بؤس الأب والابن
عبد الحليم قنديل
هل كتب على مصر قدر الانتقال من بؤس اللحظة إلى بؤس المستقبل، ولم يعد لدينا من فرصة للاختيار سوى بين مبارك الأب ومبارك الابن؟
ربما تكون هذه هي صورة مصر الظاهرة لأول وهلة، وفيما بدا كتسريب مقصود، نشرت صحيفة يومية مصرية خبرا عن استعداد الحزب الوطني ـ الحاكم ـ لعقد مؤتمر يرشح جمال مبارك رئيسا رسميا خلفا لأبيه، وقد تكفل صفوت الشريف ـ الأمين العام للحزب الحاكم ـ بنفي الخبر، وحين سئلت عن الخبر ونفيه، أجبت بصحتهما، فجمال مبارك يريد إكمال الرحلة إلى الرئاسة الرسمية فعلا، ومبارك الأب لا يريد ترك مكانه، وربما يعيد ترشيح نفسه، ويظل فوق رقابنا ‘إلى آخر نفس’ على حد تعبير شهير أطلقه قبل سنوات، وكرره قبل أسابيع، فالابن يريد التعجيل بسيناريو التوريث، والأب يميل إلى التأجيل، والنزاع عائلي جدا، ولا يبدو فيه الحزب الوطني ـ غير الموجود أصلا ـ سوى الاسم الحركي المستعار لرغبات العائلة المفتتة بين الأب والابن، بينما تبدو الأم ـ سوزان ـ راعية لأحلام الابن، ومستعجلة لتوريثه الذي لن يتم ـ إن تم ـ سوى على حياة عين الأب.
المشهد المركزي في الصورة ـ إذن ـ مجرد نزاع عائلي على مائدة غداء، وفي أطراف الصورة توجد أطراف أخرى، فمبارك الابن يستند الى نفوذ جماعة البيزنـــس ومليــــاراتها، ويدير عمليا ملف الاقتصاد، ويؤلف الحكومات، ويخـــتار رؤساء الوزارات، وبدا نفوذه الصريح ظاهرا منـــذ وقوفه وراء قرار خفض سعر الجنية المصري أوائل 2003، كان ذلك زمن وزارة عاطف عبيد ثم كان له ـ أي للإبن ـ الدور الأول في اختيار أحمد نظيف رئيسا للوزراء، وكل قرار جديد في مصر الآن أصبح موسوما بنفوذ الابن، ومن قرارات إدارة أزمة الاقتصاد، إلى قرارات بيع الأصول، وإلى قرارات تعيين رؤساء تحرير الصحف الحكومية ورؤساء مجالس إداراتها، وإلى استقبال فريق المنتخب المصري بعد عودته مهزوما من مسابقة كأس القارات لكرة القدم، بينما يبدو الأب محصور النفوذ في المهام الرسمية البروتوكولية، وفي استقبال الرؤساء والمبعوثين الأجانب.
وفي الزيارات المتواترة لأسلحة ووحدات الجيش، فالرئيس الأب يستند إلى نفوذ الأجهزة الأمنية، بينما يستند الابن إلى جماعة المليارديرات، وفي خلفـــية الصـــورة تقوم الأم ـ سوزان مبارك ـ بأخطر الأدوار، فهي العنصر الضـــاغط لمصلحة الابن، وهي العنــــصر المــــوازن لنصائح أجهــــزة الأمن للأب، وهي المسؤولة حصريا عن قطــــاع الخــــدمات، فهــــي تتـــرأس عشرات المجالس الرسمية الشبـــيهة بحكومة موازية، ولها حصــــة من الوزراء أشهرهم وزيــــر الإعلام أنس الفقي وفاروق حسني وزير الثقافة المــــزمن (!)، وقد غابت عن الصورة مـــنذ الوفاة المفـــاجئة لحفيـــدها ابن علاء مبارك، واختفت تصريحاتها مؤقـــتا من الصحف الحــكومية، فيما ظل النزال جاريا بين تصريحات الأب وتصريحات الابن التي تنشر معا في الصفحات الأولى للصحف الرسمية.
المعنى ـ في مبنى الصورة ـ أن الرئاسة في مصر جرى تقسيمها فعليا منذ زمن، ومنذ أن أصبح جمال مبارك رئيسا للجنة السياسات في عام 2002، وصارت الرئاسة مزدوجه وأحيانا مثلثة، مع الأخذ في الاعتبار أن نفوذ الأم يضاف لنفوذ الابن، بينما يبدو مبارك الأب كرئيس شاخ، وتثاقلت حركته، ويقضي أغلب وقته تائها سابحا في خيالات المياه الزرقاء على شاطئ شرم الشيخ، يبدو الرئيس كجنرال ضائع في متاهته، وكديكتاتور جارثيا ماركيز في ‘خريف البطريرك’، يبدو الرئيس ذاهلا، وإن لم تغب عنه الحقيقة تماما، ومع ضعف مركزه الرئاسي، تبدو الأجهزة الأمنية في حالة يقظة، فالجيش لا يبدو مستريحا تماما لصعود جمال مبارك وتضخيم نفوذ جماعته، وأجهزة المخابرات المتعددة يعتريها الضيق، وقوات الأمن الداخلي ـ وهي ثلاثة أضعاف حجم الجيش ـ تتطلع لدور، وربما يبدو ملفتا أن مسؤولي هذه الأجهزة ظلوا في مواقعهم لوقت طويل، وإلى حد أن أحدا لم يعد يتذكر ـ بغير صعوبة ـ ماذا كانت أسماء المسؤولين السابقين؟ فوزير الدفاع في منصبه منذ 18 سنة مضت، ومدير المخابرات العامة ظل في منصبه لمدة أطول، ووزير الداخلية الحالي في منصبه منذ 12 سنة، والثلاثة ضربوا الأرقام القياسية ـ بنوعية الوظائف ـ في تاريخ مصر الحديث كله، والركود في المناصب له مغزى، فهو فرع من الركود الأصلي الذي تمثله حالة مبارك الباقي في منصبه منذ 28 سنة، والسبب ـ على ما يبدو ـ في الشيخوخة العقلية والوجدانية للرئيس الثمانيني، فلم تعد لديه فسحة من وقت أو تفكير لاختيار موثوق لأصدقاء جدد، ويفضل الركون لمماليكه القدامى، وبخاصة مع تنامي نفوذ المماليك الجدد التابعين للابن، ومع حيرة السلطان العجوز، والتدهور المتصل لأوضاع السياسة والاقتصاد، تبدو جماعة الأمن أكثر تأثيرا، وكل هؤلاء ينصحون الرئيس أن يبقى كما هو، ويخوفونه من تداعيات التعجيل بالتوريث الرئاسي، وهو ما لا يرضي ـ بطبائع الأمور ـ طموح الابن ولا رغبات الأم، وفي فوضى التضاغط المتبادل تبدو الأسئلة حائرة، فنفوذ الابن يتضخم في ظل الغياب الفعلي للرئيس، ولا يرضى بدور مدير الدكان مع الغياب المتصل لـ’الحاج’ صاحب الرخصة الرسمية، ولم يعد يقنع بدور الشريك في رئاسة فعلية، بل يطمح لاحتكار الرئاسة، وأن يصبح رئيسا رسميا لمصر، وبعد أن جرى اتخاذ كل خطوات التمهيد النهائي، من فرض الوجود الفعلي إلى تعديلات الدستور، وإلى تعديلات النظام الداخلي للحزب الحاكم، وبحيث انحصرت فرصة الخلافة الرئاسية ـ رسميا ـ بين تكرار الرئيس نفسه أو إحلال الابن، وفي المسافة الفاصلة الواصلة، يجري تداول صيغ خداع أو توفيق، ومن نوع إعطاء الفرصة لجنرال يقوم بدور المحلل للتوريث، وبجعله رئيسا انتقاليا مع جعل جمال مبارك رئيسا للوزراء بصلاحيات مضافة، وإلى أن تأتي لحظة الوثوب الرسمي، وكلها صيغ ملغومة قد لا تريح أطرافها ذواتهم، ثم انها تنتظر رضا الأمريكيين على أي حال، وفي محطة الانتظار الطويل تبدو الحيرة ظاهرة، فنفوذ مبارك الابن يحث الأب على حل مجلس الشعب، والتخلص تماما من أي وجود برلماني للإخوان والمعارضة الراديكالية، وإجراء انتخابات المساخر المعتادة للبرلمان وللرئاسة، وقد جرى التمهيد بمنح ‘كوتا’ للسيدة سوزان مبارك، وفي صورة 64 مقعدا إضافيا لنساء مجالسها في البرلمان المقبل.
والصورة ـ على واقعيتها المفرطة ـ تبدو أقرب للفانتازيا السوداء، فهي تختصر مصر الكبيرة في عائلة صغيرة، وربما كانت تلك هي نقطة الضعف المهددة للترتيبات الجارية، فنحن بصدد جريمة كاملة الأوصاف، بينما لا تبدو ـ بالمقابل ـ كاملة الحصانات من دواعي الانزلاق للجحيم.
كاتب مصري
القدس العربي