موعد مع التاريخ
ساطع نور الدين
لن يكون من السهل على أي كان أن يصنف الخروج العسكري الأميركي من المدن العراقية اليوم هزيمة أو نصراً. الأقرب الى الواقع والمنطق اعتباره مكسبا عراقيا، ولكن بتحفظ شديد يبنى على الترقب لتجدد اشتعال الفتنة المذهبية بين العراقيين وبلوغها أبعادا وربما ساحات جديدة.
حسب ابسط المعايير والتقديرات، لا يمثل هذا الخروج الاميركي من المدن بناء على المعاهدة الامنية التي وقعها الرئيس الاميركي السابق جورج بوش مع السلطات العراقية، سوى محاولة للتخفف من اعباء غزو واحتلال لم يكن لهما مبرر، ولاختبار قدرة الجيش والشرطة العراقية على تحمل المسؤوليات الامنية التي تورط فيها الاميركيون على مدى السنوات الست الماضية نتيجة حماقتهم الكبرى عندما قرروا حل المؤسسات العسكرية العراقية.
هو بهذا المعنى اعتراف اميركي جديد بالخطأ في احتلال العراق. لكن عملية التسلم والتسليم تتم بين إدارة الرئيس الاميركي باراك اوباما الذي تعهد خلال حملته الانتخابية بترك العراق لشعبه بطريقة مسؤولة، وبين حكومة عراقية ذات غلبة شيعية واضحة، تواجه تحديات جدية في الداخل ومع دول الجوار العراقي كلها من دون استثناء.
الاختبار مزدوج: إدارة أوباما وما اذا كانت ستفي بوعدها الانتخابي، وتنتقل الى جبهة الحرب الرئيسية على الارهاب الاسلامي في أفغانستان وباكستان، ولحكومة الشيعة العراقيين الذين سيواجهون للمرة الاولى ولوحدهم اعتراض اشقائهم السنة والجيران العرب والاتراك على حكمهم، من دون القدرة على الاعتماد على الحليف الايراني الذي غرق في مشكلاته الداخلية، ومن دون الرجوع الى الحليف السوري الذي يخضع لرقابة اميركية مشددة.
كل شيء يوحي بأن التفجيرات الدموية المروعة التي سبقت الخروج الاميركي من المدن هي مجرد عينة بسيطة مما يمكن ان يكون عليه الوضع الامني في العراق اعتبارا من اليوم. والشرط الوحيد لنجاح الشيعة في مواجهة هذا الخطر هو ان يتصرفوا كدولة لا كميليشيا او كمذهب مسلح، وأن يضعوا الآخرين، السنة والأكراد معا، امام اغراء العيش المشترك الذي لا بديل منه، مهما تطلب الامر من تضحيات وتنازلات متبادلة.
لكن شلال الدم المتدفق في العراق لا يوحي بأن الاوضاع ستسير في هذا الاتجاه، ولا يرد على السؤال الجوهري حول ما اذا كانت ادارة اوباما تتخلى عن الشيعة وتخضعهم لمثل هذا الاختبار المصيري، فقط من اجل اسقاط تجربتهم، والعودة في ما بعد الى تجربة اخرى.. لا تقتضي الانتشار الاميركي مجددا في المدن، لان احدا من الاميركيين لا يريد ان تتحول قواته الى وحدات شرطة وأمن داخلي للعراق.
هي لحظة حاسمة فعلا للعراق: إدارة أوباما لا تخادع، وهي مثل اي ادارة اميركية اخرى تفضل ان تحكم العراق وتسيطر على نفطه وموارده وأسواقه من بعيد ومن دون اي كلفة. والشيعة العراقيون لا يجاملون عندما يرون ان الفرصة التي طال انتظارها بضعة قرون لاحت مجددا وهي لن تضيع بسهولة.. وكذا الامر بالنسبة الى خصومهم السنة الذين انتظروا تلك الحقبة ايضا لتصفية ذلك الحساب التاريخي القديم.
السفير