكاسب المجتمعات، ومبادرات ستنشأ في هذه المجتمعات لتدافع عن هذه المكاسب لأنها تستفيد منها، عندما تشعر بالتهديد الحقيقي وتدرك أن القضية ليست مجرد خصومات فكرية بين المثقفين. لن تعبّر هذه المبادرات على نفسها في قالب كتابات ومشاريع فكرية، ولن تكون بحاجة إلى فيلسوف أو أديب، لأنها ستنشأ من خارج ثقافة الكتابة والمكتوب. إنها ستتصرف فقط من موقع ما تراه رغباتها ومصالحها، وستتحدث لغة المباشرة لا لغة الإيماء والترميز.
إذا عدنــا إلى أصــل السؤال: هل الحداثة تتراجع في العـــالم العربي، قلنا: نعم، إذا كان المقصود الحداثة الفكرية، فلن يكون بمقدورها، علـــى الأمد المباشر وربما أيضا على الأمد البعيد، أن تصمد أمــام آثــار الثورة الاتصالية الحديثة، وقلنــا: كلاّ، إذا كـــان المقصود الحداثة السلوكية، فهـــي ستتطور باتجاه مزيد من التحدّي في وجه القـــواعد والقيــم والممنوعات، مستفيدة مما توفره لهـــا وسائل الاتصال الحديثة من قدرات على تجاوز ما يوضع أمامها من حدود للقول والسلوك.
ربما بعد جيل أو جيلين، لن نجد الكثير من الناس يقرأون فولتير، لكننا سنجد كثيرين يسلكون سلوكه المتحرر من القيم بعد أن تكون الثورة الاتصالية قد تكفلت بتحطيمها. المحافظون يظنون أنهم ينتصرون عندما يبثون الفوضى الفكرية ويضربون العقلانية، لكنهم سيعلمون بعد حين أي منقلب سينقلبون.
الحياة