صفحات العالمما يحدث في لبنان

لعنة الكتابة عن المجازر اللبنانية

نديم جرجورة
أعاد صدور كتاب «مجزرة إهدن، أو لعنة العرب المسيحيين» للصحافي الفرنسي ريشار لابيفيير (الطبعة الفرنسية عن منشورات «فايار»، والترجمة العربية التي قام بها ميشال كرم عن «دار الفارابي» في بيروت طرح أسئلة عدّة متّصلة بالعلاقة الأخلاقية والإنسانية (أساساً) بالذاكرة والتاريخ والواقع اللبناني، في السياسة والثقافة والإعلام والاجتماع، على الرغم من أن كلاماً عن الماضي اللبناني يُحاصَر فوراً باتهامات مختلفة من قِبل البعض، يمكن اختصارها بنكء الجراح واللعب على الوتر الطائفي/ المذهبي وفتح القبور.
إحدى ميزات الكتاب المذكور أعلاه كامنة في أنه لم يفتح قبراً، بقدر ما أعاد القبر إلى واجهة المشهد اللبناني، على الرغم من أن البعض رأى في اختيار موعد إصداره عشية الانتخابات النيابية اللبنانية تورّطاً في الصراع السياسي والانتخابي اللبناني، بين العائلات الطائفية. فالقبر، الذي لا يختلف كثيراً عن قبور فردية وجماعية (بالمعنيين المادي والمعنوي)، لم تُقفل أبوابه أبداً، ليس لأن جريمة «اغتيال» يوسف الشاب فرنجية (المعروف بأبي جو) ليلة السابع عشر ـ الثامن عشر من أيلول 2008 أعادت التذكير بمجزرة إهدن التي نفّذتها عناصر كتائبية بقيادة سمير جعجع، بناء على أوامر مباشرة من بشير الجميّل، فجر الثالث عشر من حزيران 1978 (يُعتبر أبو جو أحد أبرز المدافعين عن قصر إهدن أثناء الهجوم، وهناك احتمال كبير بأنه هو من أصاب جعجع بإطلاق الرصاص عليه)، بل لأن أموراً كثيرة حالت دون إقفال هذا القبر والقبور الأخرى: عجز القضاء اللبناني عن ممارسة دوره، أثناء الحرب الأهلية اللبنانية وبعدها؛ منع السياسيين هذا القضاء من القيام بواجبه؛ رفض أمراء الطوائف والحروب اللبنانية القيام بالخطوة المطلوبة لإنهاء حالة العداء الشديد بين بعضهم بعضا، المتمثّلة بإعلان صريح ومباشر عن مسؤولياتهم الفردية والجماعية في الحروب والمجازر، وعن أدوارهم الحقيقية في تنفيذ عمليات التهجير والخطف والقتل الاغتيالات، تمهيداً للمطالبة بالغفران والمصالحة؛ استمرار النزاعات الداخلية بأشكال مختلفة، ما أدّى إلى جعل الحرب الأهلية اللبنانية مفتوحة على مزيد من الجراح؛ منع أي كان، بشتّى الوسائل، من استعادة الفصول الدموية والعناوين المدوّية لمعالجتها الثقافية والفكرية والسجالية، أو لتدوينها ووضعها في متناول الأجيال المختلفة، على الرغم من المحاولات الفردية الجدّية التي جوبهت، غالباً، بصمت سياسي أو بمنع مخابراتي.
[[[
المفارقة الثانية التي يطرحها كتاب «مجزرة إهدن» كامنة في أهمية المضمون العام: هناك جريمة سياسية فتحت أبواب الجحيم على بلد وناس وطائفة بكاملها، لم يُعَد تركيب أجزائها المتناثرة في الفضاء الأسود للصراعات اللبنانية المزمنة. هناك عملية عسكرية أضافت شرخاً على البنيان اللبناني أولاً والماروني ثانياً، لم تُكتب سيرتها بوضوح وجدّية. والمجزرة، التي ذهب ضحيتها طوني فرنجية وزوجته فيرا وابنتهما جيهان وثمانية وعشرين مواطناً لبنانياً مارونياً، لا تختلف، في الشكل والهدف السياسي، عن مجازر وتصفيات جماعية واغتيالات فردية، ارتُكبت في داخل المعسكر الماروني تحديداً، ولا تزال حكراً على «روايات شفهية» متناثرة، أو على محفوظات خاصّة وملفات «سرّية» جداً (مجزرة الصفرا، اغتيال بشير الجميل وداني شمعون وزوجته وولديهما، اغتيالات سياسية متفرّقة لشخصيات فاعلة في المجتمع السياسي اللبناني، ناهيك بملف المفقودين والمخطوفين والمعوّقين وغيرها من الملفات المعلّقة في الفراغ اللبناني القاتل). من هنا، اكتسب الكتاب أهمية مزدوجة: وثّق فصلاً من فصول النزاعات المارونية الداخلية، التي ساهمت في تمزيق البلد وتشريد ناسه وتخريب بناه؛ وقدّم «رواية رسمية» لما حصل في ذلك اليوم، بدا واضحاً أن آل فرنجية أحكموا سيطرتهم عليها، على الرغم من انفلاش الصفحات أمام روايات أناس منتمين إلى الجهة المسؤولة عن المجزرة.
بهذا المعنى، بدا ريشار لابيفيير ناطقاً باسم الزعيم الماروني اللبناني سليمان فرنجية، بدلاً من أن يحصّن مادته، التي استقاها من مصادر ومراجع متفرّقة، من الوقوع في فخّ التبعية الثقافية والأخلاقية، على الأقلّ، للعائلة المعنية مباشرة بهذه الجريمة. فهو، بدءاً من العنوان، أراد ربط «مجزرة إهدن» بـ«لعنة العرب المسيحيين»، متغاضياً عن مسألة أساسية: آل فرنجية ليسوا وحدهم عرباً مسيحيين، لأن الموارنة، كطائفة، منتمية إلى الجغرافيا والثقافة والحضارة العربية، كانتماء المذاهب المسيحية الأخرى، وأبرزها الروم الملكيين الكاثوليك والروم الأرثوذكس. غير أن كاتب النصّ أراد التأكيد أن المجزرة المذكورة أصابت العرب المسيحيين بلعنة، مع أن «لعنة العرب المسيحيين» لم تنتج من هذه المجزرة فقط. ثم إن هناك تغاضياً عن مسألة أخرى لا تقلّ أهمية: يستخدم كتّاب وصحافيون وسياسيون ومثقفون أجانب تعبير «المسيحيين» عند كلامهم على الموارنة، علماً بأن الموارنة مسيحيون وليسوا الـ«مسيحيين».
تفاصيل صغيرة لا يُمكن التغاضي عنها في كتابة تعليق نقدي على «مجزرة إهدن»، أضيفت إليها تفاصيل أخرى مستلّة من داخل النصّ: فعلى الرغم من اعتماده أسلوباً صحافياً مهمّاً للغاية، اعتاد عليه العمل الصحافي الغربيّ، متمثّلاً بالبحث الدؤوب عن المعلومات المختلفة والمتناقضة التي تخدم المضمون الجوهري لبحثه، استفاض ريشار لابيفيير، في الفصول الثلاثة الأخيرة (لبنان المستحيل أو حال البشر، بستانيو جهنم أو اللا استقرار البنّاء، العرب المسيحيون ضد صدام الحضارات)، في تحليله مسائل عربية ودولية لا علاقة لها بمجزرة إهدن، ولا بمتن الكتاب وأبعاده السياسية والزعماتية.
المفارقة الثالثة كامنة في أن أجنبياً، وإن أظهر تعاطفاً مع العرب وأبدى التزاماً يسارياً ما، نبش في الذاكرتين الفردية والجماعية في لبنان، ما يطرح سؤال الغياب اللبناني العمليّ والميدانيّ عن تحقيق مصالحة مع الماضي بفتح أبوابه كلّها، كي يتسنّى للجميع المصالحة مع الآنيّ والمقبل من الأيام. صحيح أن هناك محاولات لبنانية جدّية، في السينما والمسرح والأدب والعمل الصحافي (مقالة وتحقيقات)، سعت إلى كشف «أسرار» لبنانية وعناوين معلّقة؛ لكن الحاجة ماسّة إلى هذا النوع من الكتب أيضاً، التي تحفر عميقاً في الذاكرة، كي تُقدّم مادة حيوية ومهمّة، بدلاً من الاكتفاء بكتب سياسيين لبنانيين سردوا مذكّراتهم، وطرحوا تحليلاتهم الشخصية للأحداث والحكايات، وأخفوا ما رأوه محتاجاً إلى نكتة «الوقت المناسب».
[[[
بعيداً عن ركاكة ما أصابت الترجمة إلى اللغة العربية، ووسمت الكتاب بأخطاء في القواعد واللغة والطباعة (بعض أرقام الهوامش لا علاقة لها بالنصّ والمصادر)؛ بدا كتاب «مجزرة إهدن»، على الرغم من أهمية نبشه الذاكرة وتسليط الضوء على فصل أساسي منها، كأنه أصدر حكمه مسبقاً، وبات عليه أن يؤكّد الحكم. لا تبرئة للقتلة ولا هجوماً على الضحايا ما سبق قوله، بل تعليقٌ على أسلوب يُمكن تبريره بالقول إن الكتاب «رواية رسمية» خاصّة بآل فرنجية. فالتشديد على ملاحظة أن سمير جعجع فُرض على بشير الجميّل في اللحظات الأخيرة، لم تُسند بمعطيات منطقية وبمعلومات حسّية تؤكّد ارتباط جعجع بالاستخبارات الإسرائيلية، أو تُثبت أنه نفّذ رغبة إسرائيلية في شقّ التحالفات المارونية، وإطاحة من وقف سدّاً منيعاً أمام الطموحات الزعماتية والرئاسية والقيادية لبشير الجميّل، ما جعل الكتاب كلّه يميل إلى تحليل سوسيولوجي/ تاريخي/ سياسي/ طائفي/ ديني، بدلاً من التزام البحث الميداني والتحقيق الصحافي ركيزة لتبيان الحقائق كلّها، أو على الأقلّ لتحريك المياه الراكدة في العقل اللبناني المسيّج بالتوافقات الطائفية أو النزاعات المذهبية. ثم إن أحداثاً تاريخية ووقائع معروفة سردها ريشار لابيفيير من دون تعمّق أو توسّع، بدت أشبه بمقالة صحافية، بدلاً من أن تُشكّل مصدراً أساسياً في بناء الكتاب (مجزرة مزيارة، مثلاً، لم تخرج على إطار الدفاع عن آل فرنجية). أضف إلى ذلك أن الصحافي الفرنسي «سخر» من كتابات أخرى وصفها بأنها «روايات متخيّلة» أو «سيرة تجميلية خالية من أي تحفّظ» (كتاب سليم عبو مثلاً، المعنون بـ«بشير الجميل أو روح الشعب»)، انصبّت على قراءة التاريخ الماروني والحرب الأهلية اللبنانية من وجهة نظر مغايرة، بدلاً من أن يُناقش مضامينها ومعلوماتها وتحليلاتها (جوزف أبو خليل، جان لارتيغي، كميل شمعون، وغيرهم).
أياً يكن، فإن أهمية الكتاب متمثّلة في فتح أحد الملفات الضرورية والمهمّة في تاريخ الحرب الأهلية اللبنانية، على الرغم من أن جزءاً أساسياً منه بدا سرداً للعملية من منظور عسكري بحت.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى