الانتخابات وحدها ليست الديمقراطية
سليمان تقي الدين
الانتخابات وحدها لا تعني الديمقراطية. تحتاج الديمقراطية إلى الحرية أولاً، وإلى بنية اجتماعية وثقافية ثانياً، وإلى تعددية سياسية فعلية ثالثاً. شاخت الديمقراطية في الغرب لأنها تفتقر اليوم إلى الكثير من الحرية والتعددية الفكرية والسياسية، مع سيطرة رأس المال على كل شيء، وغياب الأحزاب والتيارات ذات البرامج المختلفة حقيقة.
الحرية في الغرب أسيرة نمط من الاقتصاد يدمج البشر في آلة ضخمة ويجعلهم في خضوع تام لآلياته وتلاحقهم وسائل مراقبة الحرية إلى بيوتهم وغرف نومهم. ويتوسع هذا النمط من النظام الفعلي إلى كل أنحاء العالم حيث الأولوية للانتاج للسوق للاستهلاك للمال والسلطة.
جلبت الرأسمالية معها ديناً جديداً تنخرط فيه أكثرية البشرية بصرف النظر عن بعض أفكارها وثقافاتها. هناك شمولية جديدة تتجلّى في الرأسمالية والليبرالية المطلقة وهناك فلاسفة جدد لها يتمثلون في “فوكوياما” وفي “هنتنغتون” وغيرهم..
ايديولوجيا العصر الحديث في العالم المتقدم تبرّر للدول الديمقراطية أن تشن الحروب الاستعمارية وأن تدمر دولاً ومجتمعات وأن تنهب ثرواتها وأن تحرس الفجوة العالمية بين التقدم والتخلف وتعمل على تعميقها.
الانتخابات وحدها ليست الديمقراطية. جاءت الانتخابات اللبنانية بمجموعة من الدكتاتوريات الطائفية. انتجت الانتخابات “الاسرائيلية” المزيد من السياسات العنصرية والاتجاهات الحربية. أفرزت الانتخابات الايرانية المزيد من المركزية السياسية والتشدد العقائدي والقومي.
لم تعد الديمقراطية وسيلة لتوسيع المنافسة والمشاركة والمحاسبة والتغيير. تتبدل بعض النخب السياسية ولا شك لكنها لا تتجاوز السطح السياسي للأنظمة التي تؤطر نزعات الاستبداد داخلها.
ليست مشكلات المجتمعات المعاصرة من نفس المستوى. المجتمعات الصناعية المتقدمة تقرّ وتنظم وتحمي الحريات الفردية إلى أبعد حدّ، ولو كانت تلك الحريات مشروطة بقدرات الانسان المادية والمعنوية. لكننا في العالم الثالث نثقل على الحرية بكل القيود الشخصانية والولاءات المسبقة المتمثلة في القبلية والطائفية والجهوية والخضوع لسلطان الأفكار التقليدية واملاءات الموروثات الثقافية وبالتالي الهويات الفئوية والجزئية. لو كانت لنا بعض وسائل الديمقراطية كالانتخابات فإننا ما زلنا نستخدمها في سياقات تجديد السلطة التي تأخذ شرعيتها من بعد عقائدي أو ديني أو من ثروة أو قوة مادية هي السلطة نفسها ومن روح التبعية للجماعة وسلطتها الأبوية المتمثلة بالزعيم.
كتب وقيل الكثير في قانون الانتخاب اللبناني المستنسخ من عام ،1960 وهو يحتمل كل ما قيل وكتب على أنه من أسوأ ما يكون لمعالجة التمثيل اللبناني. لكننا يجب ألا نغفل أن مكونات القوى السياسية والتيارات المتنافسة ليست بأفضل حال من القانون نفسه. هي لذلك أنتجت قانوناً يشبهها إلى حد بعيد. علينا الاعتراف أن المجتمع هو في حال مرضية طائفية غير مسبوقة من حيث شموليتها وسيطرتها على كل الجماعات والجزء الأوسع من شرائحها. ليس قانون الانتخاب ما يمكن وحده أن يعالج هذا الفرز الطائفي والمذهبي وهذا التشنج للعصبيات.
أنجزت القوى السياسية الطائفية مركزيتها السياسية واختصرت تمثيل جماعاتها وحققت شرعية كاملة على هذا الصعيد. لقد باتت المسألة الآن في ما اذا كانت هذه القوى راغبة في أن تحتفظ بهذا الشكل من اقتسام السلطة ولو أدى ذلك إلى أزمات وطنية متكرّرة وعطل امكانات تطور البلاد ومعالجة مشكلاتها السياسية والاقتصادية؟ ليس الجواب على هذا السؤال بسيطاً بالسلب أو الإيجاب، رغم أن هذه القوى ترتاج لاحتكارها التمثيل السياسي، ولا تملك أي تصور لنظام يحقق الاندماج الوطني. وهي لن تقبل على أي تغيير ما لم تتعمق اكثر أزمة البلاد وتتشكل قوى ضغط فعلية من خارج هذه الاستقطابات. حتى هذه اللحظة المسألة الاجتماعية ليست في اولويات اللبنانيين بل مسألة حفظ مواقعهم الطائفية. إن أفق الإصلاح يضيق رغم أن ضحايا النظام الطائفي هم إلى تزايد فقراً وبطالة وهجرة وحجراً على الطموحات واغتراباً عن روح العصر.
علينا أن نتذكر كيف أن الانتخابات في لبنان كانت موجودة منذ منتصف القرن التاسع عشر وهي لم تعالج مشكلاتنا، لم تؤمن الاستقرار ولا التقدم الاجتماعي الحقيقي. لقد جاءت انتخابات 2009 وصفة لتعميق الانقسامات الطائفية والمذهبية. المسؤولية ليست على قانون الانتخاب، إنه جزء من المسألة، بل نتيجة لمسار سياسي واجتماعي. هناك تراجع متزايد لفكرة الدولة المركزية وحضورها. المجموعات الطائفية أقوى من الدولة. في مكان ما كل السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي جرى اعتمادها في العقدين الماضيين ساهمت في شرذمة المجتمع. الاقتصاد الطفيلي الريعي التجاري الخدماتي لا يبني مجتمعاً متماسكاً، ولا يبني ثقافة ولاء وطني. أولوياتنا الوطنية تبدأ من إعادة التفاهم على مشروع الدولة الجامعة لكل مواطنيها، وكيف يتجسد ذلك في معايير وقواعد قانونية. “لبنان أولاً” شعار لا معنى له طالما لم يتوافق اللبنانيون على هذا “اللبنان” الذي تجسد هويته الدولة وليس الكتل الطائفية.